على الرغم من الترحيب الحذر الذي أبدته طهران بالمحادثات الاستراتيجية بين واشنطن وبغداد، إلا أن ذلك لم يسهم في التقليل والحد من المخاوف لدى طهران، من مآلات هذه المحادثات وما يمكن أن تسفر عنه من نتائج قد لا تصب في مصلحة نفوذها ووجودها ودورها في العراق، خصوصاً أن هذه المحادثات تقترن مع مؤشرات جدية على تراجع دورها وحضورها في الساحة العراقية وارتفاع مستوى التأييد الشعبي لها، لا سيما في الأوساط التي تعتبرها إلى جانبها من منطلق تاريخي ومذهبي واجتماعي.
فالأسئلة التي تطرحها بعض الجهات المقربة من المرشد الأعلى للنظام الإيراني حول هذه المحادثات، تشكل مؤشراً واضحاً على المدى الذي وصل إليه هذا القلق، خصوصاً أن هذه الأسئلة تدور حول الموضوع الأساسي الذي تتمحور حوله المحادثات التي جاءت بناء على مبادرة أميركية. ومن تلك الأسئلة ما مدى العلاقة والترابط بين هذه المحادثات والاتفاقية الأمنية الموقعة بين الطرفين عام 2008؟ وهل هذه المحادثات ستتأثر بالقرار- التوصية الصادر عن مجلس النواب العراقي في يناير (كانون الثاني) 2020 والذي دعا الحكومة إلى البدء بوضع آليات تسمح بخروج القوات الأميركية من العراق، وهو القرار الذي أقر بعد عملية اغتيال قاسم سليماني في بغداد؟ ولعل النقطة الأهم والسؤال الأبرز في سياق هذه الأسئلة هو المتعلق بحجم الامتيازات التي سيحصل عليها طرفا المحادثات والتهديدات، وحتى الامتيازات التي ستكون من نصيب دول الجوار العراقي وتحديداً النظام الإيراني.
وبعيداً من الموعد الذي حددته واشنطن لانطلاق هذه المحادثات، وبناء على العقيدة الإيرانية التي تقوم على اتهام واشنطن برعاية الإرهاب الإسلاموي وتحديداً تنظيم داعش، فإن طهران ترى أن هذا التاريخ ليس بريئاً أو بعيداً من الاستراتيجية الأميركية في استخدام كل الوسائل التي تخدم مصالحها في السيطرة والهيمنة على المنطقة. وذلك من خلال الربط ما بين موعد هذه المحادثات وتاريخ سقوط مدينة الموصل ومحافظة نينوى في يد داعش في العاشر من يونيو (حزيران) عام 2014. وعليه، فإن هذه الاستراتيجية الأميركية ترفع من مستويات القلق الإيراني بوجود نيات أميركية واضحة بتحويل هذه المحادثات إلى منصة لاستهداف الدور الإيراني في العراق والعمل على إخراجها من المنطقة. فضلاً عن أنها ستعمل على توظيف هذه المحادثات لفرض مزيد من التنازلات على الجانب العراقي من بوابة رفع مستوى المخاطر من عودة النشاطات الإرهابية للحصول على تنازلات سياسية.
وتعتقد هذه الأوساط المقربة من المرشد أن العراق ونتيجة للسياسة الأميركية بالعودة إلى فتح ملف العلاقة الاستراتيجية مع الحكومة العراقية، سيكون أمام واحد من خيارين، الأول الذهاب إلى السير في الركب الأميركي بالكامل، بالتالي الرضوخ لابتزاز واشنطن التي ستضعه بين سندان العلاقة معها ومطرقة عودة الإرهاب، في حين أن طهران، بحسب رؤية هذه الأوساط، هي الاقدر على توفير الأمن للعراق. بالتالي، فإن العلاقة معها تساعد العراق على إرساء الأمن والاستقرار في مواجهة الإرهاب. الأمر الذي من المفترض أن يدفع الجانب العراقي إلى رفض المفاوضات ومغادرة طاولة التفاوض في حال أصر الوفد الأميركي على حصر خيار المساعدة بين الانصياع لرغبة بلاده التي تقايض مسألة قطع العراق لعلاقاته مع إيران مقابل وحدته وتوفير الأمن في مواجهة الإرهاب.
ومكمن القلق الإيراني من المحادثات المرتقبة، في أن تنتهي إلى نتيجة مؤداها التوقيع على اتفاقية تسمح ببقاء القوات الأميركية على الأراضي العراقية وشرعنة هذا الوجود. وذلك نتيجة لضعف الفريق العراقي المفاوض والذي لا يخلو من شخصيات محسوبة على الجانب الأميركي كما تعتقد طهران وأكده الموقف الأخير لميليشيات كتائب حزب الله العراقي التابعة لإيران. إذ طالبت الأخيرة بتغيير بعض الأسماء الممثلة للعراق في هذه المحادثات انطلاقاً من كونها “عميلة” لواشنطن. ما قد ينقل الأمور ليدخل العراق والمنطقة في أزمة حقيقية وتهديد كبير ومباشر، ولن تسهم في حال جرى التوقيع على مثل هذا الاتفاق في حل أي من أزمات العراق، بل ستفاقمها وتجعلها أكثر تعقيداً، والعراق عرضة لكثير من التهديدات، خصوصاً أن هذا الاتفاق سيحرم العراق من أهم داعم إقليمي له- أي إيران- وتحول العراق إلى دولة ضعيفة وفاشلة “يتناهشها” الآخرون في الإقليم. الأمر الذي لن ترضى عنه طهران، وسيدفعها إلى مزيد من الاستنفار من أجل الحفاظ على مصالحها وحماية أمنها بكل ما يستدعيه ذلك من إجراءات قد لا ترضي أو تعجب أصدقاءها العراقيين، بحسب تعبير هذه الأوساط.
ضعف الفريق العراقي المفاوض، بحسب الاعتقاد الإيراني، وعلى الرغم مما يملكه من أرواق قوة يمكن أن يطرحها على الطاولة في ما يتعلق بالجانب الأمني بالاعتماد على ما حققه من إنجازات وانتصارات في معركته ضد الإرهاب وما يؤكده من استعادة عافيته العسكرية وقوة الردع لديه، فإن القلق من إمرار واشنطن اتفاقية بقاء قواتها في هذا البلد قد يأتي من باب استغلال واشنطن أزمات العراق الاقتصادية والمالية، وأن تعمد إلى ربط مسألة التعاون الاقتصادي والسياسي والأمني والصناعي والمالي والثقافي بموضوع الموافقة على استمرار بقاء قواتها. وبذلك تكون قد حصلت على ثمن مرتفع مقابل مسائل يعتقد العراقيون أنفسهم أنها لا تمثل ضرورة ملحة لهم.
وفي قراءة تكشف عن حجم المخاوف التي تشعر بها طهران جراء هذه المحادثات ونتائجها المتوخاة أميركياً، فإن القيادة الإيرانية تربط بين وجودها ونفوذها في هذا البلد وبين كون العراق بلداً قوياً ومستقراً ومؤثراً وصاحب دور استراتيجي ومحوري في الإقليم. من هنا، فإن واشنطن ولمواجهة ما أقره البرلمان العراقي والتزام الحكومة تنفيذه، ستعمد إلى لعبة شراء الوقت بإعلان موافقتها على الانسحاب واللجوء إلى التسويف في التنفيذ في انتظار حصول تطورات تسمح لها بتثبيت هذا الوجود واستمراره. وفي حال قايضت حكومة مصطفى الكاظمي التعاون الاقتصادي والمالي بالتغاضي عن استمرار وجود القوات الأميركية، فإنها سترتكب خطأ فادحاً، وستكتشف أن الجانب الأميركي لن ينفذ أياً من الاتفاقيات الموقعة، وسيعمد إلى تعزيز هيمنته ومصادرته القرار العراقي وثرواته.
وإذا ما كانت طهران تتهم واشنطن بأنها تريد جر العراق إلى دائرة التأثير والمصادرة الأميركية وتحويله إلى أحد أضلاع مشروعها في غرب آسيا والذي يتطلب حصول تحول استراتيجي في الموقف العراقي، فإن ذلك يشكل أحد روافد القلق والخوف الإيراني الواضحة، لأن خروج العراق من تحت المظلة الإيرانية يعني تهديداً مباشراً للاستراتيجية الإيرانية في الإقليم وسيلحق ضربة قاسية في مشروعها الممتد عبر العراق إلى سوريا ولبنان وصولاً إلى فلسطين. وطهران لن تقبل بأن تعود العلاقة مع العراق إلى مرحلة الصراع العثماني القاجاري الذي حصلت بموجب نتائجه غير الإيجابية عسكرياً على دور في الجانب المذهبي الديني والعلاقات الاجتماعية والسياسية غير المقررة. وهو ما لا يمكن أن ترضى به طهران لأنه يؤسس لخسارة من الصعب تعويضها في سياق تكريس دورها ونفوذها الإقليمي من البوابة العراقية لمصلحة “العدو الإسرائيلي” وخصومها من الدول العربية.
النقطة الأخطر في سياق المخاوف التي تحدثت عنها هذه الأوساط، ما يتعلق بالداخل الإيراني الذي يدخل في إطار الصراع بين أطراف النظام وأقطابه، واتهامها أطرافاً إيرانية بأنها تدفع بالجانب العراقي إلى التخلي عما تعتبره أهدافاً استراتيجية، والمضي في المحادثات والتوقيع مع واشنطن على اتفاقية أمنية عسكرية من منطلق أنها تساعد من خلال موقع العراق الاستراتيجي والحساس في المنظومة الإيرانية الإقليمية في فرض تغيير وتحول في سياسات إيران الإقليمية. ما يفرض على القيادة الإيرانية والجهات المعنية بالساحة العراقية مزيداً من الاستنفار لقطع الطريق على محاصرة إيران وتقليم نفوذها ودورها الإقليمي والتخلي عن طموحاتها الاستراتيجية. وهو ما قد يكون صعباً عليها القبول به، وقد يدفعها إلى اتخاذ خطوات تحمل كثيراً من المخاطر لمنع حصوله.
المصدر: اندبندنت عربية