تحدثنا في المقالة السابقة عن منطلقات الربيع العربي ، والصراع الذي لم يعرْه الثوارُ اهتمامًا بين حركة التسريع وحركة التباطؤ في مجتمعاتنا، وتحدثنا عن شعور الاستلاب أو اللامبالاة التي بدأت تتملك إنسان الحداثة المتأخرة الغربي، والتي هي حالة أصيلة في الإنسان العربي عبر عصور ماقبلَ الحداثة, الحداثة التقليدية والحداثة المتأخرة، وتنبأنا بالتعديلات التي سوف تشهدها قريباً نظمُ الحكم في دولنا والتي لن تكون مبررة بإرادة الحصول على دول أفضل أو إنسان عربي أكثر حرية بل سيكون محركُها الرئيسي هو الخوف من التهديد بعدم القدرة على حماية النظام السياسي المدعوم غربياً، وهذا لن يتأتى إلا بتحطيم وتشريدٍ أكبرَ للمجتمعات، وتعويم وتسييل ما تبقى من مؤسسات الدولة ، كما يحدث الآن في لبنان والسودان ومصر وليبيا وقريباً في دول الخليج العربي ! وبما أن الثوار الحقيقين -في الوضع الراهن- يعيدون تقييم الأمور ويجتهدون في البحث عن مواطن الخلل والمخارج لما يحاك في أقبية الاستخبارات والمؤسسات الغربية ، فمن واجبنا تحديدُ الأولويات ، والأجابة عن الأسئلة الجوهرية ومنها: هل كان شعارُ” عيش حرية عدالة اجتماعية” ، نموذجاً غيرَ متجانس ، يعجز عن تحديد الجوهر من القشور ؟ وللإجابة عن الأسئلة لابدّ من استدعاء التجارب السابقة للثورات العالمية وقياسها بالمقياس الغربي أولاً ومن ثمة بمقياسنا الخاص ، لكي نتعلم الدرس الذي دفعنا ثمنه سلفاً دون أن نجني فؤائده؟!
في عام 1963 أصدرت عالمة السياسة الألمانيّة – الأميركيّة هنه أرنت Hannah Arendt كتابها «في الثورة»، الكتاب يتحدّث عن ثلاث ثورات، الأميركيّة والفرنسيّة وثورة المجالس التي انتهت نهايات تراجيديّة، لكنّها عَدَّتِ الأخيرة النموذج المتفوّق الذي يتيح للجميع المشاركة في تقرير مصير البلد،فعبر تلك الهيئات يؤثّر المواطنون على الأجسام السياسيّة الأعلى، وعبر الفيدراليّة يُحَدّ من قوّة السلطة فتراقبها سلطة أخرى وتوازنها. فدولة المجالس تبقى الشكل الأقرب لحكم الشعب ذاتَه بذاته، عبرها ينظّم الناس أنفسهم عفويّاً بمعزل عن قيادة أو خطّة حزبيّة ما. وهذا إنّما يناقض الموديل الثوريّ للقرن العشرين حيث ثمّة خطّة تُفكَّر وتُنفَّذ ببرودة وخطوات علميّة.
هدف الثورة -بحسب أرنت- كان وما يزال الحرّيّة، والمقصود تحديداً الحرّيّة السياسيّة المغايرة لما تسمّيه مفهوماً فلسفيّاً وداخليّاً للحرّيّة أو إرادة حرّة لا تكفي حتى لتحرير صاحبها. فالحرّيّة العامّة ومجالسها المنتخبة هي «الكنز المفقود» و«الروحيّة الثوريّة» اللتان ينبغي استعادتهما.
ينبع تفضيل هنه أرنت للثورة الأميركيّة من كونها ظاهرة سياسيّة تخلق حيّزاً عامّاً، فيما يؤدّي تصدّر المسألة الاجتماعيّة إلى تدمير السياسة. ولأنّ المسألة الاجتماعيّة لم تُطرح إلاّ لماماً في أميركا أمكن للثورة السياسيّة أن تتحقّق، وكان ما ساعدها أنّ الفقر وعدم المساواة ليسا كبيرين كما في أوروبا فإمكانية تملّك الأرض واستثمارها، جعلت الناس احراراً يحضرون الاجتماعات العامّة وينظرون إلى أنفسهم كمواطنين، أي كجزء فاعل من الفضاء العامّ. (Public world or public issues)
هنه أرنت لم تناوئ حلّ المسألة الاجتماعيّة، لكنّها حرصت على ألّا تحلّ محلّ المسألة السياسيّة، تمهيداً لمعالجتها عبر إصلاحات إداريّة. إلى ذلك عرفت أميركا ملايين العبيد ممّن لم يتملّكوا ولا تمتّعوا بالمواطنيّة وكانت نسبتهم أعلى من نسبة البائسين في فرنسا. ولئن اعتبرت أنّ تجاهل العبيد وجعلهم «غير منظورين» هي «الخطيئة الأصليّة» للثورة الأميركيّة، رأت أنّ ما حدَّ من الضرر هو بقاء الحرّيّة أمّ المسائل. هكذا أطلق الأميركيّون ثورة وسنّوا دستوراً هدفهما خلق عالم يستطيع مواطنوه أن يتصرّفوا ويتكلّموا ويكونوا أحراراً، فيما يضمن حرّيّتَهم نظامٌ يشجّع على التعدّد في مراكز القرار، وموقعٌ منزّه للمحكمة الدستوريّة يفصل مصادر القانون عن مصادر السلطة.
هنه أرنت كانت متشائمة في شأن مستقبل أميركا:لأنها لم تُخلَق مؤسّسات تزدهر بها الحرّيّة العامّة، فيما استُنزف الجهد كلّه في خلق مؤسّسات محافظة وتوطيدها، بحيث انتُزع ما كان للسكّان والهيئات المحلّيّة من سلطة. وعند أرنت، لابدّ من ثورة غير عنفيّة متواصلة لتزييت آلة الحرّيّة وإبقاء المؤسّسات وفيّة لزمن الثورة الأوّل ولتوسيع المشاركة الشعبيّة.
في المقابل، تغيّرت بؤرة التركيز في سياق الثورة الفرنسيّة: فبدل التحرّر من الطغيان حلّ التحرّر من الحاجة. وبوقوع الثورة والثوار في هذا «الفخّ»، انتهى ما بدأ طلباً للحرّيّة ليكون موضوعاً اجتماعيّاً.والفرنسيّون كانوا فقراء قياساً بالأميركيّين، مع هذا فبداية ثورتهم عرفت تنظيمات جمهوريّة وانتخاباً لضبّاط وقيادات وإنشاءً لبُنى المشاركة الشعبيّة. لكنْ، وكما في سائر التجارب، هزمت الحكومةُ المركزية المجالسَ في واقعة مأساويّة أخرى.
عداء أرنت لأولويّة مسألة الفقر حادّ وقويّ. فهذا ليس كلّ ما يحتاجه الناس، بل ليس كلّ ما يريدونه، وهدف الفقراء ليس «لكلّ حسب حاجته» بل «لكلّ حسب رغبته»، وبالمعنى نفسه فالشيوعيّة ليست سيّئة بسبب فشلها في تحقيق الازدهار بل لاستبدادها وتقويضها الحرّيّة.
كسرت أرنت احتكار التأويل اليساريّ للثورة، وخرجت بنظريّة ليبراليّة عنها، وإن كانت غير متّفق عليها بين الليبراليّين. وهي نظريّة قابلة للجدل، يخفّف من وهجها أنّ تجارب المجالس كلّها، وبأشكال مختلفة، أخفقت، بينما يعزّزها ويقوّيها ذاك الإلحاح الراهن على ضرورة إعادة اختراع التمثيل الديمقراطيّ الشائخ.
كل ماذكرناه آنفاً هو تقييم لأولويات الثورات بالمنظور الغربي ، لكن هل يمكن اسقاط هذا التحليل على الربيع العربي ؟ لا شك أن العيش (الحياة الكريمة) والحرية شيئان متلازمان ، لكن الحياة الكريمة لم تؤدِ الى الحرية في بلادنا العربية ، والأمثلة كثيرة لمن أراد ألا يغمض عينيه عن الحقيقة ، لكن بكل تأكيد فإن الحرية ستؤدي إلى الحياة الكريمة ، كما تشهد على ذلك حالاتٌ محدودةٌ سعى أعداء الثورة لإجهاضها قبل أن تكتمل مثل تجربة سوريا ولبنان في فترات تاريخية معينة .السؤال الثاني هل الأفضل مركزية مؤسسات الثورة أم تجربة المجالس المحلية ؟ لا يبدو -حتى في الغرب- ان هناك تجارب ناجحة للمجالس المحلية في محاربتها ومقارعتها للنوادي المغلقة للمؤسسات المركزية مع وجود بعض الحالات الشاذة مثل التجربة السويسرية ! أما تجربة المجالس المحلية في دول الربيع العربي وتحديداً في سوريا الخارجة عن سيطرة النظام فتعرضت للتلاعب من قبل أطراف كثيرة ولأسباب كثيرة لا يتسع البحث في أسبابها الآن ، ولكن هذا لا يعني فقدّ المجالس المحلية المنتخبة لجاذبيتها خصوصاً في الدول الفاشلة التي ستدخل أغلب الدول العربية تحت هذا التوصيف في المستقبل القريب !
الحرية يجب أن تبقى أمّ المسائل و أمّ المعارك حتى يصل الثوار الحقيقيون لغاياتهم ولا يضيعون البوصلة ، وعندها يسقط المتسلقون والمتلونون أمام وضوح الهدف ونقاء الرؤية.