أميركا هي الطاعون

عبد الحليم قنديل

    فى استهلالها البديع لكتاب ” لكل المقهورين فى الأرض أجنحة ” ، تتذكر الروائية المصرية الراحلة رضوى عاشور حكاية من التراث الشعبى الأفريقى الأمريكى، عنوان الحكاية الشفهية “لكل أبناء الرب أجنحة” ، وتروى عن سالف الأيام ، حين كان لكل الأفارقة أجنحة ، وكانوا يستطيعون التحليق كالطيور ، وكانت امرأة أمريكية من أصل أفريقى فى أسر الاستعباد ، تعمل فى مزرعة السيد الأبيض ، ولم تكن قد تعافت بعد من آلام الوضع ، وكان صغيرها يصرخ ، فترفعه إليها لترضعه ، ويراها سائق العبيد ، ويضربها لترك العمل ، فتسقط على الأرض من شدة الوهن ، وتتعرض للضرب من جديد ، وإلى أن كادت عيناها تغيم من القهر ، فتتطلع إلى شيخ أفريقى مستعبد مثلها ، تسأله “هل حان الوقت يا والدى ؟” ، يجيبها الشيخ “حان الوقت يا ابنتى” ، فإذا بالمرأة تطير ، وقد نبتت لها أجنحة ، وتتكرر الحكاية نفسها مع آخرين ، يسألون الشيخ ويجيبهم ، وبلغة لا يفهمها سادة المزرعة ، فإذا بكل العبيد يطيرون ، الرجال يصفقون ، والنساء يغنين ، والأطفال يضحكون ، وقد أصبحوا أحرارا  فى سماء الله ، حتى الشيخ نفسه يطير ، بعد أن اتجه إليه صاحب المزرعة لقتله ، فقد أنجته الذاكرة الخيالية الجماعية ، والحلم الكامن بالتحرر الذاتى من العبودية .

  نفس الحلم الذى راوغ “جورج فلويد” فى دقائق حياته الأخيرة ، وهو ملقى ببطنه على الأرض ، والشرطى الأمريكى الأبيض “ديريك شوفين” يضغط بركبته الثقيلة على رقبته ، والأسود “فلويد” يختنق تدريجيا طوال ما يقرب من تسع دقائق ، وصوته المتحشرج يتوسل عطف الشرطى ، وينبهه “لا أستطيع التنفس” ، ويرجوه “لا تقتلنى” ، بينما الأبيض المتعجرف يتمنطق مسدسه ، ويضع يده فى جيب بنطاله مزهوا ، وكأنما يؤدى عرضا سينمائيا هوليووديا ، ويمنع معاونوه المارة من الاقتراب ، ويغيب صوت “فلويد” ، بعد أن يهمس بكلمته الأخيرة “يا أمى” ، فقد كان ذاهبا إلى أمه فى السماء ، يطير ، كما طار إلينا فيديو موته القاسى ، بعد أن أرهقته الأرض ظلما ، وفى بلد يصف نفسه بأم الحريات وأرض الأحلام السعيدة (!) .

  نعم ، فالقصة ليست مجرد تفرقة عنصرية ، لن يعدم أحد وجودها فى أى بلد على خرائط الدنيا اليوم ، وبأسباب اختلافات اللون أو الجنس أو الدين أو الطائفة ، وعندنا وعند غيرنا منه ، ما هو أكثر من الهم الرازح فوق القلب ، لكن القصة العنصرية فى أمريكا مختلفة ، فهى ملازمة لهذه “الأمريكا” منذ وجدت ، فقد قامت فى الأصل على إفناء مئات الملايين من “الهنود الحمر” سكان الأرض الأصليين ، ومن وراء لافتات دينية ، زورت صورة السيد المسيح ، وجعلته عنوانا للعنف والقتل الهمجى ، وبادعاء التحضر ورسالة “الرجل الأبيض” ، ذهبت حملات اصطياد العبيد من أفريقيا البعيدة ، وحشرهم فى سفن عبر المحيط الأطلنطى ، وحين كسبت أمريكا استقلالها ودستورها ، لم يفتح الرؤساء الأمريكيون الأوائل ملف استرقاق السود ، وإلى أن جاء الرئيس السادس عشر إبراهام لينكولن ، وأعطوه لقب “محرر العبيد” ، ثم اغتالوه عام 1865 ، وكان أول رئيس أمريكى يلقى مصير الموت غيلة ، بينما مات المؤسس والرئيس الأول جورج واشنطن على فراشه الوثير عام 1799 ، بعد أن لم يجرؤ على معارضة قرار الكونجرس القاضى بحرية استملاك العبيد .

  إنها أمريكا التى “هى الطاعون” بوصف محمود درويش ، قتلت وتقتل عشرات ملايين البشر خارج حدودها ، وقتلت وتقتل الملايين داخلها ، ومن وراء أقنعة وأصباغ ثقيلة ، صورتها كبلد أحلام ، بينما لا تحمى سوى مزارع القتل ، وقد دمروا حضارات الهنود الحمر فى حملات همجية غير مسبوقة ولا ملحوقة ، ودون أن تنزل عليهم دمعة ، إلا على سبيل تذكر مآثر القتلة الرواد الأوائل ، فيما استعصى الأمريكيون الأفارقة على الفناء بالقتل على كثرته ، وظلوا على مدى نحو ثلاثة قرون ، هدفا لاضطهاد وحشى ، اختلفت صورته ، لكن لم تخف وطأته ، فهو عنف ممنهج لصيق ببنية النظام الأمريكى ، حتى فى زمن باراك أوباما ، الذى كان أول أمريكى من أصل أفريقى يصل إلى سدة الرئاسة ، لم تمنع رئاسته قتل السود بالمجان ، وعلى يد الشرطة الأمريكية كالعادة ، وعلى نحو ما جرى للأمريكى من أصل أفريقى “مايكل براون” عام 2012 ، الذى قتل بطريقة مشابهة لمقتلة “جورج فلويد” أخيرا ، وكان تعليق أوباما على مقتل “فلويد” كاشفا ، إذ قال ما خلاصته: لقد فشل الرؤساء جميعا فى وقف القتل العنصرى ، فما بالك بدونالد ترامب الملياردير اليمينى العنصرى ، الذى يؤمن بتفوق البيض ، ويعتبر العنصريين شعبه وقاعدته الانتخابية الصلبة ، ويهدد المتظاهرين بالقتل ، ونهش الكلاب الشرسة ، ويباهى بقواته فى الشرطة وجهاز الخدمة السرية والحرس الوطنى التابع للجيش ، وينعى على بعض المتظاهرين عنف غضبهم ، ويصور حركة “أنتيفا” كمنظمة إرهابية ، وهى جماعة محدودة مضادة للفاشية ،  لا يصدق عاقل أن المظاهرات الضخمة من صنعها ، ولا أنها أشعلت غضب الناس فى مئة مدينة أمريكية ، وفى صورة جارفة مدفوعة بألم إنسانى طافح ، قد تكون تخللتها أعمال سرقة وانفلات وتحطيم ، ربما لأنها لم تجد أحدا فى السلطة الأمريكية يؤازر غضبها ، ويهدئ النفوس ، ويتعهد بالقصاص للمخنوق علنا “جورج فلويد” ، لا لذنب معلوم أو معتبر ، سوى التعامل بورقة مالية مزورة من فئة العشرين دولار كما يزعمون ، بينما يجد القاتل الهمجى من يدافع عنه ، وقد يجعله بطلا على طريقة عصابات “الكلوكلوكس كلان” ، التى تعتبر قتل السود مهمة ربانية ، وقد قيل أن هذه العصابات اختفت ، وإن ظلت عقيدتها راكزة فى جهاز الشرطة وأجهزة الأمن الأمريكية ، وبدلا من التعهد باقتلاع العنصرية القاتلة ، وتغليظ العقوبات على جرائمها ، وتحقيق العدالة كشرط لسلام المجتمع ، لجأ الرئيس الأمريكى ترامب إلى التهديد بقتل المتظاهرين بالجملة ، واستدعاء قوات الجيش الأمريكى برغم معارضات البنتاجون ، بعد إطلاق النار على المتظاهرين ، وبعد اعتقال الآلاف ، وترويع الصحفيين بالرصاص المطاطى ، ودهس الناس بالشاحنات ، وفرض حظر التجول ، وبأسلوب التزييف نفسه ، الذى اعتاده صناع أمريكا الأوائل ، وقف ترامب أمام كنيسة “سانت جورج” القريبة من البيت الأبيض ، ورفع نسخة من “الإنجيل” بيده اليمنى فى حركة استعراضية ، وبدا كجنرال أحمق ، وهو يزهو بقواته الكفيلة بفرض الأمن ودحر الغاضبين .

  وكثيرا ما حاول السود تحدى قوة النظام العنصرى ، أو الانسلاخ عنه باستنفار القوة السوداء ، وعلى نحو ما فعلت جماعة “أمة الإسلام” التى يقودها اليوم “لويس فاراخان” ، وكان أسسها “إليجا محمد” ، الذى استراح لنوع من الإسلام الخلاصى المهدوى ، ومواجهة العنف العنصرى الأبيض بالعنف الأسود ، وهو ما طوره تابعه “مالكولم إكس” ، الذى رفع شعار أفضلية السود على البيض ، ونادى بإقامة كيان مستقل للسود فى أمريكا ، قبل أن يراجع أفكاره مع الحج إلى مكة المكرمة ، واعتناقه للإسلام السنى ، وميله إلى التجاوب أكثر مع خطة مارتن لوثر كينج الإبن ، وقد اغتيل “مالكولم إكس” بظروف غامضة عام 1965 ، فى حين تأخر موعد اغتيال مارتن لوثر كينج الإبن إلى عام 1968 ، كان مارتن قسا مسيحيا بروتستانيا ، وأغلب السود فى أمريكا يعتنقون المسيحية ، وكانت طريقته سلمية تماما ، استوحت سيرة المهاتما غاندى الهندية ، وقاد مارتن حملات مقاطعة ومسيرات كبرى من أجل اكتساب الحقوق المدنية للسود ، وحصل فى الخامسة والثلاثين من عمره على جائزة “نوبل” للسلام عام 1964 ، وقاد مظاهرات كبرى شارك فى إحداها مائتان وخمسون ألفا ، وبرغم سلميته الفائقة ، لم يسلم مارتن من الأذى الدائم ، وأحرقوا بيته مرات ، وكان خطابه الشهير “عندى حلم” ، هو السبب الأظهر لاغتياله على يد مجرم أبيض هارب من سجنه ، مع أن مارتن كان يحلم فقط بأن يتساوى أبناء العبيد مع أبناء السادة القدامى ، وأن يجلسوا معا فى سلام ، وقد حققت حركة الحقوق المدنية عددا من الإنجازات ، وأصدر الرئيس الأمريكى ليندون جونسون لوائح مساواة مدنية عام 1968 ، سمحت للسود بتأكيد حقوق التصويت والترشح والتعليم ، لكنها لم تقتلع العنصرية الكامنة فى بنية النظام الأمريكى ، فقد ظهر من السود نجوم لامعة فى الحياة الأمريكية ، لكن غالبيتهم الساحقة ظلت على بؤسها وفقرها ، فالأمريكيون من أصل أفريقى يشكلون نسبة 13% من إجمالى السكان ، لكن نسبتهم تصل إلى 40% من نزلاء السجون ، وإلى 30% من ضحايا جائحة كورونا ، التى لم يفلح ترامب فى مواجهتها ، ولا فى لجم ميوله الطبقية والعنصرية القاتلة ، وقد يذهب ضحيتها .

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى