مع دخول الألفية الثالثة، احتفظت “المقاومة” بالمسمى بعيداً من الممارسة. فبالشكل، يبدو حزب الله “مقاومًا شرسًا” ضد الاحتلال الإسرائيلي “في سبيل تحرير الأرض”. أما عملياً، فلا ينطبق هذا التوصيف على ما يحصل في واقع الحال. وبعد التدقيق، تتبين فجوة واسعة بين ما يرفع من شعارات ويقال، وبين ما هو على أرض الواقع.
منذ اتفاق بكين، يحاول حزب الله إظهار بأنه غير معني بالاتفاق ولا يشمله ولا ينطبق على الحالة اللبنانية، كما يرفض أن يعكس مفاعيل التهدئة الناتجة عنه على لبنان. حاله حال طهران التي تسعى أكثر فأكثر لإظهار سطوتها وسيطرتها على السياسة اللبنانية وكأنّ البلاد “ستبقى” ساحة خلفية لحزب الله الذي يدير لها سياستها بما له من فائض قوة ناتج عن سلاحه وصواريخه.
يسعى حزب الله ـ وإن رحب “علنا” باتفاق بكين ـ لان يطرح نفسه كقوة إقليمية (لبنان وسوريا واليمن والعراق وصولا حتى عملية مجدو داخل إسرائيل) ويتطلع لأن تبادر المملكة العربية السعودية على محاورته مستندا إلى أنه خفف الوجود الإعلامي الحوثي المرئي والمسموع والمكتوب في لبنان، (رغم إبقائه على الإعلام البحريني وعلى وجود المعارضة البحرينية داخل الضاحية الجنوبية).
يخفي حزب الله وراء أكمّة اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل البنود السرية لهذا الاتفاق الذي لاقى الترحيب في الدوائر الأميركية كما لدى الدولة الصهيونية العميقة لدرجة أن المتطرف نتنياهو غيّب مواقفه المنتقدة للاتفاق التي ساقها قبل الانتخابات الأخيرة، معتبرا “أن ما بعد الحملة ليس كما قبلها”.
في الموازاة، وعلى غرار قادة تل أبيب تلتزم الضاحية الجنوبية الصمت عن ترك إسرائيل تنقب عن الغاز والنفط في مربعاتها الحدودية الشمالية وتنتجها وتصدرها، فيما وعود نجيب ميقاتي المساقة كل 3 اشهر بقرب وصول بواخر توتال للتنقيب تبقى مثالا للوعود “العرقوبية” التي طال انتظارها، ومعها طال رضى حزب الله وإن تظاهر بقلة صبره .
مع تطورات الانتخابات الرئاسية في لبنان وقيام جبهة عريضة تمتد من الحزب الاشتراكي وصولا إلى بكركي، مرورا بقوى سنية وطنية وتغييرية وإجماعًا مسيحيًا، يواجه حزب الله صداً لمحاولة فرض إرادته على المكونات اللبنانية وجعل اللبنانيين كافة أمام “إما اختيار فرنجية أو لا رئيس”. فنتائج الجلسة 12 وأرقامها كذبت مياه غطاس الحزب ولم تجعل فرنجية متفوقًا ولو بفارق ضئيل عن المرشح جهاد أزعور .
زاد من هذه الأجواء غير المواتية لرياح حزب الله الداخلية، صدور القرار الاتهامي عن قاضي التحقيق العسكري الأول فادي صوان بجريمة قتل حزب الله للجندي الأممي الإيرلندي، واتهام الحزب بـ”تأليف جماعة مسلحة من الأشرار قتلت الجندي وأصابت رفيقيه إصابات بالغة”، مطالبا بـ”محاكمة خمس عناصر من الحزب بأفعال القتل عمدا ومحاولة القتل وتأليف عصابة مسلحة وحمل السلاح غير المرخص”. وتبع صدور القرار الاتهامي المشار إليه، مطالبة قوات اليونيفيل والأمم المتحدة والكتيبة الإيرلندية بتسليم الجناة الباقين ومحاكمتهم تحت أنظار الداخل والخارج، فازداد الضغط على حزب الله مما جعله يتحرك في كفرشوبا لإحراج قوات اليونيفيل وإلزامها بالتراجع عن طلبها وإلا يهدد بوضع كامل مهمتها على بساط البحث .
كما درجت العادة، خلال شهري حزيران وتموز من كل عام، وقبل تجديد مجلس الأمن لقوات اليونيفيل في شهر آب، يمارس حزب الله ضغطه الشديد من خلال التحركات العسكرية أو المدنية على الحدود والخط الفاصل لعدم تمرير المجلس أي تعديلات على قواعد عمل قوات حفظ السلام، وعدم توسيع صلاحياتها، وعدم توسيع نطاق عملها أو نوعية سلاحها .
خلق حزب الله الى جانب حزب السلاح، “حزب الأهالي” بجعل أبناء القرى والمدن رأس حربة في تحركاته عندما لا يرغب بظهوره المباشر، كما حاول أن يظهر في جريمة العاقبية. وفي تحرك كفرشوبا الأخير، أوجد كذلك حزب البلديات واتحاد البلديات إلى جانب حزب الاهالي وحزب السلاح. حرّكهم جميعا بحجة قضم إسرائيل للأراضي، بينما كان الاحتلال يضع شريطا شائكا على الخط الازرق (الذي أشرفت السلطة اللبنانية حليفة حزب الله وبرضاه عام 2000 على وضع نقاطه). دفع حزب الله بهؤلاء جميعا ووتر أجواء الصيف والسياحة والاصطياف ورحلات الطيران لتنفيذ أجندته بوجه اتفاق بكين، وبوجه قوات اليونيفيل، وبوجه من لا يؤيد انتخاب سليمان فرنجية، وبالطبع تغطية للبنود السرية في اتفاق ترسيم الحدود البحرية وللقول: بأنه ما زال متمسكا بسلاحه “لأنه حزب مقاوم”. وبالمقابل لا يطالب من حليفه في دمشق بإبلاغ الأمم المتحدة بما يتعلق بـ”لبنانية” أراضي شبعا وكفرشوبا لكي يوضع القرار ٤٢٥ الصادر عن مجلس الأمن موضع التنفيذ .
هذه تجليات سياسة حزب الله من البلوك الرقم ٩ حتى تلال كفرشوبا، دخان كثيف لأجندة مختلفة .
المصدر: جسور