لم يكن هناك شيء أسهل علينا في صفوف الدراسة من اكتساب الأصدقاء، كان الأمر يحدث ببساطة، وسريعا يتحول زميل نعرفه بالكاد منذ أيام إلى صديق نألفه ونحبه، احتفظ أغلبنا بصداقات الطفولة، غير أن هؤلاء الأصدقاء الأعزاء يتساقطون يوما بعد يوم كلما تقدمنا في العمر، ربما بسبب بأعمالهم وأسفارهم وأسرهم الخاصة، فيما بات الحفاظ على الصداقات يتطلب جهدا أكبر. ومع شعورنا بالفراغ صرنا نتساءل: لماذا نصبح أكثر وحدة كلما تقدمنا في العمر؟ ولِمَ صار اكتساب الأصدقاء أصعب؟ هل فقدنا مهارة كسب الأصحاب التي لازمتنا في الطفولة؟
أين يذهب الأصدقاء؟
يشرح روبين دونبار، عالم النفس التطوري في جامعة أكسفورد، في كتاب “الأصدقاء: فهم قوة أهم علاقاتنا”، كيف تبدو دائرة الأصدقاء، تلك الدائرة التي يحتل أطرافها عادة المعارف البعيدون، وبالاتجاه نحو مركزها يوجد الأصدقاء، ثم أفضل الأصدقاء، ثم الأصدقاء المقربون.
وفقا لدونبار، في بداية سن المراهقة وأوائل عقد العشرينيات، نعتاد تغير قائمة معارفنا ما يعني تغير أطراف الدائرة باستمرار، وحين نصل إلى الثلاثينيات من العمر، تبدأ أطراف تلك الدائرة في الانحسار، ويروق لأغلبنا تخصيص وقت أكبر مع القابعين في المركز، أي الأصدقاء المقربين.
في هذه المرحلة أيضا، وصعودا نحو العقد الرابع من العمر، نصبح أكثر استقرارا في أعمالنا وأقل إقبالا على التجارب الجديدة، ولا تعود لدينا الفرصة للتعرف على أشخاص جدد بالثراء ذاته الذي اختبرناه في صفوف الدراسة ثم الجامعة، يشرح دنبار هنا ما يُطلق عليه “تأثير الدومينو”، الذي يحدث بدخول شخص جديد إلى الدائرة، حين يتخذ أحدنا قرارا بالزواج مثلا، يخصص وقتا كبيرا للتعرف على الطرف الآخر، الذي يحتل غالبا مكانا في مركز دائرة الأصدقاء أيضا، وحينها يخرج من الدائرة صديق أو اثنان، أو يتزحزح مكانهما فيصبحان في مكان أبعد عن مركز الدائرة.
ثم تأتي مرحلة إنجاب الأطفال التي تعطل الغالبية عن الاندماج في الحياة الاجتماعية، هكذا تتضافر العوامل ليتقلص قُطر الدائرة وتتآكل الطبقات الخارجية منها مع تقدمنا في العمر، لينتهي الأمر بمَن يعيشون طويلا بالاحتفاظ بالكاد بصديق أو اثنين. (1)
صحيح أن صداقات الطفولة غالبا ما تكون سطحية ومتقلبة، لكنها تصبح أقوى عبر شهور وسنوات تالية، والأهم أنها كانت تجري بسلاسة وتلقائية يسَّرتها حداثة السن، لكن ما يحدث مع مرور السنوات أمر مختلف؛ في مرحلة ما نعتقد أن لدينا أصدقاء بالفعل، فنتوقف عن منح أشخاص جدد فرصة الاقتراب، رغم أن كثيرا من علاقاتنا لم تعد قوية أو حتى كافية كما كانت، إذ تختلف الاهتمامات أحيانا، وتختلف بالطبع قدرتنا على التواصل، لكن لماذا لا نمنح آخرين فرصة الاقتراب ليصبحوا أصدقاء؟ (2)
الفراغ وبراءة الطفولة
السبب الأول وراء ذلك ترصده دراسة نشرتها مجلة “برسوناليتي آند إنديفيديوال ديفرانسز” (Personality and Individual Differences) عام 2020، وفيها وجد الباحثون أن التحدي الأصعب الذي يَحُول دون اكتسابنا للأصدقاء حين نصبح بالغين هو الثقة، وهو أمر يفسر سبب تمسك كثيرين منا بأصدقاء الطفولة، لقد بُنيث الثقة في سنوات، والثقة عملة نادرة في عالم الكبار، لذا نشعر بأننا لن نجد مثل أصدقاء الطفولة. (3)
يعني كوننا “بالغين” أننا اكتسبنا وعيا أكبر، وهذا الوعي ذاته هو الذي يجعلنا أكثر عُرضة لمخاطر الحكم المسبق على الآخرين، كما نكون أكثر معرفة باحتمالات التعرض للأذى، والرفض أحيانا، لقد تعرض بعضنا لذلك بالفعل في مرحلة سابقة، وهذا يتناقض مع مرحلة الطفولة التي لم يكن لدينا فيها كل هذه الخبرات السيئة.
ضيق الوقت سبب مهم ثانٍ لعدم قدرتنا على اكتساب أصدقاء بالسلاسة ذاتها التي ميزت طفولتنا، لدينا -نحن البالغين- عملا يتطلب ساعات، وحياة عائلية نجاهد لنُفرِّغ لها وقتا، والوقت المتاح لكي نستثمره في التعرف على أشخاص جدد يصبح أقل مع تزايد التزاماتنا، وفي تقدير العلماء لكي يصبح شخص ما من معارفنا بمكانة صديق، نحتاج إلى ساعات من التعارف والتواصل. (4)
وفق الدراسة التي نشرتها مجلة “جورنال أوف سوشيال آند برسونال ريلاشنشيبس” (Journal of Social and Personal Relationships) عام 2018، يُقدِّر الباحثون تلك الساعات بنحو 50 ساعة من التواصل اللازم ليصبح شخص ما صديقا، ولكي يصبح صديقا مقربا فإننا في حاجة إلى أن نقضي معه نحو 200 ساعة على الأقل، وعلينا ألا نغفل هنا أيضا أهمية جودة التواصل، فنحن نوجد مع زملاء العمل ساعات طويلة لكنهم لا يصبحون أصدقاء مقربين إلا حين يصبح التواصل شخصيا. (5)
ومصادفة لا تأتي
بعد ذلك، نشير إلى عامل آخر كان ميسرا لنا في مرحلة الطفولة، لكننا نفتقده عند الكبر، إنه المصادفة. فيما مضى، كان لدينا ساعات وساعات يمكننا أن نقضيها في مكان واحد بلا هدف محدد، لكنّنا نحن البالغين موجودون مع معارفنا لأجل هدف محدد، في مكان العمل أو مكان دراسة، ونفترق مباشرة بعد انقضاء هذا الغرض.
في كتاب “الصداقة الأفلاطونية: كيف يمكن لعلم التعلق أن يساعدك في تكوين صداقات والحفاظ عليها”، تؤكد ماريسا ج فرانكو، أستاذة علم النفس بجامعة ميريلاند، أننا نفتقد في الكبر للبِنات الأساسية للصداقة، وهي التفاعل المستمر غير المخطط له، واكتشاف نقاط ضعف مشتركة، حين نصبح أكبر، تقل البيئات التي تتميز بهذا الطابع، لا نخشى قدوم موعد الاختبارات، ولا نُخفي عن الكبار شيئا يمتعنا أن نتعاون في إخفائه لخداعهم مثلا أو الهروب من عقابهم. (6)
وإلى جانب ذلك لا تزال هناك قائمة طويلة من الأسباب التي تجعل تكوين الصداقات أصعب كلما تقدمنا في العمر، بعض الأسباب تعود لطبيعة شخصياتنا، لدى البعض شخصية انطوائية، أو خوف من الرفض أو مشكلات في الشعور بالأمان، أو ربما مشكلات صحية تظهر أكثر لدى الأكبر سِنًّا، وتتسبب بالفعل في عدم القدرة على تكوين أصدقاء، فضلا عن الأسباب الاجتماعية مثل العيش في مدن مختلفة عن ثقافة الفرد، والانتقائية الشديدة والرغبة في أن تكون الاهتمامات متطابقة.(7)
ما غيَّرته الجائحة في علاقاتنا
بينما كان علماء الاجتماع يُبدون قلقهم من سيطرة الفردانية على ثقافتنا في العقود الأخيرة، وزيادة الشعور بالوحدة، جاءت جائحة كورونا لترسخ تأثير هذا التغير، خلال سنوات الوباء، ومع إغلاق أبواب منازلنا، كان شعور الكثيرين بالوحدة يتعاظم، تنوع تأثير الإغلاق بين إعادة إحياء الصداقات القديمة، وإعادة تقييم الصداقات القائمة، بعد إعلان فتح الأبواب، كانت علاقات كثيرين قد تأثرت سلبا، وصار الوقت مناسبا لتقييم علاقاتنا، وأين يقف أصدقاؤنا.(8)
بخصوص هذا الأمر، نشرت مجلة “أستراليان جورنال أوف سوشيال إيشوز” (Australian Journal of Social Issues) استطلاعا أجراه باحثون أستراليون ضم نحو 2000 مشارك، حول تأثر علاقات الأصدقاء بين عامي 2020-2021، وجدت النتائج أن أغلب العلاقات تأثرت بفترة الإغلاق، بحيث زادت العزلة واختلفت طبيعة العلاقات بين الأصدقاء ومستويات التواصل بينهم.
لكن ما يثير القلق حقا هو إقرار المشاركين أن هذا التأثير السلبي امتد لما بعد الإغلاق بشهور، بدا لبعض المشاركين أن الإغلاق منحهم الفرصة للانعزال، وأخذ قسط من الراحة مما يمكن تسميته “الإرهاق الاجتماعي”، وبدا صعبا أن يعود التواصل إلى ما كان عليه قبل شهور الإغلاق.(9)
لكن تلك الراحة لا تبدو خيارا جيدا، إننا ندفع ثمنه في الحقيقة، إذ يؤدي الشعور بالوحدة إلى مشكلات اجتماعية وصحية خطيرة، حين لا تُشبع احتياجاتنا الاجتماعية بسبب قلة علاقاتنا أو انخفاض جودتها، وبسبب ذلك تتراجع الصحة النفسية، بل ونصبح أكثر عُرضة للمشكلات العضوية وحتى الموت المبكر.
في دراسة نشرتها جامعة روشستر الأميركية عام 2015، تبيَّن أن تأثير قلة الروابط الاجتماعية يفوق تأثير السمنة على صحتنا، ويعادل في تأثيره التدخين، وعلى العكس فإن تأثير التفاعل مع الأصدقاء في سن العشرينيات يفيد حتى لسنوات قادمة في حياتنا، إذ نعرف من خلالهم أنفسنا ونتمكن من التعامل مع الاختلافات، ونتخذ وفق ذلك قراراتنا المهمة، كما يكون لوجود صداقات جيدة في العقد الثالث من العمر تأثير ملحوظ في التمتع بمستويات عالية من الرفاهية لسنوات تالية أيضا. (10) لكن هل يظل العثور على الأصدقاء ممكنا إذا ما تفرق عنا أصدقاء الطفولة لأي سبب؟
هكذا تجد الأصدقاء
الخبر الجيد أن بعض المحاولة تزيد احتمالية عثورنا على أشخاص جديرين بالثقة، رغم أننا لن نتمكن من الاعتماد على الطريقة ذاتها التي اكتسبنا بها الأصدقاء في الطفولة. مفتاح اكتساب الأصدقاء في عالم البالغين هو عدم الاعتماد على المصادفة، وإنما خلق الفرص، بحيث يصبح تكوين الصداقات هدفا نسعى إليه في ذاته.
تبدأ الخطوة الأولى بالبحث عن أشخاص يشاركونك الاهتمامات ذاتها؛ الأذواق أو فلسفة الحياة أو الأنشطة الرياضية، سيكون من السهل بدء حوار مع أشخاص يشتركون معك في الاهتمامات، الخطوة التالية هي الاندماج في مجتمعات توفر هذه الاهتمامات؛ الصالات الرياضية أو المعارض أو المكتبات، هناك تتوفر عشرات الفرص، وفِّر وقتا للذهاب لتلك الأنشطة الجماعية بانتظام، نادٍ للقراءة أو نزهة كل أسبوعين، يفيد هذا في خلق المصادفة، كما أنه يحول العلاقة لتصبح جماعية، تتعدد فيها نقاط الاتصال ويسهل الحفاظ عليها.(11)
هناك حاوِل بدء حوار واحد مع أحدهم، أو طرح سؤال أو مجرد الابتسام، إنها إشارة إلى الآخرين برغبتك في الاندماج معهم، بعكس ما سيحدث حين تحدق في هاتفك فيبدو لهم أنك منشغل وغير مهتم بالتعرف إليهم. توصي ماريسا فرانكو في كتابها بالتوقف عن التجنب الخفي الذي نمارسه أحيانا حين تجمعنا المصادفة بأشخاص جدد؛ أن ننهمك في متابعة شيء ما في الهاتف في انتظار أن يبدأ أحدهم بالحديث معنا، ابدأ أنت بالتواصل وتقدم خطوة نحوهم. (12)
يبقى الأمر الآخر هو التغلب على الشعور بالرفض، والمُضي في طلب طرق التواصل مع الآخرين، إذ غالبا ما نقيم الرفض بأكبر مما هو عليه، افترض أن الناس يحبونك بالفعل، وأن التواصل معهم سيسير بشكل جيد، حين يراودك الشعور بالخوف من فكرة الظهور بمظهر ضعيف، تذكر أنك ما زلت قويا وأنك تتحكم في قدر انفتاحك على الآخرين وتتخير مَن تمنحهم ثقتك.(13)
وأخيرا، لا تتردد في طلب معلومات الاتصال عندما تجمعك المصادفة بأشخاص جدد، سيساعد هذا في بناء الثقة، وأخيرا فإن مساعدة الآخرين إحدى أهم سمات الصداقة، وهي تفتح قناة اتصال جيدة معهم.
في غضون ذلك كله، عليك أن تتذكر أن تعزيز علاقاتنا بأصدقائنا تتطلب جهدا ووقتا أيضا، تتوطد علاقتنا بالأصدقاء حين نلتقيهم بانتظام، ونشاركهم أنشطة ممتعة، ونعرف ما يجري في حياتهم، لنقدم لهم الدعم أحيانا، ولكي يتواصل الحوار، وعلى ما يبدو فإننا في حاجة إلى هذا الجهد والوقت سواء مع أصدقائنا الحاليين لكي تستقر مكانتهم، وحتى لا يصبحوا على أطراف الدائرة ثم خارجها، أو مع الأصدقاء الجدد لكي تترسخ مكانتهم في دائرة أصدقائنا، ترتبط قوة العلاقات دائما بمقدار الوقت والجهد الذي نمنحه لها. (14)
_____________________________________________
المصادر:
- You Can Only Maintain So Many Close Friendships
- Hacer amigos siendo adultos, ¿es posible?
- What prevents people from making friends: A taxonomy of reasons
- Why do we find making new friends so hard as adults?
- How many hours does it take to make a friend?
- You’re not uncool. Making friends as an adult is just hard
- Making Adult Friends Is Hard: Here Are 40 Reasons Why
- Lonely after lockdown? How COVID may leave us with fewer friends if we are not careful
- المصدر السابق
- College social life can predict well-being at midlife
- Hacer amigos siendo adultos, ¿es posible?
- You’re not uncool. Making friends as an adult is just hard
- ¿Por qué nos resulta tan difícil hacer nuevos amigos cuando somos adultos?
The case for fewer friends
المصدر: الجزيرة. نت