استطلعت قناة عراقية تبث من تركيا، بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة، أخيراً، آراء إعلاميين عراقيين في عدة مدن، منها البصرة التي اغتيل أحد أفضل صحافييها البارزين، أحمد عبد الصمد ومعه المصوّر صفاء غالي، عام 2020، بسبب مناهضتهما الأحزاب الموالية لإيران، وبثهما فيديوهات الاحتجاجات الواسعة في المدينة وتظاهرات ثورة تشرين، إذ لا تزال التهديدات بالتصفية والمضايقات تلاحق الإعلاميين والصحافيين وتمنعهم من ممارستهم مهنتهم وحقّهم في هذا.
يقول أحد الصحافيين: “نفتقد البيئة الطبيعية للعمل الصحافي، ولا يمكننا الحصول على أي حقّ يسمح لنا بالعمل بالطريقة التي تناسبنا مثل أي صحافي في العالم لوجود مافيات اقتصادية وسياسية وجهات حزبية وحكومية هي في عداء تام مع الصحافة”. ويضيف: “المؤسّسات التي نرتادها تقيد عمل الصحافي وتعرقله، بل وتعتدي عليه بالضرب والإهانة، ويتعدّى ذلك إلى الاعتقال والحبس من جهات أمنية وحكومية ومليشياويه، تضاف إليها اليوم اعتداءات من العشائر التي أصبحت قوة بين القوى الأخرى التي تشكلت للاستحواذ على ثروات البلاد ومواردها والتحكّم بها في مدنٍ، مثل البصرة المصدّرة الأولى للنفط في العراق، وأهم منفذ للتهريب وسرقة أموال الميناء وأرصفته”. وفي بابل، قال إعلامي شاب إن حرية الصحافة تتقلص أكثر وأكثر، وإن الأجواء غير ملائمة ابدا للعمل الصحافي، نحن معرّضون للاغتيال والقتل بشكل دائم. ومن غير الممكن عمل تحقيق صحافي في مواضيع تخصّ تهديد السلم المجتمعي، مثل المخدرات، أو الكشف عن ملفات فساد في مرافق الدولة”.
مثل هذه الشهادات والأرقام المخيفة المسجلة عن اغتيال الصحافيين التي يشهدها العراق سنويا منذ الغزو هي التي جعلت تصنيف العراق مجدّدا أحد أخطر البلدان الـ31 في العالم في تقرير منظمة مراسلون بلا حدود الذي صدر أخيرا. وكان عدد القنوات التفزيونية في العراق قد وصل، بعد الغزو الأميركي عام 2003 إلى 57 قناة مرخّصة، و60 مكتبا خارجيا لقنوات موجهة الى العراق، إضافة الى 152 وسيلة إذاعية ليصبح العراق الدولة الأولى التي تملك أكبر عدد من القنوات في كل الشرق الأوسط ، كما يوجد 25 ألف صحافي. و90% من صحافيي القنوات هم من أتباع أحزاب العملية السياسية الأميركية الإيرانية، أو من أتباع شخصيات سياسية، بينما لا تتجاوز نسبة الصحافيين المستقلين 5%، وربما أقل من 1% ممن يتمسّكون بقيم العمل الصحافي الوطني، ويرفضون أن يكونوا بضاعة عند الطلب، حسب تعبير الإعلامي محمد السيد محسن الذي يعمل، مثل عدد آخر من الصحافيين، في قنوات عراقية تبثّ من خارج العراق، لينجو بحياته، فيما يتلقّى من يتجرّؤون على نقد بسيط لما يجري في العراق تهديداتٍ بالقتل، وتهاجم مكاتب مؤسساتهم الإعلامية في العراق لإثارة الرعب في قلوب العاملين فيها. وبدل أن يدافع السياسيون والبرلمانيون، ولو شكليا، عن “حكمهم الديمقراطي” وإعلامه كما يدّعون، فإنهم يتعاملون بعنف مع الأصوات الإعلامية الوطنية المستقلة، وأحيانا يصل بهم الأمر إلى التحريض عليها.
امتلاك أحزاب وشخصيات ودول القنوات التلفزيونية وإشرافها بشكل مباشر على توجيه الخطاب الإعلامي وتعيين أعضاء الهيئة وفق معايير حزبية وطائفية يعني هيمنة المحاصصة الطائفية على الإعلام واستبدادها به، بالطريقة نفسها التي تُدار بها العملية السياسية، لتجعل من هيئة الإعلام والاتصالات هيئة غير مستقلة، بل مؤسّسة سياسية، على شاكلة المحاصصة السياسية، ومن يهيمن عليها.
الغريب أن هيئة الاعلام والاتصالات العراقية التي جرى تأسيسها وفق الدستور الذي جاء به الاحتلال الأميركي، لتكون إحدى الهيئات الديمقراطية المستقلة الموجودة في الديمقراطيات الغربية التي تنظّم عمل الإعلام وأجهزته المختلفة، والمناط بها قضية حرية التعبير وتطوير الإعلام الحر، لا تهتم بكل ما يعانيه الصحافيون والإعلاميون، وليس لها علاقة لا من قريب ولا من بعيد بموضوع اغتيال الصحافيين أو تهديدهم أو سجنهم وملاحقتهم وإهانتهم وضربهم، سواء من الجهات الأمنية أو الحكومية أو المليشياويه!. ويظهر تصفّح الموقع الإلكتروني للهيئة عدم وجود أي إعلامي أو صحافي بين أعضاء الهيئة، وهذا ما لا تجده في أي هيئة مماثلة في العالم. أما الأمر الآخر فهو برامجها التي تتضمّن قيامها بنشاطات ثانوية، بعضها تجارية ليأتي في آخر جدولها “الارتقاء بالإعلام وتنظيمه” الذي لا يُذكر عنه أي شيء في أخبار موقعها؟ لكن الغياب الكامل لهذه الهيئة في اتخاذ إجراءاتٍ معينة أو التعليق على الأقل على تقارير منظمة مراسلون بلا حدود، المتكررة منذ سنوات، يدلّ على عدم الاهتمام بما يجري في المشهد الإعلامي، رغم خطورته، بل إنها تدير ظهرها لكل الخروق غير الديمقراطية، وتتغافل عن تسويق الخطاب الطائفي وتسيّده في المشهد الإعلامي.
تشير الإحصائيات الرسمية وإحصائيات “مراسلون بلا حدود” إلى اغتيال أكثر من 500 صحافي وإعلامي في العراق منذ الغزو عام 2003. ورغم توصيات هذه المنظمة وتحذيراتها لحكومة المنطقة الخضراء، فإنّ مثل هذه التحذيرات تعدّ تدخلاً في الشؤون العراقية بحجّة السيادة! والسيادة التي تتحجّج بها أحزاب العملية السياسية لا وجود لها، ولا تثار عندما يغتال موظف تابع لوزارة الداخلية، وأعوان إيرانيون، الإعلامي والباحث هشام الهاشمي، من قبل موظف تابع لوزارة الداخلية، كما جرى الإعلان أخيرا، وقد هرب أولئك الأعوان بعد الجريمة الى بلادهم. كما تمكن قاتل الباحث من الهرب إلى إيران، ثم عاد بحسب وزارة الداخلية. وأجلّت المحكمة بالحكم عليه ثماني مرّات. وتريد أحزاب اليوم مجدّدا تأجيل الحكم عليه، لكن المتداول أنه أصلا غير موجود في العراق، إذ لا يصدّق العراقيون كل هذه الادّعاءات الحكومية التي ربما الهدف منها كسب الوقت إلى حين الوصول إلى إطلاق سراحه، بينما تطالب عائلة الهاشمي وغيرها من عوائل الصحافيين المغتالين القضاء والحكومة بالكشف عن الأوساط وراء الاغتيالات، إلا أنها لا تجد آذاناً صاغية، ولا إجابات شافية للشكاوى المشروعة التي رفعتها.
شاءت أم أبت هذه الطبقة السياسية التي تستمر بتقليص حرية التعبير في الفضاء الإعلامي وتدمير العراق وقتل خيرة رجاله، فان نظامها الطائفي قد استنفد خطابه، ولم يعد الشعب العراقي مهتما بفتنه ولا بادّعاءاته، لأنّ أجيالاً جديدة تفتحت أعينها على الحقائق، وعلى فرز أكاذيب الخطب الزائفة باسم الدين والمذهب والمكوّن. لم تعد المحاصصة وما أُسّس عليها إلّا وهماً، يجب إزالته والتخلص من آثاره لبناء عراق حديث يضاهي دول المنطقة المستقرّة ينعم فيه شعبها بالحرية الحقيقية والسيادة والديمقراطية.
المصدر: العربي الجديد