في الذكرى الثلاثين لرحيل والدي وصديقي ومعلمي

محمود خزام

شيء من البوح عن ” فتح ” التي “كانت”

في خاطر الفلسطيني السوري أبو شحادة الشهابي ..و خاطري أنا ” اليوم “….!!

في البدء بودي الاشارة الى أن حيزا كبيرا من هذا البوح كنت قد كتبته منذ سنتين ، وكانت رغبتي حينها نشره بمناسبة انطلاق الثورة الفلسطينية أول الأمر ثم تحولت الرغبة الى نشره بمناسبة استشهاد الزعيم الفدائي ابو عمار..

وفي كلتا المناسبتين كان تتملكني لحظات من القهر والضيق والوجع تمنعني عن ذلك. إلى أن جاءني ” وحي “العاشقين على حين ” غفلة حانية “ووجدت ذاكرتي الحاضرة تأخذني الى الذكرى الثلاثين لرحيل والدي..ووجدتها هي الانسب لما تشكله لي ولأهلي من ” قيمة ومعنى”…! لم تدخل حركة التحرير الوطني الفلسطيني- فتح ” دارنا ” في مخيم اليرموك ” عُنوةً ” ولا ” متسلّلة ” في عتمات الليل..وقبل هذه وتلك وهو المهم وربما الأكثر أهمية أنها لم تدخل ” غصّْباً ” عن إرادة ابن حركة القوميين العرب والناصري غير القابل ل ” المساومة ” وأقصد هنا صاحب الدار والدي الراحل أبو شحادة الشهابي…..!

إذن دخلت ” حركة الشعب الفلسطيني ” دارنا في وضح النهار والشمس “شمّوسة” ومن دون ” واسطة ” ولا إذن من أي كان سوى إذن ” حطّة أبو عمار ” الشبيهة ب حطّة والدي وعقاله….

في دارنا كما سبق لي وذكرت أكثر من مرة كان ” هوانا ” عروبي ناصري ” غير بعثي ” \ وهو أيضا أمر لم يسمح به والدي بتاتا \ ..

هذا ” الهوى ” اقترب من “فلسطينيته” ومسّها بشوق، إثر زيارة الراحل الكبير أحمد الشقيري لمخيم اليرموك أول الستينات وهو في طريقه نحو تأسيس وبناء منظمة التحرير الفلسطينية….!

بعد هزيمة حزيران 1967 وانطلاقة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وحضور اسم “الحكيم” جورج حبش ” الأقرب ” الى قلب وعقل والدي ، ومن ثم الانفجار الكبير باشتعال ” معركة الكرامة ” وبروز ” اسم ” الفدائي ” أبو عمار …

” لعلعت ” فلسطينيتنا وبرزت وازدادت ” سخونتها ” أكثر،مع الاسم الذي سيصبح أكثر شيوعا وترديدا في حاراتنا وبيوتاتنا ومدارسنا وشوارعنا وهو اسم ” العاصفة ” وبالطبع مقرونا ب ” فتح “..!!

بعد استقالة احمد الشقيري من رئاسة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير \ التي أحزنت والدي \ ومن ثم تعيين” يحيى حمودة” مكانه مؤقتا، ومن ثم انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني في القاهرة 1968 بحضور الزعيم الراحل جمال عبد الناصر وبمشاركة فصائل الثورة والكفاح الفلسطيني المسلح وانتخاب ياسر عرفات رئيسا للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير …

أصبحت ” الفلسطينية ” كهوية وطنية وانتماء كفاحي نضالي ” عنوان ” لنا أينما كنّا وحللنا وارتحلنا…وبرز ذلك بعظمة تليق بها وتجلّى في مخيمات اللجوء وتحديدا في مخيم اليرموك…!

إثر ” أيلول الأسود ” ورحيل عبد الناصر الفاجع.. ” انتكست ” فلسطينية والدي قليلا بسبب حملة التشكيك “المعيبة”التي قامت بها بعض فصائل ” اليسار ” الفلسطينية ونظام البعث السوري ضد عبد الناصر بعد”مشروع روجرز”..

 وأخذنا والدي معه برحلة “حزن موجع ” لم يستسلم لها طويلا ،حين أيقن ان هوانا الفلسطيني الصحيح هو ماصدح به صوت الست أم كلثوم ” اصبح عندي الآن بندقية ” وأناشيد الثورة الفلسطينية…..!!

بعد الهوى الغلاّب برزت ” ديمقراطية ” والدنا السياسية بأبهى صورها وتجلياتها النبيلة، وترك لنا حرية الانتماء السياسي والنضالي مع تحفظ واشتراط وحيد اختصره أو خوصره بالتالي : “روحوا وين مابدكو..بس بهالبيت بديش اشوف لااخوان مسلمين ولا حزب تحرير ولا بعثية وكل إشي من هالشكل “..!؟

وهكذا كان ، ومع اتساع دائرة وعينا السياسي بتجلياته السورية والفلسطينية والعربية..تشكلت ” خارطة ” بيتنا السياسية واستوت بحدودها التالية :

-شقيقتنا الكبرى أميرة اقترنت مبكرا بأحد فدائيي فتح..

_ شقيقات ثلاث وأشقاء اربع ” فتح “..

_جمال ” الجبهة الشعبية “…

-العبد الفقير حركة وطنية ديمقراطية سورية معارضة…..

” عيوش “والدتنا رحمها الله واسكنها فسيح جناته ،أحبت فلسطين ولبنان وسوريا ومصر.. ” زغردت ” للختيار و”أحبت” الحكيم….

بحسبة تنظيمية سياسية نضالية بسيطة…في بيتنا ” الغالبية ” كانت ل فتح وأهلها..!

من تجلّيات والدنا المبهرة في بيتنا كانت حضور “صحبته ” الأقرب الى عقله وقلبه ..هذه الصحبة ” الشهابيّة الهنّية العتيقة” بشخوصها الليلية ( عمي ابو علي السعيد ..عمي ابو العبد..عمي أبو فاروق ) تركت بصمتها علينا عبر حواراتهم السياسية الصاخبة، حول فلسطين وفتح والشعبية ومنظمة التحرير وسوريا ونظامها “المكروه ” عندهم ، وسهرات سمر ” العتابا والميجانا ” وذكريات الطفولة والشباب في قريتنا ” لوبيه ” قبل النكبة…!!

 وتجلّي والدنا الثاني رِضاه عن شقيقاتي وأشقائي أهل فتح “محمد ، فاطمة ، علي ، احمد، عبد الناصر ، ميسون وريم ” ومشاركاتهم التنظيمية بإقليم الحركة في مخيم اليرموك والدورات التعبوية والعسكرية في ” معسكر الأشبال والزهرات والفتوة والمدينة التعليمية ونادي فتيات فلسطين” وبدأنا نسمع أسماء قيادات فتحاوية عديدة، من كلا “الجنسين ” اصبحت مألوفة وحاضرة في يوميات حياتنا وكأنها جزء أصيل من ” عيلتنا ” مشفوعة بالمحبة والرحب والسعة…!!

تجّلي والدنا الأبرز والذي شكل له” غصّة” ستظهر لاحقا كم كانت ” حارقة خارقة” كان ” معي ” وعبر ” بانوراما و دراما ” مسّت عقلي وقلبي ووجداني وأجلستني فوق صفيح ساخن حتى اللحظة التي أخُطُّ فيها هذه السطور..

لم يعتري علاقتي بوالدي من لحظة وعي الطفولي مرورا بوعي الصبا والشباب وهما المرحلتان اللتان عشت فيهما معه ومع والدتي وباقي شقيقاتي وأشقائي في سوريا ومخيم اليرموك أية حدّة او قسوة أو ” اشتباك ” إلا مرّة واحدة ، زاد فيها حزني الدفين منذ وعيي الطفولي الأول حزنا إضافيا آخرا، سيبقى ساكنا قلبي وعقلي حتى آخر يوم في عمري…؟!

وهذا يعني بالحسبة الزمنية مايتعدى ربع القرن الأول من سنين عمري بقليل..!

ربما لو أردت أن أضع لهذه العلاقة عنوان أو جملة مفيدة لوصفتها باعتباري الولد

الأول والأكبر ب ” الفرح، الحماس، الأمنيات، الاحترام ، التقدير ، الخوف ، الحيرة والعتاب “…؟؟!!

واسمحوا لي هنا بالاعتذار عن عدم المتابعة والكتابة في هذا الأمر بسبب حساسيته ولأنه حافل بالقديم والجديد ويحتاج لمساحة خاصة به..؟!

بسنين عمري هذه التي سأمر بها من الصف الأول ابتدائي” مدرسة المالكية” مرورا بالمرحلة الاعدادية ” اعدادية الكرمل” والثانوية ” عبد الرحمن الكواكبي ” و ” ثانوية دمشق الوطنية ” وصولا للمرحلة الجامعية ” جامعة دمشق..كلية الآداب قسم أدب عربي ” ..

  عشت الادراك والوعي الأول والثاني والثالث والرابع بالقرب من والدي الأب ، والمعلم ، والصاحب ، والصديق ، والأخ والرفيق ..ولكل تسمية او وصف من هذه المسميات ، تفاصيلها الحارة والملتهبة حينا ، والباردة ” الساقعة ” حينا آخر..

في كل هذه الظروف إيجابا كانت أم سلبا ، كان لأسمي ” شحادة ” التأثير الأكبر للعودة بعلاقتنا لمسارها الطبيعي.

بسبب ان هذا الاسم الذي احمله كان يخصّ جديّ ” الشهيد شحادة الشهابي”

 / جديّ استشهد هو و17 آخرين من عائلة الشهابي كلهم أخوة وأولاد عمومة الى جانب 10 آخرين من عائلات لوبية الأخرى في معركة لوبية المشهورة 1948التي قتل فيها عدد كبير من المقاتلين الصهاينة على رأسهم جولاني، ودفنوا جميعا في مغارة ” العروسة ” في لوبيه ..حسب ذاكرتي ان الشاعر العزيز فرج بيرقدار ألف قصيدة باسم المغارة/

 وكان والدي هو من حمل جثمان والده على كتفه لانه كان الى جانبه وقت استشهاده….!

إذن اصبح من الواضح أن ” مشهد ” العلاقة بوالدي وتجلياتها شبيها بأول مشهد سينمائي شفته في حياتي في صالة ” سينما الكرمل ” وكنت وقتها برفقة والدي الذي عرفني على السينما التي أخذتني بدورها الى ” حلمي ” الذي سيسكنني طوال حياتي…

وبهذه المناسبة كان لوالدي صاحب ” الذائقة الفنية ” الفضل بالتعرف على صالات السينما الدمشقية مثل ” الفردوس ودنيا والعباسية ودمشق والسفراء وغيرههما…”..

كما كانت لوالدتي نفس ” الذائقة الفنية ” التي أسكنت قلبي ووجداني بأغاني الفنان الراحل فريد الاطرش وأفلامه..!

وكي لا أطيل سأذهب مباشرة للحديث عن المرحلة الأكثر سخونة وهي مرحلة

” النضال السياسي والفكري والثقافي ” التي بدأت بواكيرها القوية بالمرحلة الثانوية والجامعية..

هنا وكما ذكرت بالعنوان سأتحدث عن “فتح ” التي كانت في خاطر والدي الراحل..وخاطري أنا اليوم..

بالنسبة لوالدي ذكرت بالتفصيل علاقته الاولى بفتح وقناعاته بها الى أن اخبرته بنفسي عن علاقتي ” الوطنية ” غير التنظيمية بها، من خلال نشاطي ووجودي

بمكتب ” الإعلام الجاهيري ” الذي تم افتتاحه في مخيم اليرموك بشارع فلسطين بقرار من مكتب الإعلام الفلسطيني الموحد الذي كان يرأسه ويشرف عليه الراحل العزيز أبونضال ابو شمّاله والراحل رفيق الدرب خليل الزبن.

حينها استغرب وسألني: ” من وين لوين يابا ..انت بوادي مختلف..انت أقرب ألي ناصري قومي وبعدين شايفك تقدمي يساري وبالمعارضة السورية..وبعرف لو بدك تنتمي للفصائل أكيد الشعبية اقربلك لاني بعرف قديش بتحب الحكيم “..؟!

(سأتحدث عن هذا الأمر بالحلقة الثانية التي ستأتي لاحقا..)..

لم يأخذ هذا الأمر بيننا الكثير من الجدل، غير انه تطور بشكل درامتيكي سريع وخطير ..

وقتها كنت أعمل مع والدي وأُشرف على آخر مشروع تعهده بعمله بالمقاولات وهو مشروع ” السوق التجاري ” خلف مبنى بلدية اليرموك..وبنفس الوقت كان ذهابي للجامعة محفوفا بالمخاطر الأمنية نتيجة نشاطاتنا المتحدّية والمستفزة للنظام..

فذهبت لوالدي واخبرته بأني لن أستطيع المتابعة معك/ وكان مشروع السوق يمر بأزمة خانقة / . نظر الي والدي دهشة ونظرة دامعة قائلا : ” يابا أنا مأزوم وتعبان وانت اللي بتابع كلشي ..بس شو بدي أساوي..هذا خيارك وانت حر وسبق وحكيتلك انت ورفاقتك ميت مرة هذا نظام مجرم ومابيرحم ..هالبلد انبلت بعصابة من القتلة..روح ماحل مابدك تروح ..بس طمنا عليك…”..!؟

من يومها تغيرت احوالي بالكامل وأصبحت أنا ورفيق العمر الشهيد تيسير الشهابي نعيش كل فترة بمكان ..

وكان لرفاقنا” بالحزب الشيوعي _ المكتب السياسي وحزب العمل الشيوعي ” الدور الابرز بحمايتنا..الى أن اجتماعنا ذات يوم بمكتب الراحل أبو نضال ابو شماله والراحل خليل الزبن ، واقترح ابو نضال بانه هو وخليل سيعملان على ارسالنا خارج سوريا من خلال تأمين ” منحة دراسية ” في احدى الدول الشرقية..

وهكذا صار ، ” تبنتنا ” فتح عبر الاخوة الاعزاء ابو ماهر غنيم وأبو نضال وخليل الزبن و قيادات أخرى / سآتي على ذكرها بالحلقة القادمة ( وأمّنا لنا منحة الى ألمانيا الديمقراطية ) ..

قبل السفر بأيام ذهبت لوالدي واخبرته بالسفر ، نظر الي نظرة دامعة لم أعرف لليوم معناها…وأضاف : مين بدو يسفرك انت وتيسير..من فوري أجبته : فتح يابا ماتخاف..أجاب : أنا مش خايف يابا أنا اسه اطمنت ، والله يابا هدول فدائيين أبطال.. بس كيف وعن أي طريق..

اجبته : كلشي مأمن وبأسماء أخرى..؟!

بعدها بفترة بسيطة ، ذهبت لوالدي ووالدتي واشقائي وشقيقاتي مودعا..

” الصورة مع والدي ووالدتي كانت آخر صورة لي معهما في بلدي سوريا ..؟؟!!

في ذكراك يابا..ايها الفلسطيني السوري العروبي الإنساني…فتح التي كانت في خاطرك…تغيرت..تغيرت..آآآآآآخخخخخ

ياااابا…….لروحك الورد ومجد الذكرى…

للحديث بقية…عن فتح التي في خاطري

المصدر: صفحة محمود خزام على الفيسبوك

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى