ركّزت عملية تغيير النظام التي تتسم بالبطء على الاستيلاء على المؤسسات المدعومة من الولايات المتحدة لكي يتم التصدي للمصالح الأمريكية، مما يسلّط الضوء على التهديد الذي تشكله الجماعات المتحمسة والممولة جيداً على الديمقراطيات النامية.
أدى غزو العراق واحتلاله بقيادة الولايات المتحدة في عام 2003 إلى انتقال مؤلم وتدريجي من الدكتاتورية إلى الديمقراطية البرلمانية المليئة بالشوائب. وأصبحت هذه القصة معروفة الآن. ولكن بعد عقدين من الزمن، تجري عملية تغيير جديدة للنظام بدعمٍ من إيران، وباستخدام نموذج وإطار زمني ومجموعة أدوات مختلفة تماماً لدعم قوة شريكة عراقية محلية، سمّت نفسها “المقاومة الإسلامية في العراق” أو “المقاومة”.
وعلى الرغم من الانتكاسات الشديدة التي حدثت في عامَي 2020 و 2021 وكادت أن تتسبب بهزيمة الجماعة، تسيطر “المقاومة” اليوم على الدولة العراقية. فمن خلال “الحرب الناعمة” واستخدام (وإساءة استخدام) النظام القانوني والمحاكم، تَوصّلَ تحالف الميليشيات إلى تحقيق مزيج ناجح يستخدم إلى حدٍ كبيرٍ الأدوات غير الحركية لبناء سلطة ثلاثية تضم السلطة القضائية، والجانبين المدني والعسكري من السلطة التنفيذية، والسلطة التشريعية أيضاً. وهكذا تُوّج الخاسرون في انتخابات العراق لعام 2021 كفائزين في عملية تشكيل حكومته بعد عام من تلك الانتخابات، أي في تشرين الثاني/أكتوبر 2022. وهذه هي قصة أحدث عمليات التغيير التي تطال النظام في العراق.
الجهات الفاعلة في التغيير: “المقاومة” العراقية
يخضع تاريخ العراق ما بعد عام 2003 لهيمنة إيران وتَغيُّر حظوظ “المقاومة”. وقد وصل هذا التحالف البديل بعد وقتٍ قصيرٍ من وصول القوات الأمريكية، وعمِلَ منذ البداية لضمان عدم تحوُّل العراق إلى دولة ديمقراطية علمانية. وسعى بدلاً من ذلك إلى بناء ما سمّاه “المشروع الشيعي”، والعراق هي الدولة الأولى في العالَم العربي التي يسيطر عليها الشيعة، بهدف منع عودة ظهور قاعدة قوة سنيّة انطلاقاً من العراق.
و “المقاومة” هي مجموعة من الميليشيات الشيعية بمعظمها، ومنذ إنشائها حصلت على دعم “فيلق القدس” التابع لـ «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني. وتشمل ميليشياتها الأكثر انتشاراً «كتائب حزب الله» و«عصائب أهل الحق» و«حركة حزب الله النجباء»، وجميعها مصنَّفة كمنظمات إرهابية أجنبية أدرجتها حكومة الولايات المتحدة على لائحة العقوبات. وتُشكلُ هذه الجماعات وغيرها من الميليشيات الأصغر حجماً نواة “المقاومة”، ولكنها غالباً ما تتنافس داخلياً. كما تشارك كلٌ من «كتائب حزب الله» و«عصائب أهل الحق» علانيةً في السياسة العراقية من خلال حزبين سياسيين تابعين لهما، هما “حركة حقوق” و”كتلة الصادقون” على التوالي، ومن خلال العضوية في “الإطار التنسيقي الشيعي”، أي الكتلة التي تجمع الأحزاب الشيعية.
ولطالما عارضت هذه الميليشيات وأسلافها الولايات المتحدة وشركاءها خلال احتلال ما بعد عام 2003. كما شاركت بفعالية وحماس في الحرب الأهلية الطائفية في العراق. وعلى الرغم من أن الدستور العراقي يحظر هذه الميليشيات كونها ميليشيات غير حكومية بموجب “المادة 9 (ب)”، إلّا أنه سُمح لها باكتساب مكانة بارزة بين عامَي 2011 و 2014 في عهد رئيس الوزراء آنذاك، نوري المالكي، الذي شكك في ولاء الجيش العراقي الرسمي. ومع بروز تنظيم “الدولة الإسلامية” في عام 2014، أصبحت الميليشيات بمثابة تعزيزات ضرورية في الحملة الدولية الهادفة إلى إلحاق الهزيمة بالخلافة. وفي هذا الصدد، استخدم المالكي الأوامر التنفيذية التي أعقبها لاحقاً – في عام 2016 – قانون يسمح للميليشيات بحمل السلاح وتلقي الدعم والتمويل من الحكومة كفرع جديد من القوات العسكرية العراقية يُعرَف باسم “الحشد الشعبي”.
ومع تراجُع تنظيم “الدولة الإسلامية” بحلول عام 2018، غيّرت “المقاومة” وجهة تركيزها لينصبّ على إخراج الولايات المتحدة من العراق وتأمين السيطرة على الدولة العراقية. وقدّم قائد «فيلق القدس» التابع لـ «الحرس الثوري الإسلامي»، قاسم سليماني، الدعم لأبو مهدي المهندس، وهو القائد الفعلي لـ «قوات الحشد الشعبي» وأحد قدامى «كتائب حزب الله»، من أجل تنفيذ خطة انتهازية للاستيلاء على الدولة العراقية بالوسائل العسكرية والسياسية والقانونية. ولكن هذه الخطة أُحبطت في عام 2019، أولاً من خلال ظهور حركة احتجاج شعبي عراقي (هي “حركة تشرين”)، ثم عبر سلسلة من التصعيدات ضد القوات الأمريكية أدت إلى قرار إدارة ترامب المثير للجدل (وغير القانوني على الأرجح) بقتل سليماني والمهندس في كانون الثاني/يناير 2020 بواسطة ضربة بطائرة مسيّرة في مطار بغداد.
وفوجئت “المقاومة” بالاحتجاجات والضربات التي نُفذت على مستوى القيادة، ففقدت الزخم بشكل مؤقت. واستقال رئيس الوزراء عادل عبد المهدي الذي كانت “المقاومة” تتحكم به، وحل محله في أيار/مايو 2020 رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، فبدأ حملة من التحقيقات والاعتقالات والتعذيب التي استهدفت وفقاً للتقارير رجال ميليشيات “المقاومة” المتورطين في جرائم، بما فيها قتل النشطاء والصحفيين، وتنفيذ الهجمات على الولايات المتحدة، والفساد.
وبحلول عام 2021، أُصيبت الميليشيات بالإرهاق. وبقيت القوات الأمريكية في العراق، وفشل المرشحون المدعومون من الميليشيات في الانتخابات الوطنية التي أُجريت في تشرين الأول/أكتوبر 2021، مما زاد من ذل “المقاومة”. وحاولت مع “الإطار التنسيقي الشيعي” الإطاحة بنتائج الانتخابات عدة مرات، أولاً من خلال الوسائل القانونية، ثم عبر شن هجمات شبه عسكرية على المناطق الحكومية في بغداد، وأخيراً عبر محاولة اغتيال الكاظمي في تشرين الثاني/نوفمبر 2021. وباءت هذه الجهود بالفشل وشارفت “المقاومة” على الهزيمة. ثم تغير كل شيء.
تغيير النظام من خلال الحرب القانونية
في نهاية عام 2022، تخلت “المقاومة” عن الاعتراض المباشر على نتائج الانتخابات وتوصلت إلى استراتيجية جديدة وأكثر نجاحاً تتمحور حول “مجلس القضاء الأعلى” في العراق ورئيسه القاضي فائق زيدان. ففي سلسلة من الأحكام القانونية الصادرة بين كانون الثاني/يناير وشباط/فبراير 2022، غيّر “المجلس” قواعد اللعبة الخاصة بتشكيل الحكومة، فأصبح من المستحيل تقريباً تشكيل حكومة دون أغلبية عظمى تشمل الميليشيات و”الإطار التنسيقي الشيعي”. وفي حُكم أساسي صدرَ في شباط/فبراير 2022، رفع المجلس فعلياً النصاب المطلوب في مجلس النواب من أجل التصويت لاختيار رئيس وتشكيل مجلس وزراء، عبر إعادة تفسير “المادة 70” من الدستور العراقي التي كانت تُفهَم سابقاً على أنها تتطلب حضور أغلبية مؤلَّفة من ثلثَي النواب للتصويت (شرط النصاب القانوني لمجلس النواب هو الأغلبية البسيطة لإجمالي الأعضاء). وأعطى ذلك “الإطار التنسيقي الشيعي” وأتباع “المقاومة” (أقلية واضحة تشغل فقط 62 من أصل 329 مقعداً) القدرة على استخدام حق النقض بشكل فعال ضد أي خيار، مما يوصل العراق إلى طريق سياسي مسدود. وأشار سياسيو “المقاومة” إلى قوتهم الجديدة بـ “الثلث المعطل”، فشكل ذلك انعكاساً للمسار الديمقراطي في العراق وعودةً إلى حُكم الأقلية الذي شهدته البلاد للمرة الأخيرة في ظل نظام صدّام حسين.
وبعد ذلك، تسببت فصائل “المقاومة” بانقسام تحالُف الأغلبية الذي عارضها: أولاً، أرهبت “المقاومة” المعارضين السياسيين الآخرين مثل الأكراد عبر الهجمات القانونية (بما فيها التأثير على “المحكمة العليا” لنفض الغبار عن قضية قانونية تعود إلى عشر سنوات مضت لم يتم النقاش فيها بعد، فحكمت بأن تُسلّم الحكومة الكردية في أربيل جميع نفط المنطقة الكردية لحكومة بغداد). وتَرافقَ ذلك مع عمليات قصف بالصواريخ والقذائف والطائرات المسيّرة التابعة لإيران و”المقاومة”. ولاحقاً، استخدمت الميليشيات الثلث المعطل لإنفاد صبر خصمها الشيعي الأكبر أي رجل الدين الشعبوي مقتدى الصدر الذي سحب نوابه من مجلس النواب، مما أدى إلى إعادة توزيع مقاعدهم لصالح المرشحين المتحالفين مع الميليشيات بالدرجة الأولى. ثم سمحت عملية إعادة التوزيع لـ “الإطار التنسيقي الشيعي” بتشكيل أغلبية عظمى وتعيين رئيس وزراء جديد هو محمد شياع السوداني، وبالتالي استكمال عودة “المقاومة” كجهة منتصرة في عملية تشكيل الحكومة.
ولعب القانون والمحاكم دوراً أساسياً في بروز “المقاومة” وسقوطها ثم بروزها مجدداً. ولا يمكن تفسير ذلك دون فهم هوس الميليشيات بالحرب الناعمة والحرب القانونية. ففي حين تحظى الهجمات الحركية بالقذائف والطائرات المسيّرة والعبوات الناسفة ضد القوات الأمريكية، بأكبر قدرٍ من الاهتمام الغربي، يشكل استخدام القانون وإساءة استخدامه والمحاكم استراتيجية أساسية تتبعها الميليشيات، ولعبت دوراً حاسماً في إطار جهود الاستيلاء على الدولة على مدى الأعوام الخمسة الماضية.
وإلى جانب زميلنا حمدي مالك، سلّطنا الضوء على هذا الاستخدام للحرب القانونية قبل عامين، مشيرين إلى الوقت والجهد اللذين تخصصهما “المقاومة” من أجل الإعلان عن اهتمامها بالقانون ودورها كمدافعة عنه. وينبع ذلك من وعي الميليشيات بإمكانيات استخدام المؤسسات القانونية المحلية والدولية لتقييد خصومها الأقوى عسكرياً ونزع مصداقيتهم. ففي عام 2021، أشرنا إلى ما يلي:
“تمتد شرعية «المقاومة» إلى ما يتخطى مجرد مواضيع للنقاش، بل أصبحت جزءاً أساسياً من استراتيجية الجماعات لتحقيق أهدافها. ويجري تنظيم مؤتمرات قانونية في العراق للتوعية بشأن مواقف «المقاومة» القانونية وفكرها. وهي اليوم تهدد معارضيها باستمرار بمقاضاتهم قانونياً. وتشكل الحجج القانونية جزءاً متزايداً من عمليات المعلومات والدعاية الخاصة بالميليشيات”.
وأثبتت الحرب الناعمة أنها أنجح بكثير من الجهود الحركية. فمن خلال الاستيلاء على المحاكم، ثم السلطة التشريعية، وأخيراً مكتب رئيس الوزراء، عادت “المقاومة” إلى الحُكم دون الاقتراب من الحصول على الأغلبية المنتخَبة. وها هي الميليشيات تُعيد الآن صياغة القانون لضمان استمرار سيطرتها على السلطة.
تعزيز الاستيلاء على الدولة: الكفاح من أجل الشرعية
إن “المقاومة” والحركات السياسية التابعة لها صريحة بشأن نفوذها في الإدارة العراقية الجديدة التي يقودها رئيس الوزراء محمد شياع السوداني. ففي كانون الأول/ديسمبر، عمد قيس الخزعلي (زعيم «عصائب أهل الحق» التي تصنّفها الولايات المتحدة منظمة إرهابية) إلى وصف رئيس الوزراء السوداني بأنه “مدير عام”، متابعاً أنه “تم التمييز بين قرارات الدولة وإدارة الحكومة… يجب ألا يحتكر رئيس الوزراء قرارات الدولة، بل [عليه] أن يرجع إلى «الإطار التنسيقي» [المتحالف مع الميليشيات]… لاتخاذ القرارات الاستراتيجية، سواء أكانت سياسية أو اقتصادية أو أمنية”.
وفي غضون ذلك، وفي كانون الثاني/يناير، وصف النائب علي تركي المنتمي إلى «عصائب أهل الحق» حكومة السوداني بأنها “حكومة مقاوَمة”، مضيفاً أن “«المقاومة» أصبحت تمثّل وجهة نظر العراق الرسمية، وهي مَن تُدير دفة الأمور اليوم”. ولم يصحح أي مسؤول حكومي تصريحاته. حتى أن السوداني عيّن في الواقع أحد التابعين لـ «عصائب أهل الحق» كمدير لمكتبه الإعلامي. لذا يتضح أن “المقاومة” تعتقد أن كلمتها أصبحت حاسمة في عملية صنع القرار في الحكومة العراقية، وهو وضع معاكس تماماً لما كان سائداً منذ اثني عشر شهراً فقط حين كان نفوذها يتضاءل.
وبعد أن استولت الميليشيات على الدولة، تسعى الآن إلى تعزيز مكاسبها، ولكن ذلك سيتطلب منها التغلب على النقص الحاد في الشرعية. لقد أدركت “المقاومة” (أولاً من خلال احتجاجات “تشرين” في عام 2019 ثم من الاشتباكات مع التيار الصدري حتى عام 2022) أنها لا تحظى بدعم الأغلبية حتى في صفوف العراقيين الشيعة. كما أدركت في ظل إدارة الكاظمي أنه يمكن استخدام الدولة وقوانينها ضد مشروع “المقاومة”. واليوم، لا يمكنها الإشارة إلى الفوز الانتخابي كمصدر لشرعيتها. ونتيجة لذلك، تستخدم الميليشيات سلطاتها الجديدة لمراجعة القوانين وإعادة التوظيف في الوكالات من أجل إسكات المنتقدين، والحد من المخاطر التي تشكلها الانتخابات الديمقراطية، وتقوية الأجهزة الأمنية الموازية الخاصة بـ “المقاومة” ومنحها الصفة القانونية الكاملة.
معالجة مشكلة شرعية «الحشد الشعبي»
أثيرت التساؤلات حول الصفة القانونية التي تتمتع بها «قوات الحشد الشعبي» منذ تأسيسها في عام 2014 عند الدعوة إلى حمل السلاح لمقاومة تنظيم “الدولة الإسلامية”. وشملت هذه التساؤلات ما إذا كانت الميليشيا الخارجة عن سيطرة القوات المسلحة العراقية قانونية بموجب الدستور، وتوفرت إجابات جزئية مع اعتماد “القانون رقم 40” لعام 2016: “قانون هيئة الحشد الشعبي”. وتحديداً، عجزت الحكومة عن السيطرة على هذه الوحدات المسلحة، التي تخضع على الأرجح لإيران أو الميليشيات الخاضعة لعقوبات دولية مثل «كتائب حزب الله»، وليس للحكومة العراقية. وأدى ذلك إلى انتشار شائعات منتظمة، لا سيما بين الميليشيات نفسها، حول نية الحكومة إصلاح «قوات الحشد الشعبي» أو حتى حلها.
أما اليوم، فالعكس هو الصحيح. فكما أرادت إيران، تشبه «قوات الحشد الشعبي» بشكل متزايد نموذج «الحرس الثوري الإسلامي». وقد منحت حكومة السوداني الجديدة «الحشد الشعبي» في أحد أوائل إجراءاتها الحق في تشكيل شركة مقاولات تُدعى “المهندس”، على اسم الزعيم الإرهابي المقتول. وسبق أن تصدى كل من رئيسَي الوزراء العراقيّين السابقَين لهذه الشركة التي تشبه بوضوح شركة “خاتم الأنبياء” المعنية بالبناء (التي تخضع لعقوبات “الأمم المتحدة” والولايات المتحدة و”الاتحاد الأوروبي”) والتابعة لـ «الحرس الثوري الإسلامي». كما تتم صياغة تشريعات تنفيذية جديدة لتعزيز قانون عام 2016 بشأن «الحشد الشعبي» في بعض المجالات مثل التعليم العسكري المهني وهيكلية الرتب، وذلك من أجل السماح لجنرالات «الحشد الشعبي» بقيادة التشكيلات العسكرية العراقية التقليدية بالطريقة نفسها التي يستطيع بها جنرالات «الحرس الثوري الإسلامي» قيادة الجيش والقوات البحرية والجوية التابعة لإيران ما قبل الثورة.
واليوم باستطاعة «الحشد الشعبي» حتى الانتشار في سوريا في إطار جهود الإغاثة بعد الزلزال الذي ضرب البلاد. وسبق أن انتشرت وحدات «الحشد» في سوريا دعماً لجهود “المقاومة” والجهود الإيرانية من دون الحصول على إذن تسلسل القيادات العراقية الرسمية. وفي شباط/ فبراير، تلقّى «الحشد الشعبي» أوامر قانونية بدخول سوريا إلى جانب قائدَيه الأعلى رتبة، وهما رئيسه فالح الفياض المصنّف على قائمة انتهاكات حقوق الإنسان الأمريكية، ورئيس أركانه عبد العزيز المحمداوي (أبو فدك) المصنّف على قائمة الإرهاب الأمريكية. ومن شبه المؤكد أن إضفاء الطابع الرسمي على انتشار «الحشد الشعبي» خارج الحدود الوطنية سيحسّن تنسيقه عبر الحدود مع حكومة الأسد السورية و«حزب الله» اللبناني وشبكات التيسير الإيرانية.
إسكات النقاد
تُستخدَم الآن أيضاً الوكالات الحكومية العراقية لإسكات المنتقدين. ففي عام 2022، مارست «عصائب أهل الحق» والميليشيات الأخرى ضغوطاً على “هيئة الإعلام والاتصالات”، وسيطرت فعلياً على مجلس إدارتها المكوّن من ستة أعضاء. ومنذ ذلك الحين، حاولت “هيئة الإعلام والاتصالات” بشكل متزايد إسكات معارضي “المقاومة” من خلال فرض القيود وغيرها من الضوابط على القنوات الإعلامية ومقدّمي (البرامج العاملين فيها).
وتلجأ “المقاومة” بشكل متزايد إلى تقنيات الحرب القانونية، ولا سيما دعاوى التشهير. ففي كانون الأول/ديسمبر، رفع محامٍ مرتبط بـ “المقاومة” دعوى أمام محكمة عراقية ضد مقدّم برامج تلفزيوني معروف بتغطيته مواضيع المحرمات الاجتماعية في برنامجه الحواري، مطالباً القضاء بمنعه من دخول البلاد. ورفع المحامي نفسه، بالاشتراك مع أحد المسؤولين في “المقاومة”، دعوى قضائية مشتركة ضد أحمد البشير، وهو ناقد سياسي معروف باسم “جون ستيوارت العراق” وكثيراً ما يتصدى للمتطرفين السياسيين العراقيين.
لعل الطريقة الأكثر طموحاً التي تسعى بها “المقاومة” إلى إسكات منتقديها هي إبطال أكبر عدد ممكن من أصواتهم. وشكّلت انتخابات تشرين الثاني/أكتوبر 2021 ضربة مذلة بالنسبة إلى الكثير من الميليشيات. وكان أداء المرشحين المدعومين من «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» ضعيفاً، مما أدى إلى استنفاد الكتلة المتحالفة مع إيران في مجلس النواب؛ وأدّى تدخُّل “مجلس القضاء الأعلى” فقط إلى إنقاذ الميليشيات من البقاء تماماً خارج تشكيلة الحكومة. ومن أجل تحسين أداء “الإطار التنسيقي الشيعي” في الانتخابات المستقبلية، قدّم هذا الإطار تشريعات مصمَّمة لتعديل قانون الانتخابات العراقي. وتجاوز هذا التعديل قراءته البرلمانية الأولى في شباط/فبراير، وإذا تم سنه، سيعيد اعتماد طريقة سانت ليغو الانتخابية المتمثلة في توزيع المقاعد بين الأحزاب السياسية على أساس نظام تمثيل نسبي لقائمة الأحزاب. وتستفيد من هذا النظام بشكل كبير الأحزاب القائمة، مثل أحزاب “الإطار التنسيقي”، أكثر من المرشحين المستقلين.
أما النظام الانتخابي الحالي في العراق الذي رفض طريقة سانت ليغو، فاعتُمد رداً على احتجاجات تشرين في عام 2019، وصُمم لتشجيع المستقلين والأحزاب الصغيرة في محاولةٍ لتحسين منح حق التصويت والتعبير السياسي في البلاد. ومن شبه المؤكد أن محاولات تعديل هذا القانون تهدف إلى تعزيز سيطرة “الإطار التنسيقي” على السلطة، فيما يَعِد السوداني بإجراء انتخابات مبكرة حالما يتم إقرار قانون الانتخابات.
طرد المحتلين؟
منذ تأسيس “المقاومة” العراقية، تَمثّلَ هدفها الرئيسي المعلَن بطرد القوات الأمريكية من العراق. ومع أن الولايات المتحدة عادت إلى العراق في عام 2014 للمساعدة على محاربة تنظيم “الدولة الإسلامية”، انخرطت القوات الأمريكية في نزاع المنطقة الرمادية مع «الحرس الثوري الإسلامي» وقوات “المقاومة” في العراق وسوريا منذ عام 2018 على الأقل. ويقوم الوضع القانوني الذي تتمتع به واشنطن في العراق بشكل أساسي على موافقة الحكومة العراقية. ففي عام 2021، وافقت إدارة الكاظمي على “الانتقال إلى دور التدريب والإرشاد والمساعدة وتبادل المعلومات الاستخباراتية، [مع] عدم وجود قوات أمريكية ذات دور قتالي في العراق بحلول 31 كانون الأول/ديسمبر 2021”.
وحالياً، في ظل وجود رئيس وزراء صديق لـ “الإطار التنسيقي” والميليشيات، أي السوداني، قد يتمتع كليهما أخيراً بالقدرة على سحب الموافقة، وكذلك الأساس القانوني لاستمرار أي وجود أمريكي، وهو ما دعت إليه الميليشيات منذ مقتل سليماني والمهندس في كانون الثاني/يناير 2020. وفي الوقت الحالي، أشار السوداني إلى استعداده للحفاظ على الوضع الراهن، وهو موقف تدعمه بحذر الأحزاب السياسية التابعة للميليشيات. ولكن حتى من دون التوجه إلى الطرد الكامل، فإن حرية الولايات المتحدة في التصرف داخل البلاد مقيدة بشكل شبه مؤكد.
الدروس المستفادة للمستقبل
قبل عشرين عاماً، أطاحت الولايات المتحدة وحلفاؤها بـ”حزب البعث” الحاكم. ومنذ ذلك الحين، عملت طهران ووكلاؤها على اغتصاب الديمقراطية المليئة بالشوائب التي حلت محل نظام صدام حسين. وعلى الرغم من الاستثمار والتدريب الغربيين على مدى عقدَين، نجحت الميليشيات العراقية المدعومة من إيران في الاستيلاء على الدولة.
ويُظهر هذا التغيير الجديد في النظام أن الأنظمة يمكن أن تُغتصَب من خلال الاستغلال الدقيق للمؤسسات القانونية والسياسية التي ساعدت الولايات المتحدة في تطويرها بعد عام 2003. وبعبارة أخرى، تم الاستيلاء على المؤسسات التي دعمتها الولايات المتحدة مثل القضاء وهيئات مكافحة الفساد بعد عام 2003 وباتت تتعارض مع المصالح الأمريكية.
وفي الوقت نفسه، تُبيّن القدرة المثبَتة التي تتمتع بها “المقاومة” وقدرة «الحرس الثوري» على الانخراط في حرب غير نظامية وغير تقليدية قوة التأثيرات غير التقليدية وغير الحركية التي تُطبَّق بذكاء. وتمثلت نية “المقاومة” منذ سنوات في الاستيلاء على الدولة العراقية من خلال وسائل عسكرية واجتماعية وسياسية منسقة. وعلى الرغم من الانتكاسات، يسلّط تحقيق هذا الهدف الضوء على التهديد الذي تطرحه الجماعات المتحمسة والفَطِنة والمخرّبة سياسياً داخل الديمقراطيات الهشة أو النامية. وبعد تذوق طعم النجاح، ستستمر الميليشيات على الأرجح في الاستفادة من الأنظمة القضائية والسياسية لترسيخ قوتها بشكل متزايد.
ويشكل نجاح الميليشيات تهديداً للديمقراطية العراقية الناشئة والمليئة بالشوائب، وكذلك للمصالح الأمريكية في المنطقة. وفي المستقبل، سيتعين على واشنطن تأدية مهمة صعبة تتمثل في تحقيق التوازن بين مواجهة هذا التهديد واحترام السيادة العراقية. ولبلوغ هذه الغاية، على الولايات المتحدة اتخاذ الخطوات الآتية:
المحافظة على تدفق المعلومات. من أجل مساعدة الديمقراطيين العراقيين على تحريك عجلة التقدم مجدداً، تحتاج الولايات المتحدة أولاً إلى الحفاظ على وضوح الرؤية في العراق. فكما تَبيّنَ في عام 2003، يمكن أن تؤدي المعلومات الاستخباراتية الخاطئة إلى وضع سياسات على أساس غير سليم. ومن أجل الحفاظ على تدفق المعلومات الدقيقة، يجب أن تُواصل الولايات المتحدة ممارسة الضغط على العراق لضمان حماية الصحفيين والمسؤولين الاستقصائيين من الجماعات التي تتولى الآن مقاليد السلطة، والتي استهدفت في السابق أولئك الذين يفضحون فساد الميليشيات أو مخالفاتها. كما يجب أن تموّل واشنطن هؤلاء الصحفيين والمحققين وتدرّبهم وتدعمهم عند الإمكان، بما أن جهودهم هي التي ستوفر الآن الكثير من المعلومات التي يحتاجها العراقيون لمحاسبة حكومتهم (والميليشيات).
فهم جهود الاستيلاء على الدولة. يجب أن تصمم الولايات المتحدة أيضاً عملية جمعها للمعلومات الاستخباراتية المفتوحة المصدر والسرية في العراق – التي تبقى مهمة جداً – لكي تُناسب فهم أساليب الميليشيات في الاستيلاء على الدولة. ويعني ذلك تتبُّع جهود فرض السيطرة على إدارات حكومية محددة خاصة بالقطاعات، فضلاً عن الأنشطة التي تشمل الاستيلاء على القضاء، وتصميم الإصلاحات التشريعية، والجهود المبذولة من أجل رد الاعتبار للمجرمين المدانين أو الجهات الخاضعة للعقوبات الدولية من أفراد ومنظمات.
مقاومة رد الاعتبار لمنتهكي الحقوق. من الضروري مقاومة جهود رد الاعتبار هذه بشكل خاص في ظل غياب الالتزام الحقيقي بالعمليات الديمقراطية وسيادة القانون. يجب وضع حدود لما ستقبل به الولايات المتحدة: فقد عوقب معظم الأفراد الخاضعين للعقوبات لأنهم ارتكبوا انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان أو قتلوا عناصر أمريكيين. فلا يجوز التغاضي عن أفعالهم، إذ لن يؤدي ذلك على الأرجح سوى إلى زيادة قوتهم ونفوذهم، وسيُهان الضحايا في هذه الحالة، بينما سيَضعف تأثير الردع الذي تُحدثه العقوبات.
مراقبة الحرب القانونية المحتملة عن كثب. أخيراً، يجب التدقيق في الأحكام القضائية والتشريعات المقترَحة بعناية خاصة كلما سمحت الفرصة بذلك، ويجب أن تتلقى البرامج المتخصصة دعماً أمريكياً من أجل مراقبة السلطة القضائية الفاسدة في العراق. يجب الإعلان على نطاق واسع عن الجهود المبذولة لترسيخ قوة الميليشيات، أو إلحاق الضرر بالمؤسسات الديمقراطية في العراق، وذلك من أجل منع النظام الحالي، الذي تديره حكومة أقلية، من إحكام قبضته بشكل دائم على الحياة العراقية.
كريسبين سميث هو باحث يركز على الأمن العراقي وقانون النزاعات المسلحة. وأي آراء يتم التعبير عنها خاصة له فقط. مايكل نايتس هو “زميل برنشتاين” في معهد واشنطن وأحد مؤسسي منصة “الأضواء الكاشفة للميليشيات” التابعة للمعهد. وتم نشر هذه المقالة في الأصل على موقع “جست سكيوريتي”.
المصدر: معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى