يعود السفير الأميركي، مايكل راتني، بمهمة جديدة إلى الشرق الأوسط، من خلال توليه منصب سفير بلاده في السعودية، وهذا خبر يصعب فك ارتباطه بما سبق وأن تولاه الرجل من مهام في دول المنطقة (سورية وقطر وإسرائيل) أو تخصّها، ولعل أكثر ما يرتبط بالسوريين منها، عمله السابق في الملف السوري من جهة، وبسبب أن الرياض لا تزال تمثل مركز ثقل في الحراك العربي، في ما يخصّ الصراع في سورية، وملف التطبيع مع النظام السوري من جهة مقابلة، إضافة إلى أن الرياض لا تزال تحتضن مقرّ الهيئة العليا للتفاوض، رغم تعطّل دور هذه الهيئة، مع توقف جولات التفاوض في اللجنة الدستورية المشتركة والمشكّلة من ممثلي المعارضة والنظام السوري.
يقع اسم السفير مايكل راتني ضمن مجموعة المؤثرين في الملف السوري، رغم أنه كان ثالث المبعوثين الأميركيين إلى سورية بين يوليو/ تموز 2015 ومارس/ آذار 2017، وذلك لما شهدته تلك المرحلة من عمر الثورة السورية من متغيرات عميقة، وتداخلات كثيرة لأدوار الدول المتدخّلة في الصراع السوري، سياسياً وعسكرياً، حيث رافق وجودُه تنامي الدور العسكري الروسي المباشر في سورية، وشهد بعد توليه منصبه بأشهر قليلة أول ضربة جوية روسية ضد فصائل المعارضة في حلب (أكتوبر/ تشرين الأول 2015)، وصولاً إلى معركة حلب الحاسمة التي انتهت بهزيمة كارثية لمسلّحي المعارضة، وتسليم حلب للنظام، وتشريد مئات آلاف السوريين، وما تلا ذلك من اختلاق مساري أستانة وسوشي برعاية ثلاثية روسية – إيرانية – تركية، ثم عمليات عسكرية تركية بدءاً من “درع الفرات” (2016) وما تلاها من متغيرات الدور التركي في القضية السورية.
يمكن القول، من خلال وجودي في قيادة الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية بين عامي 2016 و2017، إن المعارضة خبرت السفير راتني عامين، وإنه، خلال تواصله معها، بشقّيها السياسي والمسلّح، لم يتأخّر في زجهم مباشرةً أمام حقائق السياسة الأميركية في المنطقة، من دون أن يكلف نفسه عناء استخدام المجاملات الدبلوماسية وطرقها، بل سعى لتسمية الأشياء بمسمّياتها، ولم يوارب عندما طالب المعارضة المسلحة مباشرة بالانفصال عن جبهة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) قبيل معركة حلب وبعدها، ومن دون اللجوء إلى مخاطبتها كما يفترض عبر “الائتلاف”، مؤكّداً أن الإبقاء على الارتباط بها يعطي روسيا الذريعة لشنّ هجومها المتكرّر على حلب، ويبرّر ابتعاد الغرب عن مناصرة الثورة السورية.
عمل راتني على رأب الصدع بين “الائتلاف” و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، وأوضح غير مرّة أهمية استيعاب أطياف المعارضة الكردية، وخصّ بذلك “قسد”، إلا أن قرار المعارضة بالرفض أدّى إلى توجّه الدعم الأميركي العسكري بكليته إلى مسلحي “قسد” التي قبلت أن تكون الذراع العسكرية لمحاربة عناصر تنظيم الدولة الإسلامية في المنطقة، بينما رفض “الائتلاف”، ممثلاً بهيئة الأركان آنذاك قبول شرط تحديد أولوية الجيش الوطني لمحاربة الإرهاب على أي أولوية أخرى، ومنها محاربة النظام السوري، ما أفقد فصائل المعارضة داعمها الرئيسي، ومنح الأكراد فرصة إنشاء الإدارة الذاتية تحت الحماية الأميركية، ما قد يحمّله جزءاً من مسؤولية الرعب الأمني التركي، الذي نما مع تصاعد نفوذ “قسد” وتطور إمكاناتها القتالية على الحدود التركية.
ركّزت الولايات المتحدة طوال السنوات الماضية على أهمية الدور الروسي في حل الصراع السوري، حيث قال راتني صراحة، في معرض رسالة منه إلى فصائل المعارضة عن قرب التوصل إلى اتفاق أميركي – روسي لوقف إطلاق النار في عام 2016: “تسألنا المعارضة باستمرار كيف يمكن لروسيا أن تظلّ راعية للعملية السياسية بينما تتصرّف، في الوقت نفسه، كطرف أساسي في الصراع؟ نحن نسأل أنفسنا هذا السؤال كل يوم!… كلانا ليس لديه أي خيار سوى التعامل مع الآخر، وهذا يعني أن على الولايات المتحدة وروسيا أن تعالجا مخاوف بعضهما”، علماً أن الاتفاق فشل وذهب أدراج الرياح.
وعلى الرغم من أن مواقف راتني أضعفت من مكانة المعارضة السياسية، وكنت قد تناولت مواقفه في أكثر من مقال في “العربي الجديد”، والانعكاسات السلبية لتصريحاته على واقع المعارضة، كان يفترض بـ”الائتلاف” (ممثل المعارضة السورية الرسمي) منذ ذلك الحين أن يبادر إلى مراجعات حقيقة لأسباب تدنّي مكانته لدى الدولة الأكثر فعالية في الملف السوري، لا أن يتجاهل الرد على ما أشار إليه راتني من ملاحظاتٍ على المعارضة.
ربما مما يسجّل للمبعوث الأميركي أنه كان شديد الوضوح بشأن موقفه من جبهة النصرة، قبل معركة حلب وتبعاتها الكارثية، إلى لحظة بثه بيانه في ختام مهمته (10 مارس/ آذار 2017) بكل تفاصيله، ولهجته الحادّة، والمعبّرة عن مدى فشل المعارضة في إدارة أحد أهم ملفاتها، وهو تحييد الثورة عن أي ارتباط بتنظيمات موسومة بالإرهاب، لتبقي على التعاطف الدولي معها، مندّداً بدور الكيانات التي عملت على السكوت عن ممارسات هذه الجبهة، بل استنكر عليها اعتبار جبهة النصرة أنها تشكل ثقلاً في عملية محاربة النظام السوري. وقد حمّل راتني (وهو محقّ) هذا التنظيم، وضمناً كل مناصريه، مسؤولية تدمير الثورة السورية، معتبراً أنها وجه آخر للاستبداد، وواجهة لتنظيم القاعدة الإرهابي، وذكّر بما فعلته من محاربة رموز الثورة واعتداءاتها على فصائل الثورة، وأن خطرها لا يطاول الغرب وحده، بل الإسلام والمسلمين.
تأتي عودة راتني إلى المنطقة العربية في وقت يستحضر فيه السوريون الذكرى الـ12 لانطلاقة ثورتهم، وتوالي الكوارث عليهم، من راتني إلى ما بعده، ما يجعل من خبر تولّيه المنصب الجديد مرتبطاً في أذهان السوريين بمناصبه السابقة، واختباره مواقع كل الأطراف في المنطقة، وكذلك الدور المحوري للسعودية في المعادلة العربية – العربية. وهو في موقعه الجديد في قلب العاصمة الرياض سيكون من جديد في قلب ملفات الصراع في الشرق الأوسط، وأحدها الملف السوري الذي يفتح الأبواب جنوباً على إسرائيل، وشمالاً على تركيا، وما بينهما تتربّع إيران بالوساطة الصينية المستحدثة، فإلى أي جانبٍ يميل في تفعيل العلاقات الأميركية – السعودية، سيكون لواقع الصراع السوري وضرورات إعادة ملف الحل السياسي إلى الواجهة أحد عناوينه البارزة، حتى لا تبقى سورية بؤرة المرض المعدية!
المصدر: العربي الجديد