” الانتخاب ” امتلاك المواطن الفرد حق الاختيار ، وتعني حق التصويت ، وهو أحد منجزات الثورة الفرنسية . عبَّر الانتخاب عن انتقال حق التصويت من الأعلى إلى الأرض ، من الملك المطلق إلى الإنسان الفرد ، من ” البابا ” إلى المواطن ، فالانتخاب ابن النهضة الأوروبية هذا الانجاز الكبير على سلم الحضارة ، لم يكن ممكناً تحقيقه لولا حزمة من الأمور : كانتصار الطبقة البرجوازية والتوحيد القومي ، واندحار عهد الإقطاع حليف الكنيسة ، والإصلاح الديني ، وثورة ” البروتستنت ” ، وانتشار فلسفة التسامح ، وثورة العقل محل النقل ، وتحرره ووقوفه منتصباً على الأرض . الانتخاب ليس ابن الحرية وثورة العلم والعلوم الإنسانية وحسب ، بل رافعة صيرورة بناء الدولة والوطن ، وامتلاك حق المواطنة المتساوية ، فأخذ الإنسان المواطن ، الفرد حرية التعبير ، واحترام حقوق الآخرين ، ووقفت خلفه تحميه قوى الرأي العام . هذا باختصار ما حدث في الغرب شمال البحر الأبيض المتوسط خلال ثلاثة قرون الأخيرة ، فحققت أوروبا نهضتها ، ودخلت عصر الحداثة ، وبدأت تشتغل على ما بعد الحداثة ، فأصبح صوت المواطن يقرر مصير الحزب الحاكم والمعارض ومصير المرشح لرئاسة الدولة ، فالمواطن عبر صندوق الانتخاب أخذ يقرر شكل الدولة ونظامها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي ، ومجموع المواطنين شكلوا الشعب ، وهو الذي قرر مؤخراً انسحاب بريطانيا من الوحدة الأوروبية بنصف +1. هناك عددٌ من الأسئلة تتعلق بآلية الانتخاب لا بد من النظر فيها : – العملية الانتخابية ليست طاولات وموظفين وغرف سرية ومرشح وناخب ، الانتخاب خلاصة درجة وعي ونضج المجتمع ، وهو حقٌ للمواطن وواجب عليه . – لماذا أعلى نسبة لفوز الرئيس في دولة في الغرب بالكاد تصل إلى نصف +1 أو ببضعة أصواتٍ أخرى ، بينما يفوز الحاكم العربي بـ99% من الأصوات ، فهل الأول أقل شرعية من الثاني ، ويستفتى عليه بلا منافس ؟. – لمَ تتم عملية تداول الحكومة والبرلمان والمسؤولية بين الأحزاب في الغرب بسلاسة وبهدوء وببرامج سياسية ، بينما في المنطقة العربية هي مجرد ديكور وتبديل وجوه مع بقاء بنية الدولة والحكومة على ما هي عليه وبدون أي تغيير ، ولا مجال لتواري حاكم عربي إلا بالموت أو بانقلاب عسكري وبالدم ؟. – كيف تحولت الأنظمة العربية الجمهورية عند العرب إلى أنظمة جمهورية وراثية ؟. – ينهمك معظم المواطنين في الغرب أثناء العملية الانتخابية بدراسة أية مادة من الدستور عند طرحها للتعديل على سبيل المثال ، بدراسة مقارنة ، بينما يستفتي معظم المواطنين العرب ، حتى المثقفون وحملة الشهادات الجامعية بالبصم على دستورٍ لم يفتحوا دفتيه ، ولم يقرأوه ، بما فيهم المحامون ، ويبصم قطيع من السديم البشري ” بعهرٍ ” بالدم لإعادة استفتاء مستبدٍ يدمر المجتمع والدولة والوطن ، وعلى الأقل يقف سداً بوجه التقدم . أخيراً لا بد من البحث عن عددٍ من الأجوبة لأسئلةٍ أخرى : – لماذا أخذت الحاجة الوطنية إلى التغيير في المنطقة إلى ربيع عربي ، تأخر أكثر من ربع قرنٍ عن أوروبا الشرقية ، فاستنفرت قوى في الداخل ومن الخارج ودول لوأده واغتياله ؟. – أليس الربيع العربي تعبيراً عن عطالةٍ في العملية الانتخابية للتغيير وتداول المسؤوليات والسلطة سلمياً بموجب القانون والدستور عبر صناديق الانتخاب ؟. – إن جنوب المتوسط وشرقه غربٌ أيضاً ، فالمفكر الجزائري د. محمد أركون يعترض على اعتبار العرب شرقٌ ، ويرى أننا غربٌ أسوة بشواطئ المتوسط الشمالية ، فمن بزوغ فجر الحضارة كانت شواطئ المتوسط مهدها ، تأثراً وتأثيراً وأخذاً وعطاءً بين شواطئه ، وشهدت حروباً دامية فيما بينها ، فنحن العرب والمسلمون مشاركون ومساهمون بنهضة الغرب ، ولنا كل الحق أن نأخذ منها اليوم مما يمكننا من اللحاق بركبها ، وكم سمي البحر الأبيض المتوسط بالبحر العربي والإسلامي .. – لم تمنح حتى اليوم الدولةُ العربية الإنساَن الفرد فيها صفة المواطنة كاملةً ، ولم يمتلكها كما يجب ، لغياب الدولة ” المستقلة “، ونعني بها المستقلة عن حيزات المجتمع الجغرافية والدينية والإثنية والطائفية . لا حرية ولا انتخابات ما قبل الدولة والوطن . – مازالت الانتماءات ما قبل الدولة والوطن تنخر وتنهش بجسدها وبجسد المجتمع والوطن والمواطن والإنسان ، فبدلاً أن تكون الألوان وتعددها إغناءً للدولة والمجتمع تشكل عناصر تفتيت وتشظي . – إن الحاكم في الدولة العربية هو من يقرر الحرب والسلم ، ومن يترأس المحكمة الدستورية العليا ، وبيده السلطات كافةً ، وحوله ثلةٌ من رجال الدين والمثقفين ومنظمات المجتمع المدني بما فيها النقابات والأحزاب المجوفة من الداخل ، لكنها عدة شغل الحاكم ليعيد بها شروط إنتاج النظام . – الدستور عقد اجتماعي بين دولة مستقلة ومواطنين أحرار ، صاغه وصوَّت عليه مواطنون أفراد ، فهل هذه هي سمات دستورنا ؟. – ” إن الاقتراع العام يؤدي إلى فرز أغلبية تتجاوز رأي الفرد ، وتجبر كل فردٍ على احترامها ، حتى لو كان قد صوت ضدها … إن هذه السيادة العليا تؤمن للشخص بعض الحماية ضد التطرفات الاستبدادية للسلطة الحاكمة ” 1 – مازلنا لا نميز بين التخلف عن ركب الحضارة بخطوات وبين التأخر التاريخي ، فزادت الفجوة الحضارية بين الغرب وبيننا ، حتى جثم التأخر التاريخي فوق صدورنا وفي رؤوسنا ، فعندما نمتلك مفاتيح الخروج من حلقة التأخر ، وندخل العصر والحداثة ، نمارس عن جدارة حق الانتخاب . – تبقى العملية الانتخابية مدرسة نتعلم منها وفيها ، ونراكم تجارب ، لتصبح الانتخابات تقرر حقيقة عن توجهات الشعب وحضوره.
. 1-محمد أركون :تاريخية الفكر العربي الإسلامي ترجمة هاشم صالح صـ19