الرياض استطاعت الإبقاء على الحوار لدى المستوى الأمني كمرحلة اختبار نوايا مع إعطائه مهلة شهرين للانتقال إلى السياسي.
لا شك أن الإعلان عن توصل السعودية وإيران إلى اتفاق ينهي القطيعة بينهما التي استمرت لنحو سبع سنوات، شكل مفاجأة لأطراف عدة في الأوساط السياسية الإقليمية والدولية على حد سواء، وحتى لدى حلفاء طهران في الإقليم. وقد زادت الرعاية الصينية لهذا الحدث أو الإنجاز من هذه الصدمة، لأنها جاءت على غفلة من الجميع، وفتحت الطريق أمام بكين للدخول على ساحة النفوذ السياسي للولايات المتحدة الأميركية، التي أكدت أنها كانت على علم بما يجري من جهود وإمكانية التوصل إلى مثل هذا الاتفاق.
الوصول إلى التوقيع، مر بالكثير من المراحل المعقدة والمتشعبة، بخاصة وأن المبادر لإنهاء هذه القطيعة كان الجانب الإيراني الذي وصل إلى قناعة واعتراف ضمنيين بالخطأ الاستراتيجي الذي أسهمت منظومة السلطة بحصوله قبل نحو سبع سنوات عندما سمحت لبعض الجماعات المتطرفة بخرق كل الأعراف الدبلوماسية والمواثيق الدولية التي ترعى الممثليات الدبلوماسية، بالاعتداء على السفارة السعودية في العاصمة طهران وقنصليتها في مدينة مشهد. وهو الاعتداء الذي جاء مكملاً للدعم الذي كانت تقوم به طهران لجماعة الحوثي في اليمن، وما تشكله من تهديد للأمن الاستراتيجي والقومي للرياض.
اعتراف ضمني
المبادرة الإيرانية، والتي أخذت طابعاً ملحاً منذ عام 2018، لإعادة ترميم علاقاتها مع السعودية، من خلال تكليف أكثر من جهة إقليمية بلعب دور الوسيط ونقل الرسائل إلى القيادة السعودية، بخاصة العراق، شكلت اعترافاً ضمنياً من الجانب الإيراني بالخطأ الذي حصل، على الأقل في الاعتداء على السفارة والقنصلية، ثم تطور الأمر وانتقل لمحاولة البحث عن مخارج للأزمة اليمنية التي باتت تستنزف إيران مادياً وسياسياً، وتؤثر على ما تبقى من علاقاتها مع المجتمع الدولي. ولم يتردد المسؤولون الإيرانيون، بخاصة في الجهاز الدبلوماسي، في تأكيد رغبتهم الجادة في إعادة العلاقات وحل الخلاف مع الرياض وإعادة استئناف العلاقات الدبلوماسية والسياسية معها.
الرغبة الإيرانية للانفتاح على الرياض، كانت أيضاً محل وموضع جدل وصراع بين مراكز القرار داخل النظام الإيراني. ففي مقابل الموقف الرسمي الذي عبرت عنه وزارة الخارجية على لسان الوزير حسين أمير عبداللهيان، وكان آخرها قبل نحو شهر عشية اجتماع قمة بغداد 2 في الأردن، خرج قائد قوة القدس إسماعيل قاآني في اليوم نفسه ليهاجم السعودية وقياداتها بلغة بعيدة عن الدبلوماسية، وتحمل الكثير من التهديد والتهجم البعيدين عن أخلاقيات التخاطب السياسي والدبلوماسي.
التطور الأخير الذي انتهى بالإعلان عن الاتفاق من بكين، لا شك أن التحضير له بروتوكولياً قد وضع على نار حامية بعد الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس الصيني إلى العاصمة السعودية في ديسمبر (كانون الأول) 2022، واستكمل بالزيارة التي قام بها الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى بكين منتصف الشهر الماضي فبراير (شباط) 2023. إلا أن المسار الذي أوصل إلى هذا التوقيع، كانت خيوطه تنسج بعيداً من أعين السياسة، عززتها بوضوح طبيعة الوفدين السعودي والإيراني المشاركين في جولات الحوار الخمس التي استضافها العراق وحصرها بالجهات الممثلة للأمن القومي في كلا البلدين.
الجدل الداخلي
وقد يكون من الطبيعي أن تعمد القيادة السعودية إلى تكليف مستشار الأمن القومي مساعد بن محمد العيبان، انطلاقاً من أن الملفات التي من المفترض أن تكون على طاولة الحوار والتفاوض مع الجانب الإيراني، ذات طبيعة أمنية وذات بعد قومي، بخاصة ما يتعلق بالدور الإيراني في الساحة اليمنية، وأن العيبان هو نجل أول وزير استخبارات وتولى مهمة ترسيم الحدود بين السعودية واليمن. وهذا الموقف المتشدد من القيادة السعودية في إبقاء الحوار والتفاوض مع طهران على المستوى الأمني، جاء على العكس من الرغبة الإيرانية التي حاولت نقل الحوار إلى المستوى السياسي والدبلوماسي منذ الجولة الثانية في بغداد.
يمكن القول إن الرياض استطاعت فرض إرادتها على الحوار وحتى الاتفاق الموقع، والإبقاء عليه لدى المستوى الأمني، كمرحلة اختبار نوايا مع إعطائه مهلة شهرين للانتقال إلى المستوى السياسي، في إطار خريطة طريق من المفترض أن تشهد تنفيذ بعض الخطوات التي تؤسس وتساعد على اتخاذ خطوة متقدمة وتمهد الطريق أمام لقاء وزيري خارجية البلدين.
أما في الجانب الإيراني، فإن لجوء النظام إلى وضع ملف التفاوض والحوار لدى المجلس الأعلى للأمن القومي من الجولة الأولى للحوار وصولاً إلى تولي أمين عام هذا المجلس علي شمخاني مهمة التفاوض النهائي والتوقيع على الاتفاق في الصين بعد مفاوضات استمرت خمسة أيام، يؤكد أن ملف التفاوض يخضع مباشرة لإشراف المرشد الأعلى للنظام علي شمخاني ممثله في مجلس الأمن القومي، ما يحمل على الاعتقاد بأن القيادة الإيرانية سعت لإعطاء المفاوضات والاتفاق أعلى مستوى من المصداقية والجدية، وتحصينه من إمكانية العبث الذي تمارسه بعض القوى الداخلية في تعاطيها مع ملفات استراتيجية في دائرة العلاقات الخارجية والدولية، أي التأكيد على إبعاد هذه المفاوضات عن الجدل الداخلي بين القوى السياسية المتصارعة على السلطة، بالإضافة إلى حمايته من تدخلات ومحاولات عرقلته وإفشاله من بعض أجنحة التيار المحافظ، التي تعارض أي محاولات تقارب ليس بين إيران ومحيطها العربي، بل حتى مع المجتمع الدولي والولايات المتحدة الأميركية في مفاوضات الملف النووي.
محاولة القيادة الإيرانية تحصين قرارها بالذهاب إلى حوار جدي مع السعودية والعودة إلى تطبيع العلاقات وفتح مسار من التعاون الثنائي والإقليمي، ووضعه في مستوى الأمن القومي، لا شك أنه يصدر عن حاجة إيرانية في ظل الانسداد وما تواجهه من عراقيل أمام مساعي إعادة إحياء المفاوضات مع الولايات المتحدة الأميركية حول الملف النووي، ومحاولات الخروج من تأثيرات العقوبات الاقتصادية التي باتت تهدد استقرارها الداخلي. وأن أي تنازلات أمام السعودية من أجل استعادة العلاقة معها ستكون أقل ضرراً وسلبية من خسارتها كل ما تملكه من أوراق إقليمية عملت لعقود على الاستثمار فيها.
المصدر: اندبندنت عربية