الكوادر الطبية… محنة ملائكة الإنقاذ في الشمال السوري

عدنان الإمام وعماد كركص

عملت الكوادر الطبية في مناطق الشمال السوري لساعات طويلة متصلة منذ وقوع الزلزال المدمر، ولم يتمكن أيهم من النوم لأوقات كافية طوال أيام عدة بسبب ضغوط العمل الهائلة، إضافة إلى البعد عن عائلاتهم في ظل الكارثة التي نكبت الجميع.

على مدار أكثر من أسبوع منذ حدوث الزلزال، وبعد أيام من توقف عمليات البحث عن ناجين تحت الأنقاض، يواصل الأطباء والممرضون والفنيون والكوادر الإدارية في مشافي إدلب وحلب وأريافهما، استقبال آلاف المصابين، لتضميد جراحهم، وتقديم الرعاية لهم من خلال خدمات الإسعاف والعمليات الجراحية، من دون انتظار أي مردود، تدفعهم إنسانيتهم، ويتحصنون بشرف المهنة.

يعمل الممرض عبد الرحمن شهاب في مشفى أطمة الخيري شمالي إدلب، وتوجه مثل بقية الكوادر إلى المشفى فور حدوث الزلزال، تاركاً عائلته في المنزل، فالمهمة التي تقع على عاتقه هي إنقاذ من يمكن إنقاذهم من المنكوبين. يقول لـ”العربي الجديد”: “إنقاذ المصابين أهم من كل شيء، ولا ندخر جهداً أو وقتاً لإنقاذ أي مصاب، وتقديم الرعاية لأي موجوع لتخفيف الآلام عنه، لكن ما يربكنا هو ضعف الإمكانيات، ونفاد المستلزمات المطلوبة للإسعاف، والجميع يعرف أن إمكانياتنا محدودة في مشافي الشمال السوري، ورغم ذلك، فعلنا الممكن حتى لا يشعر أي مصاب بضعف إمكاناتنا اللوجستية”. يضيف: “أقسى ما عشته خلال الاستجابة للكارثة كانت حالة ناجٍ بقي مدة 56 ساعة تحت الأنقاض. راقبت حالته مدة يومين في قسم العناية المركزة إلى أن كتبت له النجاة، ليحول إلى المشافي التخصصية في طب العظام لمعالجته من كسور”.

ترك عشرات الكوادر الصحية عائلاتهم لإنقاذ من يمكن إنقاذهم من المنكوبين

خلال أيام الكارثة، علم عبد الرحمن بوفاة العديد من أقاربه بسبب الزلزال، سواء في تركيا أو سورية، إذ فقد ثلاثة من أبناء عمه مع عائلاتهم، لكنه قرر ألا يستسلم للحزن، ويركز على من كتب لهم البقاء ممن يحتاجون الإسعاف والعناية ليبقوا.

خلدت المسعفة سمية عبد الغني إلى النوم قبل خمس دقائق من حدوث الزلزال، واستفاقت على الهزة، لكنها تأخرت عن الذهاب إلى المشفى بسبب تصدع جدران منزلها التي منعت فتح بابه الحديدي. تعرضت جدران المنزل للضرر، وتناثر الأثاث، وبعد ساعات قليلة، كانت في المشفى مع زملائها للمساهمة في تخفيف وطأة الكارثة عن الناجين.

تقول سمية لـ”العربي الجديد”: “كانت لحظات حدوث الزلزال الأولى صعبة. حاول أولادي منعي من الخروج، لكن لدي مهمة إنسانية في المشفى، وأعرف أن الكثير من المصابين سيكونون هناك. اخترت القيام بواجبي، وذهبت إلى المشفى مشياً على أقدامي يرافقني ابني، وفي الطريق تعثرت خطواتنا من جراء هزة ارتدادية، لكن أكملنا الطريق، وخوفاً على سلامتي بقي ابني معي في المشفى، ورفض العودة إلى المنزل ليكون مع شقيقته، وهناك بدأ المساهمة في إسعاف الجرحى إلى داخل المشفى”.

وتصف الوضع عند وصولها إلى المشفى بـ”المفجع”، تقول: المصابون بالمئات، والمواد اللازمة للإسعاف شحيحة، وبعضها نفدت، وكما نستعين بالكرتون لتثبيت كسور بعض المرضى لعدم وجود المواد الطبية اللازمة. تعرضت لعدة مواقف مؤثرة خلال الاستجابة للكارثة، منها عندما اضطررت لخلع وشاحي الصوفي الذي أتدفأ به ليكون حجاباً لإمرأة وصلت إلى المشفى بلا حجاب، وطالبت بتحجيبها، وعندما طلب أب مني نزع خاتم ذهبي من يد ابنته المتوفية، ليكون معينا له في الأزمة، وجاءت سيدة في حالة سيئة إلى المشفى، لكنها أضاعت ابنتها بعد وصولها، فذهبت أبحث عن الطفلة حتى عثرت عليها. بكينا كثيراً، فالمشهد فوق الوصف، وفاجعة بكل ما للكلمة من معنى. فقدت 17 شخصاً من عائلتي الكبيرة، لكنني تأثرت بجميع من ماتوا أمامي، فمصيبتنا جميعاً واحدة”.

أوضاع مأساوية في الشمالي السوري فاقمتها تداعيات الزلزال

ويقول فني التخدير، محمود الكسم، إن الخوف خيم على أولاده وزوجته خلال اللحظات الأولى للزلزال، لكنه عندما تأكد من سلامتهم تركهم عند جيرانه في مدينة حارم، وخرج إلى الحي ليرى حجم الدمار. يضيف لـ”العربي الجديد”: “توجهت إلى منزل صديقي الذي انهار المنزل عليه، وشاركت في إخراجه، ثم إسعافه إلى أقرب نقطة طبية، وقدمت مع كادر النقطة ما يمكننا من الإسعاف، لكن لم تكتب له النجاة. بعدها ساهمت في إسعاف كثير من المصابين في تلك النقطة، ثم توجهت إلى المشفى الذي أعمل به”.

ظل محمود مستيقظاً بعد حدوث الزلزال نحو 24 ساعة متواصلة، ويؤكد: “الشعور بالتعب كان يتلاشى عندما يطلب أب منك أن تسعف ابنه الذي يقف على أعتاب الموت، فلا يمكنك إلا أن تنسى حاجتك للراحة والنوم، لعلك تساهم في إبقاء روح على قيد الحياة”.

خرجت الممرضة حلا عبد السلام، لحظة حدوث الزلزال، مع عائلتها إلى الشارع في حالة من الرعب، شأنها شأن جميع سكان المناطق التي ضربها الزلزال، لكن لم تمضِ أكثر من 40 دقيقة على حدوث الزلزال، حتى تركت طفلتها عند عائلتها، وتوجهت إلى المشفى لتدخل قسم الإسعاف، فتجد عشرات المصابين.

تقول لـ”العربي الجديد”: “حاولت مساعدة الحوامل، وعملنا جميعاً على تخفيف الصدمة النفسية عن المصابين، إلى جانب تقديم الإسعافات الأولية اللازمة. أكثر ما أثر فيّ كانت امرأة دخلت المشفى بإصابة بليغة في الفخذ، لكنها نسيت إصابتها لتسأل عن أولادها، حاولت مواساتها مؤكدة أنهم سالمين، لكن الكثير من الناس شاهدوا أولادهم وذويهم إما أمواتاً أو بحالة حرجة، ما فاقم حجم صدمتهم. مريضة أخرى كانت مع قريبتها، وكانت تسأل دائماً عن قريبتها، لكنها فجعت عندما أخبرناها أنها فارقت الحياة بسبب إصابتها بالدماغ”.

انهارت زميلة حلا في المشفى، ودخلت في نوبة بكاء بعد أن رأت هول الفاجعة وأعداد الضحايا والمصابين، فأخبرتها حلا أن الوقت ليس مناسباً للبكاء، وأن الأولى تخفيف حجم الكارثة، تقول: “من كثرة ما كنا مشغولين مع الجرحى والمصابين، لم نكن نشعر بكثير من الهزات الارتدادية القوية، والتي علمنا بها في ما بعد”.

كان الطبيب مهيب القدور، مدير مشفى أطمة الخيري، يتوقع حجم الكارثة فور حدوث الزلزال، كونه تعامل مع أحداث الحرب في سورية خلال السنوات الماضية، التي شهدت الكثير من الاستهدافات بالقصف والطيران من قبل النظام وروسيا، ما جعله يجهز الكوادر الطبية لأي طارئ. يقول لـ”العربي الجديد”: “بعد عشر دقائق على الزلزال، أمنّت على عائلتي، وتوجهت إلى المشفى، وعندما وصلت كانت الإصابات تتوارد. الوضع كان يشبه يوم القيامة، أو قيامة صغرى، وشعرنا أن الوقت ليست له قيمة، فيجب علينا العمل لأطول وقت ممكن كي ننقذ من يمكن إنقاذهم. وبصفتي مديراً للمشفى، ومسؤولاً عن العديد من الأطباء والممرضين والفنيين والعاملين، كنت أسأل عن أحوالهم، فيقولون لي إن شقيقة هذا الممرض تحت الأنقاض، وممرض آخر لم يحضر لأنه من بين الوفيات. كنت أتفقد الكادر من خلال رؤية وجوههم”.

يضيف القدور: “في مكان منكوب كشمال غربي سورية، نحن مضطرون للصمود، والتحلي بالمسؤولية، كون كثيرين يعولون علينا، وكوني المسؤول عن الكادر، علي متابعتهم ليكونوا على قدر الاستجابة للكارثة. جهود الكوادر الطبية في المنطقة لا يمكن تقديرها، نحو 500 طبيب اختصاصي، ومعهم كثير من الخريجين الجدد، بالإضافة إلى الممرضين والفنيين والعمال، كلهم كانوا في مواقعهم، ونسوا حاجاتهم الإنسانية العادية مثل الأكل والشرب والراحة والنوم. عانينا نقصاً شديداً في المستلزمات الطبية اللازمة بسبب قلة الدعم في الفترة الأخيرة، وكانت المخازن شبه فارغة من الأدوية والمواد اللازمة للتشغيل، وهذا ما جعلنا نخترع حلولاً لتقديم المساعدة للجرحى”.

وطلب الطبيب قدور من عائلته السماح لأنه تركهم بعد حدوث الزلزال، لكنه أشار إلى أن مهمته كانت أولى في إدارة فريقه وإنقاذ الناس، منوهاً بأن ذلك لا يوازي ما تعرض له العديد من الكوادر الطبية الذين منهم من فقد حياته أو عائلاته بأكملها.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى