عندما التقى هاملت ونيتشه فوق زلزال سورية

د. أحمد سامر العش

رأى فريديريك نيتشه فيلسوف الغرب الأول في الأخلاقيّة المسيحيّة نقيضاً لأخلاقيّة روما القديمة. فأخلاقية روما بالنسبة لنيتشه تتمثل في السيّد المحارب والأرستوقراطيّ الذي تصدر قراراته في الحياة عن قوّته، لا عن ضعفه. أمّا المسيحيّون واليهود ممّن كانوا، في ظلّ الإمبراطوريّة القوية، فيراهم نيتشه مسحوقين عديمي القوّة. وحين فشل المسيحيّون واليهود في السيطرة المادّيّة على عالمهم حوّلوا ضعفهم إلى فضيلة، تماماً كمأثور الثعلب الذي لم يستطع الوصول إلى العنب في أعلى الشجرة، فقال إنّ العنب حامض. فالأخلاقيّة المسيحيّة- عند نيتشه- أخلاق عبيد وقطيع، يعتنقها الضعفاء والمستَعبَدون وذوو النقص من كلّ نوع. لكنّ تلك الأخلاقيّةَ هي التي سادت التقليدَ الثقافيَّ والقيميَّ الغربيَّ على مدىً طويلٍ سيطرت فيها الكنيسةُ على كافة نواحي الحياة، وقد قدّمت للغرب فكرةً مفادُها أنّ الناسَ كلَّهم متساوون في نظر اللهَ بغضّ النظر عن قدراتهم، هكذا، ومع انتصار «يهودا على روما»، ألحقتِ المسيحيّةً بالثقافة الغربيّة أكبرَ الإساءات من وجهة نظر نيتشه. ونيتشه، لئن شاء أن يضع حدّاً لهذه الحال، كان بديلُه يكمن بالرجوع إلى أخلاقيّة البطل الهوميريّ والقيم الحربيّة للعالم القديم. فهذا وحدَه ما يتيحُ إنتاج كائناتٍ إنسانيّة متفوّقة ومتحرّرة من براثن أخلاقيّة العبيد ومن ضوابط أيّ إلزام ميتافيزيقيّ. ومن هنا أنتج نيتشه في المقالة الثالثة والأخيرة من كتابه الصغير «أصل الأخلاق» (1887)، ما سمّاه «المثال الزهديّ»، كما يتجسّد في الكاهن، بالغاً أعلى تجلّياته في القدّيس. فهو الذي يتطوّع لإنزال الألم بنفسه عن طريق العزلةِ والعفّةِ وإماتة الجسد والسعي وراء العذاب وتمجيد الفقر… وفي عرفه ينبغي نبذُ العالمِ ومعاملتُه كما لو كان خطأً وارتكاباً للمعصية، وعندها ينبغي الانشدادُ إلى ما وراء العوالم (hinterwelt) وما بعد الحياة.

لكنّ صاحبَ «هكذا تكلّم زرادشت»، رغم كرهِه للكاهن بوصفه وسيطَ هذه العمليّة والطفيلي الأول، لا يُخفي استحسانَه له. فعنده أنّ المهمّة التي يؤدّيها إنّما تستدعي هي أيضاً «إرادة القوّة»، أي نظريّة نيتشه الأثيرة التي رآها التعبير الأرفع عن الإنسان حين يهزم فوضى الحياة، ويفرض نظامه عليها. فرجال الدين هؤلاء إنّما يوظّفون ثقافةَ القطيع والعبيد لمصلحة سلطتهم التي لا يقيم فيها هؤلاء، ولا يمارسون شيئاً من الزهد. وهذا إنّما يظهر واضحاً في استعدادهم السخيّ لتكفير الآخرين أو الحكم عليهم بالموت، كما أنّهم يقودون الجماهير في تمجيدها للألم وإنكارها للحياة ، وفي تمكينها عبر إسباغ قيمة قصوى على ضعفها، ويحتفلون بسلطتهم هذه على الجماهير ويغدون مرجعيّتَها المطلقةَ في تقرير نظامِها الأخلاقيّ والقيميّ؛ هكذا يسيطرون على القطيع, ويحكمونه باستخدامهم أنواعاً مختلفةً من الأساطير والتقنيات الكلاميّة التي لا تعزّز إلاّ مواقعهم وبالتأكيد مواقعهم فقط.

بلغة أخرى، يكبَر رجلُ الدين ورجلُ العمل الإنساني بنتيجة تصغيره الآخرين واستضعافهم. ومن هنا نسأل هل يستحقّ هؤلاء إدانة نيتشويّة؟ وهل يستحقّون استحساننا لامتلاكهم «إرادة قوّة» يبنونها فوق جثثنا؟

من طرف آخر تبرز في المشهد الحالي شخصيةُ هاملت الذي يرسم ببراعة مزيجاً متناقضاً من الطموح، الجشع، الحبّ، العدالة، الانتقام، الكراهية، الندم، المسامحة، التعاطف مع المأساويّ، وعلاقة السلطة بالجنون… عبر كلِّ الأمكنةِ والأزمنة، فقد طاف هاملت بكل تأكيد فوق البشر في مأساة الزلزال التي نعيش هزاتها الارتدادية. «هاملت» لمن لا يعرفه، أميرُ الدانمارك، الذي رسم شكسبير مسرحيّته الشهيرة حول شخصيته بين 1599 و1602، باستلهام قصّة اسكندنافيّة قديمة رواها المؤرّخُ الدنماركيُّ ساكسو غرامّاتيكوس عن طفل يُدعى أملِث (Amleth)، رأى عمَّه يقتل أباه، فتظاهر بالجنون كي يُطمئن عمَّه، فحين كبِر ذبحه بسيف أبيه.

هاملت الذي يضع الإنسانَ الحائر، المثقلَ بالأسئلة، الذي يفكّر أكثر ممّا يبادر، في مقابل الإنسان الحاسم، المسكونِ بجواب فقير واحد، الذي يبادر من غير أن يفكّر، هو هاملت الذي يمثل حالَ البشرية التي يتردد صداها في كل الأزمنة، وآخرُها فوق أشلاء من يرقدون تحت ركام الزلزال. هاملت الذي استولى عنده تقليب الأمور على أوجهها، وتناسلت أسئلتُه وتراكمت التناقضاتُ التي يشخّص فيها معضلتَه الوجوديّة وتمزّقه بين الفكر والعمل. هو الكائنُ الذي نراه يطوف فوق المكان، وعلى شاشات التلفزيونات وصفحات التواصل الاجتماعي محاطاً برائحة الموت من كل جانب.

لكن لماذا استدعينا هاملت ونيتشه في زلزال سوريا؟ أم هم فعلاً كانوا هناك، وما يزالون؟ برأيي في زلزال سوريا ومابعده، حصل لقاءٌ نادر بين هاملت الممزق بين الفكر والعمل ونيتشه الذي أرجع الإنسانية إلى أخلاقيّة البطل الهوميريّ والقيم الحربيّة للعالم القديم، التي جسدها واقعُ الحال والمشاهد الكارثية للإنسانية، وهذا بالضبط ما كتبه البريطاني الشهير “ديفيد هيرست” في 10 فبراير حين قال:” أن تعاطيَ الاتحاد الأوروبي مع كارثة الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا قبل أيام أظهره بأنه بلا قلب، معتبراً أن هذا التكتلَ الإقليمي أضاع فرصةً كانت سانحةً أمامه لإظهار القيادة الأخلاقية والإنسانية أمام ملايين الناس”. وقال :”إن بريطانيا قدمت 2.7 مليار دولار من الأسلحة لأوكرانيا، و6 ملايين دولار فقط للإغاثة في كارثة حلت بـ23 مليون شخص في تركيا وسوريا. وعندها يسأل ديفيد هيرست مستهجناً: “هل هذه الأرقام حقيقية؟”، قبل أن يجيب: “على ما يبدو نعم”.

في القرآن الكريم يقول سبحانه وتعالى :” كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (البقرة -216). هذا يعني أن نهضةَ الغرب منذ القرن السادس عشر أدركتِ المعنى العميقَ الذي أراده نيتشه من ضرورة الرجوع إلى أخلاقيّة البطل الهوميريّ والقيم الحربيّة للعالم القديم، بينما فقده العالِم المسلم الذي انساق وراء المثال الزهدي . لقد تلبس هاملت في أيام الكارثة شخصياتِ كلِّ المسلمين الذين تمزقوا بين الفكر والعمل، فعجزوا عن إنقاذ أنفسهم، ومايزالون يعيشون تحت تأثير مخدرٍ يسمى المثال الزهدي.

بالنسبة لهاملت الذي يفكر ويحلل في تردد يضيع الماضي وتُمحى الذكريات إلا من دماغ أصحاب الكارثة. تضيع الدفاتر القديمة والبومات الصور والوثائق الرسمية. يصبح الإنسان متحرراً من المادية وعلب الحياة المصنعة، القبور الأسمنتية تدفن الأشخاص وأشياءهم معاً، ثم ينتشلهم الناس ليفرقوا بينهم. ينسى الأحياء مسارات حياتهم اليومية من: الطموح، الجشع، الحبّ، العدالة، الانتقام، الكراهية، الندم، المسامحة، التعاطف مع المأساويّ، وعلاقة السلطة بالجنون، و يحاولون إرجاعَ عقاربِ الساعة للوراء ليستعيدوها دون جدوى. يمد الأموات أيديٕهم لإنقاذ الأحياء من ألم واقعِهم ولتغيير نظرتهم للحياة، ولتعديل أخلاقهم… لكن دون جدوى. في الأزمات تكثر الفرصُ كما تكثر المصائب وتتصارع الأمثلة الزهدية لدى من ينظرون للإنسانية … يتجمد البشر عند محاولة إعادة تدويرِ ماضيهم بأي ثمن؟ لكن لفترات قصيرة وقصيرة جداً..

الخارجون من تحت الأنقاض يولدون من جديد، ويصبحون أرقاماً للتداول لأهداف مختلفة لا تمت لهم بصلة، الذي كان يقتلك بالأمس ويسرقك ويجوعك يمدُّ لك يده ليساعدك دون أن يدري لماذا، كان يسرقك ويقتلك ويجوعك، ولماذا الآن يريد أن يساعدك ! هل ربما لأنّه يخاف أن يخسر ضحيته، التي تعود عليها ؟!

في النهاية يدير نيتشه ظهرَه للمثال الزهدي من شيخ وقديس وصائد فرص، سعيداً مرتاحاً للوضع الذي يفرض فيه البطل الغربي الهوميريّ قواعده على العالم، ويظل هاملت المسلم وهاملت الإنسان حائراً بين التفكير والعمل؛ لأنه لا يدرك مايريد، ولماذا يريده!

بعد أيام قليلة يعود السارق للسرقة، والقاتل للقتل، والفاسد للافساد، فهذه طبيعةُ البشر التي لا يعلم سرَّها إلا الله… عندها ندرك أن من كان تحت الأنقاض لم يستطع أن ينقذ من كان يمدُّ يدَ العون له، وأن الراحة كتبت لمن قضى نحبه في الكارثة، أمّا نحن التائهون، فما زال هاملت يتلبسنا في انتظار أن يمد نيتشه يده لنا حتى نعيدَ اكتشاف طالوت وهو يقتل الزاهدين المنافقين الذين ما لبثوا يبيعوننا مخدراتِ الوهم .

زر الذهاب إلى الأعلى