حين اضطرت المليشيات المسلحة، القبول بمصطفى الكاظمي رئيسا للحكومة الجديدة، على حساب رغبتها الشديدة في استمرار التلميذ النجيب عادل عبد المهدي في منصبه، فسر المراهنون على حرب امريكية ضد إيران هذا الحدث، بانه انتصار امريكي على إيران. بل اعتبر بعضهم بان الحرب قد بدأت فعلا. ظنا منهم بان الكاظمي هو فعلا رجل امريكا، الذي سيأخذ على عاتقه تفكيك المليشيات ونزع اسلحتها وطرد إيران من العراق. في حين ان ما حدث ليس جديدا، فمع تشكيل كل حكومة عراقية تبرز الخلافات بين امريكا وإيران، حول توزيع الوزارات والمناصب السيادية، ثم تنتهي بالتراضي. فليس غريبا والحالة هذه ان يستغل كلا البلدين المحتلين للعراق، هذا الخيال الواسع ويعملان سوية، كل بطريقته الخاصة، على تسويق الكاظمي بصورة المنقذ والمخلص والمؤهل لاعادة بناء العراق، والنهوض به لياخذ مكانه اللائق بين دول العالم!!!!. . ولكي تكتمل زفة الكاظمي، اطلقت عليه اوصاف والقاب ومدائح، ارتقت به الى مصاف القائد الوطني المنتظر. وكل ذلك من اجل الالتفاف على الثورة العظيمة وانقاذ المشروع الامريكي الايراني الغادر من السقوط. خاصة بعد الفشل الذريع في القضاء على الثورة بالقوة عسكريا ومليشياويا.
لم يترك مصطفى الكاظمي الحبل على الغارب، فقد شارك بتسويق نفسه، بالضبط كما فعل اسلافه من رؤساء الحكومات المتعاقبة، حيث تحدث بلغتهم واتبع طريقتهم وقلد حركاتهم. بل زاد عليها حبة كما يقول المصريون. فبعد عدة ساعات من تسلمه المنصب، أطلق عدداً كبيراً من التصريحات النارية، قوامها “سوف” اضرب بيد من حديد الخارجين على القانون، واسحب سلاح المليشيات، وانهي الفساد، واطلق سراح المعتقلين واقدم المتهمين بقتل الثوار الى المحاكم، واصرف رواتب المتقاعدين واوفر الماء والكهرباء وانهي النفوذ الاجنبي وووو. ثم اخذ يتنقل بين الدوائر الحكومية ويجتمع برؤساء البعثات العربية والاجنبية. حتى خيل لنا للحظة بان الرجل هو الامام المهدي المنتظر الذي سيملآ ارض العراق قسطا وعدلا بعد ان ملئت ظلما وجورا. ومن المؤسف جدا والمحزن في نفس الوقت، ان تلقى هذه الترهات اذانا صاغية من قبل مجاميع من السياسيين والكتاب والمثقفين، لتنتقل هذه العدوى الى بعض الذين ضاقت بهم سبل الحياة وضنك العيش. على عكس ثوار تشرين الابطال، الذين لم يكلفوا انفسهم سوى وضع علامة اكس على صورته وتحتها جملة واحدة تقول : “مصطفى الكاظمي مرفوض باسم الشعب”. لانهم، اي الثوار، اكثر علما من غيرهم، بان هذا الرجل نشا فاسدا وتربى في مستنقع فاسد وارتمى في احضان فاسدين، ولعلمهم ايضا بان الكاظمي منتج من منتجات العفن الامريكي الايراني بامتياز.
لنترك مصطفى الكاظمي يلعب بالبيضة والحجر على هواه، ونترك تبعيته، اذا كانت لامريكا او ايران او كليهما، او الحاق عمالته من قبل اهل الذكر ببريطانيا. فالرجل نفسه لا ينكر على الاقل تهمة عمالته لامريكا. ونترك ايضا برنامجه السياسي وما تضمنه من وعود وردية، وتعهدات لانهاء المحنة التي يعاني منها العراق. فلقد سبق لاسلافه وصدعوا رؤوسنا ببرامج وعهود مشابهة، ونترك اخيرا التدقيق في ثقافته وشهاداته، ان كان خريج متوسطة او جامعة، فاسلافه توزعوا ما بين طبيب مثل اياد علاوي وابراهيم الجعفري، وماجستير مثل نوري المالكي، ودكتور هندسة كهربائية مثل حيدر العبادي، ودكتور اقتصاد مثل عادل عبد المهدي. نترك كل ذلك ونتمسك بجوهر المشكلة التي يعاني منها العراق وشعبه، هل هي تكمن في تغيير رئيس حكومة باخر، او فوز هذه القائمة او تلك الشخصية في مجلس النواب؟، او المشكلة في رئيس السلطة القضائية او المحكمة الاتحادية؟ ام ان المشكلة تكمن فعلا في النظام السياسي المبني على اساس المحاصصة الطائفية والعرقية والمليشيات المسلحة والعصابات الارهابية والسرقة والقتل من جانب، وفي مؤسسات الدولة التي ينخرها الفساد والرشوة، وفي الدستور الملغوم الذي صمم من اجل تقسيم البلاد والعباد والتمييز بين القوميات والاديان والمذاهب من جانب اخر، اضافة الى ان العملية السياسية ذاتها التي تشكل الاطار العام لكل هذه العناوين والمفردات، قد تم تصميمها ووضع قوانينها بطريقة لا تسمح للقادم الجديد، الا القبول بها والانحناء امامها وليس العكس؟ بمعنى اخر لو جاء رئيس حكومة من صفوة القوم، ومن خيرة علمائها، ويتمتع بكل صفات الوطنية والعفة والنزاهة، هل بامكانه اصلاح العملية السياسية من داخلها في ظل المواصفات التي تحدثنا عنها قبل قليل؟ ام انه سينحني لها او يولي هاربا منها؟
لندع الكاظمي نفسه يجيب على هذه التساؤلات. حيث لم تمض سوى ايام معدودات، واذا بالكاظمي يتراجع عن كل عهوده ووعوده وتتحول الى مجرد توجيهات واوامر شفهية. فعلى سبيل المثال، لم تصرف رواتب المتقاعدين، ولم تفتح ملفات الفساد، ولم تنعقد محكمة للصوص المال العام، ولم يسئل احد من فسدة القوم من اين لك هذا. في حين تسابق متزعمو المليشيات في استعراض القوة، ردا على تعهده حصر السلاح بيد الدولة. كما لم يطلق سراح اي من المعتلقين الثوار لحد كتابة هذه السطور. اما تقديم قتلة المتظاهرين الى المحاكم، فقد كانت الفضيحة بجلاجل كما يقول المصريون. حيث قام الكاظمي بزيارة القاتل الاول لثوار ساحات التحرير، امين عام حزب الله العراقي، عبد العزيز المحمداوي الملقب بالخال، في مقره في الحشد الشعبي، باعتباره نائب رئيس الحشد، ووقف امامه خاشعا ينفذ ما امره به، وهو ارتداء لباس الحشد والقاء كلمة يمجد فيها الخال وابناء الحشد ويتعهد بحمايتهم. في حين يعلم الكاظمي بان هذا الحشد الشعبي الذي يزوره ليس “اولاد الخايبة” الذين قاتلوا داعش الارهابية، وانما الحشد الذي اصبح ستارا لمجموعة الميليشيات المسلحة لشرعنة وجودهم وتغطية اعمالهم الاجرامية. ومن الطريف ان الكاظمي نفسه اعترف في مقال له نشر يوم امس الثلاثاء، بجزء من الحقيقة خشية على حياته حيث قال: انه يواجه “تحديات
تتمثل بالتناقض بين الوعود العلنية التي أكدت على حريتي في اختيار التشكيلة الوزارية، وما يدور وراء الكواليس من مناورات وشد من قبل البعض، وهو ما يعرقل ويعطل استكمال الحكومة، وأن السعي لوضع البلاد على طريق المعافاة لا يجد اذانا صاغية لدى البعض هنا أو هناك”، محذراً من أن “البلاد مهددة بما سيضعنا جميعاً أمام خيارات ليس فيها رابح وأفضلها الانحدار إلى الفوضى”. ولو كان بامكانه ذكر الحقيقة لقال، ان المليشيات المسلحة قد وجهوا له انذارا او تحذيرا، بان لا يتجاوز حدوده ويمس شعرة من رؤوسهم، وابلغوه بان من يحكم العراق فعلا هم وليس رئيس الحكومة او البرلمان.
من السذاجة السياسية ان تقودنا هذه الاستنتاجات الى اصدار حكم مسبق، كما كنا نفعل بالسابق، ونقول بان هذه الحكومة ستكون نسخة طبق الاصل من الحكومات السابقة. فالمحتل الامريكي ووصيفه الايراني باتا يدركان جيدا، ان مصير مشروعهما التدميري في العراق اصبح في مهب الريح، وان انقاذه من السقوط يجبرهما على تقديم تنازلات لثورة تشرين وتلبية بعض مطالبها. بل وادركوا ايضا بان تغيير مسار العملية السياسية وتخفبف حدة رائحتها النتنة بات امرا ملزما، وبعكسه، فان هؤلاء الاشرار لن يتحملوا الموجة الثالثة من الثورة السلمية، التي ربما تتحول الى مسلحة. وثورة بهذا الحجم والقوة هي بمثابة سلاح دمار شامل لا يمكن لاية قوة في العالم مواجهته. بمعنى اخر، فان حكومة الكاظمي لابد وان تكون مختلفة عن سابقاتها، وان تقوم ببعض الاصلاحات الخدمية والسياسية وتحجم بمقدار ضئيل وخادع الفساد المالي والاداري، وتوقف الحرامية عن السرقات لفترة قصيرة جدا، لتشجيع العراقيين على قبول الكاظمي والمراهنة عليه، الامر الذي، وفق تصورهم، سيحرم الثورة من وقودها الدائم، ويصبح من السهل لاحقا عزلها واضعافها، ومن ثم اجبارها على القبول بانصاف الحلول. ولا اظن بان امريكا سترتكب نفس الحماقة وتترك المليشيات المسلحة تعرقل هذا التوجه، بل ستجبر ايران على السير في هذا الاتجاه ان ارادت الحفاظ على حصتها في العراق. ولا استبعد اطلاقا بان ايران ومليشياتها اصبحوا على استعداد للتضحية بقليل من مكتسابتهم وفق مبدا يقول نصف الخسارة ربح.
الثوار وقد وقفوا الان على تفاصيل المؤامرة التي تحاك ضدهم، هم على اتم الاستعداد لمواجهتها والتصدي لها وافشالها. فالدماء الغزيرة التي سالت لن تذهب سدى، وسيفون بعهدهم الذي ترجموه بشعار “اما وطن او كفن” ومن يعتقد بان الثورة ستتراجع او تهزم، فهو اما ساذج او بليد. ترى هل سيدرك هؤلاء الاشرار هذه الحقيقة ليرحلوا ناجين بجلودهم؟ ام انهم سيلاقون حتفهم في هذه الحرب الوطنية الكبرى التي يقودها شباب العراق وشاباته؟
المصدر: كتابات