لاحقا سأتناول بتفصيل يسمح به المقام “الحرب الدولية على الإرهاب”، لأبين أن في هذه الحرب الكثير من الزيف والتمويه بغية التوصل إلى أهداف محددة، وفي حالات ومواقع محددة. وأن هذه الحرب لم تطلق من أجل محاربة الارهاب على وجه الحقيقة، لا إرهاب الأفراد، ولا إرهاب الجماعات والمنظمات، ولا إرهاب الدول. وأن إدارة هذه الحرب دون الاعتماد على تعريف محدد لمفهوم الارهاب ـ كما هو حاصل ـ ليس قصورا، وإنما نهج معتمد يعطي للقوى التي أطلقت هذه الحرب وتديرها، حرية ومرونة الحركة في المكان والزمان.
لكن ما حدث في العاصمة الفرنسية باريس من هجوم عنصري استهدف أماكن تواجد مهاجرين أكراد، وطريقة السلطات الفرنسية في التعاطي مع هذه الجريمة يستدعي أن نتناول هذا الحدث على وجه الخصوص، ويستدعي موقفا واضحا، وصريحا، وحاسما. لأن هناك إصرارا إعلاميا، ورسميا على وصف هذا الحدث بغير ما هو عليه حقيقة، وذلك بإبعاد صفة الارهاب عنه اكتفاء بصفة العنصرية، والفارق واسع بين الوصفين.
الجريمة التي وقعت الجمعة 23 / 12 أسفرت عن مقتل ثلاثة من الأكراد وإصابة أربعة آخرين.
المهاجم اعترف أمام جهات التحقيق/ النيابة الفرنسية، بأنه يكره اللاجئين، وأنه استهدفهم لهذا السبب، وأنه يأسف لأنه لم يتمكن من قتل المزيد. ووجدت جهات التحقيق معه معه كمية من الذخيرة تتيح له ـ لو تمكن ـ قتل عدد كبير من المهاجرين واللاجئين.
القاتل الذي عرفت السلطات الفرنسية باسمه يبلغ من العمر 69 عاما. كان معروفا للشرطة وسبق أن قام بأعمال عنف عنصرية، ضد مخيم للاجئين في ديسمبر 2021 ، وسجن لفترة ثم اطلق سراحه. وقد وصفته جهات فرنسية بأنه مختل.
الجريمة. جريمة عنصرية واضحة، لم تأت عفوا، ولم يدفع إليها احتكاك وقتي، أو سبب طارئ، وإنما هي جريمة موصوفة، مقصودة، ليست موجهة ضد عرقية محددة، وإنما ضد اللاجئين جميعا لكونهم لاجئين، ومن وجهة النظر العنصرية هذه يستوي كون المستهدفين أكرادا، أم عربا، أم أتراكا، أم أفارقة، والجريمة تستهدف إرهاب اللاجئين لإخراجهم من البلاد.
وهذا التوصيف للجريمة مهم جدا، لمعرفة حدود الجريمة ودافعها، ولمعرفة حدود رد الفعل الواجب.
مهم جدا التعاطف مع الأكراد في فرنسا في مواجهة هذه الجريمة، فهم “أهل المصاب”، وأصحاب الدم فيه، لكن الأهم أن يتخذ “أهل المصيبة” جميعا، موقفا موحدا ضد هذه الجريمة باعتبارها جريمة إرهاب عنصرية.
و”أهل المصيبة” الذين نتحدث عنهم هم كل اللاجئين في فرنسا، إذ إن هذا العدوان وقع على هؤلاء الأكراد بصفتهم لاجئين. أولا وقبل كل شيء، وبالتالي كان يمكن أن يقع،- وما زال ممكن أن يقع ـ على أي لاجئ، بصفته لا جئ.
إن وقوف اللاجئين، عموم اللاجئين، ضد هذه الجريمة هو شكل من أشكال الدفاع عن النفس بقدر ما هو وقوف إلى جانب اللاجئن الأكراد.
بل إن صفة “أهل المصيبة” تتعدى اللاجئين لتشمل كل أصحاب الضمير في المجتمع الفرنسي، لأنها جريمة تصيب بالعمق هذا المجتمع، وتستدعيه أن يتبرأ منها، ويقاوم ويتصدى لمرتكبيها.
لقد كان ملفتا أن السلطات الفرنسية لم تطلق على هذه الجريمة صفة العمل الارهابي، وإطلاق هذه الصفة مهم لأنه يستتبع فورا مجموعة من الاجراءات ضد مرتكب الجريمة، وضد البيئة المادية والمعنوية ، المالية والاعلامية ، التي ولدت هذه الجريمة، وهيأت لها. كما تستدعي ملاحقة كافة المظاهر والظواهر التي تنتظم تحت وصف الارهاب في مختلف دول الاتحاد الأوربي، وهي تمتد بالضرورة إلى المجال الدولي.
تحفظ الجهات الفرنسية عن إطلاق صفة الارهاب على هذه الجريمة مثير للقلق. وكاشف لمدى هشاشة ” تسامح ” المجتمع الفرنسي.
ومع هذا التحفظ الرسمي، تستدعي الذاكرة كل التاريخ العنصري لفرنسا، وهو تاريخ عريق، نرى شواهد مرعبة له في الجزائر، وفي كل الدول الإفريقية، والآسيوية التي وقعت تحت سنابك المستعمر الفرنسي.
يجب تصنيف هذه الجريمة بصفة الإرهاب لتكون “جريمة إرهاب عنصرية”. ويجب تسليط الضوء عليها من هذه الزاوية بالتحديد.
هذه الجريمة مناسبة لحث فرنسا على أن تخرج من عنصريتها، ومن تاريخها العنصري، ولن يكون هذا إلا من خلال تعرية ذلك التاريخ : نقده، ونقض رموزه، وجبر الكسور التي أحدثتها هذه العنصرية في المجتمعات المستعمرة،
إن مرتكب جريمة الجمعة، لم يأت من فراغ، ولا يعتبر نبتة شيطانية في المجتمع الفرنسي، لكنه جزء طبيعي من ذلك المجتمع الذي لم يستطع حتى الآن نقد ونقض ذلك الإرث “العنصري – الارهابي”.
وإزاء هذه الجريمة التي وصفناها بأنها جريمة “إرهاب عنصرية” يجب أن ينتبه الأكراد قبل غيرهم، وأن ينتبه “اللاجئون” جميعهم، إلى هذه الطبيعة للجريمة، حتى لا يستغل الأعداء هول الجريمة لتفريق القوى المتأثرة بها وتفتيتها ومنع اتحادها في الموقف، وفي الحركة، وفي المقاومة.
ولقد لحظنا عقب وقوع هذه الجريمة – وقبل وضوح من نفذها – من أشار إلى أن أتراكا “الأمن التركي” وراءها، و كانت هذه الإشارة محاولة خبيثة أريد منها استغلال هذه الجريمة في مد شرارة الصراع بين المسلحين الأكراد الانفصاليين والسلطات التركية إلى ديار المهجر، وإذا تم ذلك ـ لا قدر الله ـ فإن جريمة ” الإرهاب العنصري ” في باريس سوف تتوارى خلف دخان الصدام التركي الكردي، وفي فرنسا مئات الالاف من الجانبين.
إنه تعامل رديء مع حادث جلل، وقد سبق لهذه الجهات الكردية الانفصالية وأجهزتها الدعائية أن تعاملت بالطريقة نفسها مع الشهيدة “مهسا أميني”، الإيرانية من أصل كردي‘، التي قتلتها اجهزة الامن الايرانية في طهران بعد ثلاثة ايام من اعتقالها في 13 / 9 / 2022 بدعوى ان حجابها لم يكن مناسبا لشروط الحجاب الذي حددته السلطات، وتقوم الشرطة الاخلاقية على مراعاة تطبيقه، ولم يكن قتل مهسا بسبب كونها كردية، وإنما قتلت بسبب تغول سلطات أمن نظام الملالي الايراني في التحكم بالناس وفرض نظامها عليهم، وكان يمكن ان تكون شهيدة تلك الجريمة عربية او تركمانية او فارسية، او من اي أصول عرقية، إذ لم تكن هوية المعتدى عليه هي القضية، وإنما ارغام الناس على الالتزام بالقوة القاهرة الاستبداية مع رؤية النظام وتعليماته.
وتمكن وعي المكونات المختلفة للمجتمع الإيرانية من تجاوز هذا المطب العرقي، ولم يتم التعامل مع تلك الجريمة من “الزاوية العرقية”، وإنما تم التعامل معها من معركة الحرية ضد الاستبداد، والقهر الذي يستخدمه نظام الملالي، لذلك استمرت الاحتجاجات على تلك الجريمة وامتدت إلى مختلف المناطق والمحافظات الايرانية، وظهرت ـ على نحو ما ـ وحدة موقف الشعب الايراني ضد نظام الملالي.
جريمة باريس تستدعي وعيا من هذا القبيل، فلا يكون الاحتجاج احتجاجا للجالية الكردية، كما ظهر حتى الآن وإنما يتسع ويمتد ليكون احتجاجا لكل تكوينات المهاجرين واللاجئين في فرنسا، وأن يستدعى إلى هذه الاحتجاجات كل الفرنسيين الأحرار، بل وأن يستدعى لهذه الاحتجاجات تأييد كل المهاجرين واللاجئين في مختلف الدول الأوربية، لأن هناك نموا ملاحظا للعنصرية في أوربا ضد اللاجئين، ويصاحب هذه الظاهرة تصاعدا ل” الإرهاب العنصري”، الذي يجب أن تتصدى له قوانين مكافحة الارهاب المعتمدة في هذه الدول، ولا يجوز أن نتفاجأ إذا واجهنا في أي لحظة، وفي اي بلد أوربي، جريمة “إرهاب عنصري” جديدة لها كل مواصفات جريمة باريس.
لأجل ذلك فإنه يجب أن نعي تماما الطبيعة الخاصة لمثل هذه الجرائم، وأن نعطيها التوصيف الصحيح، وأن نرفض بوعي تقزيمها، فلا نقبل أن توصف بغير وصفها الحقيقي، ولا نرضى في النظر إليها باعتبارها جريمة ضد هذا المكون أو ذاك من مكونات مجتمع اللاجئين والمهاجرين. ثم أن تكون دعوتنا ثابتة، ومثابرة ليكون هناك موقف جماعي وموحد على امتداد هذه المجتمعات لإدانة هذا النوع من الجرائم ومحاصرتها وكشف أدواتها، وتعرية وتجريم بيئاتها، وفضح أي تستر عليها أيما كان الدافع لها التستر.
إننا ندعو لموقف موحد وليكن شعار هذا الموقف يا لاجئي العالم اتحدوا ضد العنصرية، وضد الارهاب العنصري، ويار أحرار العالم اتحدوا ضد هذا النوع من الجرائم، باعتبارها جرائم إرهاب ضد الانسانية.