لم تمر أوضاع السوريين طوال سنوات العقد الماضي بصعوبات تماثل ما هم فيه الآن، وهي صعوبات تتفاقم بشكل متسارع، لا أحد يستطيع أن يخمن أشكال تطورها، وإن كانت الأكثرية تتفق على الخطورة الشديدة لما سيكون في كل الأحوال.
يكرس الانقسام السياسي في سوريا وجود 3 كيانات من سلطات الأمر الواقع، التي إن تعارضت شكلياً وتصارعت في اشتباكات محدودة، فإنها صارت متعايشة بعضها مع بعض، وثمة مصالح مشتركة تتواصل، لا تقتصر على النفط، بل تشمل سلعاً استراتيجية أخرى من بينها القمح، وتتوافق على وجود ودور المعابر المتقابلة، التي تمرر بضائع وسلعاً، وقلة من أشخاص، يمكن أن تتزايد أعدادهم عند الحاجة، بقليل من تواصل، ولو غير مباشر بين سلطات الأمر الواقع.
ولا يمثل ما تقدم من مسارات تعاونٍ رغبةً أو قبول من جانب السلطات الثلاث، إنما أيضاً لاقتناعهم أن حلفاءهم من الروس والإيرانيين والأميركيين والأتراك وداعمين خفيين غيرهم، لن يفرطوا في وجودهم قبل التوصل إلى صفقة تسوية شاملة حول سوريا ومستقبلها، وهو أمر لا تتبين له مؤشرات عملية، ولو ضوء في آخر النفق، وبالتالي فإن عليهم أن يتعايشوا، ويتعاونوا قدر المستطاع وسط مساعيهم من أجل الإبقاء على وجودهم وسلطاتهم من دون تغييرٍ ما استطاعوا.
وسط حالة سلطات الأمر الواقع، فإن الهمّ الرئيس في سياستها، محكوم بثنائية السلطة والثروة، حتى لو كان للاثنتين شكل الفتات، ومجرد حالة شكلية قابلة لتدخلات حماتهم أو لموافقتهم أو قبولهم لما يطلبه الحلفاء وبعض الأقوياء من المتدخلين في سوريا، ويبدو الأمر واضحاً من ناحية الثروة في سيطرة المتدخلين من الإيرانيين والروس والأميركيين والأتراك والقبض على الموارد، والسيطرة على الأسواق، لكنه أكثر وضوحاً في موضوع السلطة في مثال نظام الأسد، ومجلس سوريا الديمقراطية، اللذين لم يتجاوزا حدود المعارضة الشكلية لـ4 عمليات تركية كبرى شملت معظم جهات شمال سوريا في السنوات الماضية. وتقديري، أن الأمر سيكون مماثلاً عندما تندفع قوات أنقرة في عملية برية جديدة، شرط ألا تكون عملية كاملة للقضاء على قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، إنما إضعافها بحدود معينة.
المستوى الثاني من واقع التردي السوري هو المعارضة الحاضرة في كيانات الأمر الواقع. وما عاد بالإمكان وصف «قسد» بـ«المعارضة» ولا يجوز وصف الوكلاء في منطقة السيطرة التركية في الشمال الغربي بذات الوصف، أعني «هيئة تحرير الشام» التي يقودها الجولاني وحكومته وحكومة الائتلاف والجيش الوطني، وجميعها قوى سلطة بغض النظر عن كيفية تجسيدها وما تحصل عليه في السلطة القائمة، التي يتحكم فيها الحليف التركي بصورة مشتركة، والسمة العامة لمعارضة سلطات الأمر الواقع في المناطق الثلاث أنها هشة وضعيفة، وعليها أن تسكت وبدرجة أقل أن تتوافق وتساير الحاكمين في سياساتهم ورغباتهم بحدود يضعها الحاكمون.
ولا يختلف وضع المعارضة العامة خارج سوريا عن وضعها في الداخل إلا بصورة محدودة، رغم الفارق الملموس بينهما في مقدار الحريات والإمكانات، وخاصة فارق القدرة على الحركة والتواصل وظروف العيش الأفضل. وكما عجزت المعارضة عن إصلاح هياكلها السياسية من تنظيمات وتحالفات، فإنها عجزت عن خلق كيانات موازية أو بديلة كافية، والقلة الأكثر جدية ومسؤولية في المعارضة وعموم النخبة، سعت وخلقت تجارب قليلة، وما زالت بلا حاضنة شعبية فاعلة ونشطة، وهو موضوع يستحق أن تدرس أسبابه، فيما الأكثرية اكتفت بالتنظير والنقاش حول ما جرى وسط كم من أوهام وادعاءات، وتحميل الآخرين (باسم ومن دون اسم) مسؤولية ما صارت إليه الأوضاع السورية، بدرجة لا يتورع فيها ناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي وندواتها عن مقارنة المعارضة بنظام الأسد وبعضهم يفضل الأخير، وهذه واحدة من تجليات الطابور الخامس، وقد تزايد حضوره وسط السوريين مع تدهور أوضاع المعارضة، وتدني مستوى الاهتمام الإقليمي والدولي بالقضية السورية.
ولا يحتاج إلى تأكيد أن بين أسباب تدهور أوضاع المعارضة، وتراجع الاهتمام الإقليمي والدولي بها، حالة اليأس والإحباط التي تنامت حول القضية السورية، ووجود أطراف فيها، منهم 3 من أسوأ الكيانات في العالم، تلوث بيئة السياسة الدولية في تعنتها واستبدادية مواقفها وسياساتها وإصرارها على الذهاب إلى الأعمق في مسارات الحرب والدم، وتجنب الحلول في المشكلات السياسية، وهي صفات تنطبق على نظام الأسد وإيران وروسيا، والصراع معهم يرفع تكلفة سياسات حاسمة في مواجهة تحالفهم الثلاثي في سوريا، ويجعلها أقرب إلى سياسات طويلة المدى، أساسها إغراق الأطراف في المستنقع السوري، ودفع الأوضاع إلى مزيد من التعفن، ما يؤدي إلى تغير في سوريا بأقل قدر من التدخلات والتكلفة.
وتصاعدت في السنوات الأخيرة التفاعلات السورية، ليس في مناطق سيطرة النظام وحده، إنما في المنطقتين الأخريين وتجمعات السوريين في دول الجوار، وفيها جميعاً تكرس انهيار سياسي واقتصادي واجتماعي، مع صعود أمني متشدد في مواجهة أي تهديدات للقوى المسيطرة، التي سلّمت أوراقها للداعمين، واستندت إلى دعمهم السياسي والعسكري ومساعداتهم المشروطة بالتبعية، وإلى الأجهزة الأمنية والقوى العسكرية والميليشيات في مواجهة الداخل، مع تصعيد سبل استنزافه وسرقته مادياً وإخضاعه في كل المجالات والمستويات للسيطرة. وهكذا ترافقت البطالة مع انهيار العملة المحلية والغلاء والفساد ليتحول الواقع إلى جحيم عام، كانت تعبيراته الأشد وضوحاً في مناطق سيطرة النظام.
وسط وضع معقد، تبدو خيارات السوريين صعبة في مواجهة الواقع، خاصة إذا جرى التركيز على الجوانب السياسية، التي ما زالت تثير انقسامات حادة، ليس بين النظام ومعارضيه فقط، بل داخل معسكر كل منهم، والأجدى أن يتم التوجه نحو الجوانب المعيشية، التي يشكل الإنجاز فيها تقدماً نحو المجال السياسي، ولا سيما نقطة إعادة لمّ شمل السوريين، وتوحيدهم ما أمكن على المستوى الشعبي من أجل قضية واحدة.
وتنقلنا فكرة المطالب المعيشية للوقوف عند الخيارات المطروحة في الداخل وفي مناطق سيطرة النظام، وفيها تحركان، انطلق أولهما في محافظة السويداء جنوباً لتجديد الحراك الشعبي على قاعدة المطالب المعيشية، من دون تجاهل الجوانب السياسية، والثاني إطلاق فكرة العصيان المدني على ذات القاعدة بما لها من متعلقات سياسية، وكلاهما يتضمن تغييراً في معادلات الداخل والصراعات الجارية، ومنها صراع الحركة الشعبية مع النظام، الذي كما نعرف لن يستجيب للمطالب، لكنه قد يتفاعل مع بعض منها على أمل تجاوز احتمال انهياره، وإذا تحقق ذلك، فإننا يمكن أن نشهد بداية تحول سوري في التعامل مع النظام بالعودة إلى قاعدة جمع السوريين في مواجهته، ما يعني نجاحهم في واحد من أهم الخيارات الصعبة.
المصدر: الشرق الأوسط