المرشد في العقود الماضية لم يكن يواجه أي صعوبة في دفع أجهزة النظام والمنظومة الحاكمة لتنفيذ توجيهاته وأوامره.
مع استمرار الحراك الاعتراضي في إيران، بدأ يتصاعد الحديث عن إمكانية حصول تواصل بين بعض مواقع القرار في النظام مع قوى سياسية ذات تأثير في الشارع أو تحظى بشيء من القبول الاجتماعي والسياسي لدى الإيرانيين في الداخل، من أجل إطلاق حوار وطني يساعد في التوصل إلى تسوية بين المنظومة الحاكمة والمعترضين والمحتجين.
هذه الخطوة إن حصلت، ومن المستبعد أن تحصل، لن تكون أمراً سهلاً على نظام شمولي يستمد سلطته من منظومة إلهية، ويضع قائده أو زعميه في سياق ديني يجعله مطلق الصلاحية وبعيداً عن المساءلة، باعتباره في المثال الإيراني امتداداً لسلطة أئمة أهل البيت “المعصومين” عن الخطأ، والذين انتقلت إليهم السلطة المعنوية والسياسية والدينية من النبي الرسول الذي وصلت إليه ونزلت عليه من رب العالمين، ما يجعله ممثلاً لله على الأرض والحاكم باسمه والممسك بمصير العباد بتفويض إلهي مطلق الأمر ومتحكم بأرواحهم وأموالهم وأعراضهم، من دون أن يكون للطرف الآخر، الإنسان أو العبد الذي سلم بعبوديته أو لم يسلم، حق الاعتراض أو العصيان، لأنه في حال الاعتراض فانه سيكون رداً على الولاية الالهية التي للحاكم، وبالتالي سيكون راداً على الله ورسوله وأئمته.
يقول مؤسس وزعيم الثورة الإيرانية السيد روح الله الخميني في كتابه “الحكومة الإسلامية” الذي أسس فيه لنظرية ولاية الفقيه والدولة او السلطة الدينية “أن نفس الولاية التي كان يملكها رسول الله والإمام في تأسيس الحكومة وتلي إدارته، يملكها الفقيه”، ويضيف، مؤكداً على هذا المفهوم، لا يساور أحد أي شك بالقول “هذا التوهم بأن صلاحيات النبي في مجال الحكم كانت أكثر من صلاحيات الإمام علي، أو صلاحيات الإمام علي في مجال الحكومة أكثر من الفقيه، فهو خطأ وباطل”. ليحسم الجدل ويقفل باب النقاش بالقول والتقرير إن “ولاية الفقيه المطلقة، فهي الولاية في الأمور العامة المطلقة، تثبت في جميع ما ثبت للمعصوم من السلطة على الأمة إلا ما استثناه الدليل”، وما استثناه الدليل هنا يقصد منه ما قيل في عصمة الرسول والأئمة، وهي عصمة عن الخطأ والباطل لا تكون لولي الفقيه.
هذه السلطة الكلية والفوقية التي يتمتع وتكون لولي الفقيه، و”العصمة” التي يكتسبها نتيجة سلوكياته وسلطته الفردانية والمتفردة والمطلقة التي تهيمن وتمنع الاعتراض، لأن التابع مجبر على التقليد والتبعية من منطلق الولاء والانصياع وإطاعة للأمر الإلهي، دفعت بعض المنظرين والمتحمسين لولاية الفقيه المطلقة، ما بعد الخميني ومن الذين عارضوه بداية، مثل رجل الدين الإشكالي والمتشدد محمد تقي مصباح يزدي للقول بعصمة ولي الفقيه، وإن البشر لا دور لهم في انتخابه او اختياره، والأمر في صورته الحالية، ليس سوى مجرد مهمة وتوجيه إلهي أنيط بالجماعة للكشف عن ولي الفقيه المطلق وليس انتخابه. كما يذهب لذلك أيضاً إمام جامعة طهران ورئيس جهاز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر محمد صديقي.
حتى الأمس القريب، وبعيداً عن العشرية الأولى من عمر النظام الإيراني في ثمانينات القرن الماضي، وهو استثناء يعود لخصوصية وجود المؤسس، يمكن القول إن المرشد الأعلى وولي الفقيه المطلق السيد علي خامنئي مارس هذا الدور بكل حزم، وأوضاع سمحت له بفرض رؤيته وقراره من دون الأخذ بالاعتبار كل الاصوات المعارضة سواء من داخل النظام أو من خارجه، مستفيداً بذلك من زخم التجربة التي بدأت مع المؤسس، ولم تكن القوى المعارضة قادرة على بناء قاعدة شعبية، أو تأطير حالة الاعتراض بحيث تكون قادرة على فرض موقفها ورأيها. من هنا نرى أن ولي الفقيه أو المرشد كان يختار اللحظة الحاسمة للتدخل ليفرض المسار الذي يريده في مواجهة الانتفاضات او الاعتراضات، سواء تلك التي قام بها الطلاب وانتهت بفاجعة جامعة طهران عام 1998، أو تفريغ التجربة الإصلاحية ونافذة الحريات الإعلامية والسياسية والاجتماعية التي فتحتها رئاسة محمد خاتمي من مضمونها، وصولاً إلى الحركة الخضراء عام 2009 بحيث كان قادراً على اتخاذ قرار بوضع مير حسين موسوي ومهدي كروبي في الإقامة الإجبارية ضارباً بعرض الحائط كل الأصوات التي دعت إلى إعادة النظر بهذا القرار من داخل التيار الموالي للولي الفقيه “المحافظ” أو القوى الإصلاحية والمدنية، وصولاً إلى الذهاب لاستخدام العنف في التصدي للحركات المطلبية عام 2016 و2019 في رئاسة حسن روحاني على خلفية الأزمة الاقتصادية.
المرشد في العقود الماضية إلى ما قبل الأشهر الثلاثة الماضية، لم يكن يواجه أي صعوبة في دفع أجهزة النظام والمنظومة الحاكمة لتنفيذ توجيهاته وأوامره. ولم يكن يدخل على خط أي أزمة إلا عندما تجتمع في يده كل خيوط الموقف، ليكون خطابه أو أوامره بمثابة “فصل الخطاب” كما دأب مناصروه على وصف ذلك، وعندها يأتي موقفه أو تدخله بمثابة نقطة النهاية لأي حركة احتجاج أو تظاهرة مطلبية، وبعد أن تكون الأجهزة قد انتهت من قمع هذه التحركات و”أطفأت غائلة الفتنة والمؤامرة”.
لكن ما يختلف عن الأحداث الحالية وما كان يواجهه النظام من اضطرابات سابقة، أن القوى التي كانت تخرج معترضة في المحطات الماضية لم تكن مختلفة في جوهرها في العلن على الأقل مع ماهية النظام، وكانت ترفع شعار الإصلاح من داخل النظام وتعترض على جزء من المنظومة الحاكمة وتحت سقف الدستور، ولم تستهدف المنظومة عامة في مبانيها الثقافية والسياسية والفكرية والعقائدية، التي واجهها النظام، وحتى أحداث عام 2019 يمكن إدراجها في هذا التصنيف.
المختلف في الأحداث والاحتجاجات التي تعيشها إيران منذ أكثر من 70 يوماً، وبعيداً عن الخطاب الصادر عن أطراف وأحزاب وجماعات المعارضة في الخارج التي لم تستطع التلاقي على خطاب مستقبلي حتى الآن لشكل وطبيعة النظام الذي تريده بديلاً عن النظام القائم، فإن الشارع الإيراني الداخلي في حركته الاعتراضية، وضع النظام وسلطته الحاكمة أمام تحد لم يمرّ فيه من قبل. فطبيعة الاحتجاجات هذه المرة تختلف عن سابقاتها، والقوى الإصلاحية أو التي تقبل العمل تحت هامش محدود من الحرية وفي ظل الأصول الدستورية لا وجود لها في الشارع، وهي غير قادرة على التواصل مع الشريحة الشبابية التي تمسك بعصب الاحتجاجات وترسم خارطة الاعتراض وشعاراتها وأهدافها، ما جعل النظام ينظر على هذه التحركات باعتبارها تهديداً لماهيته الدينية والولائية وآلياتها السلطوية، وأن أي خطوة تراجعية أو اعترافية بهذه التحركات وقبول الحوار حول الشعارات التي ترفعها، هو بمثابة انتحار، لأن أي تنازل في هذا الإطار سيجر النظام إلى تنازلات أخرى لا تعرف حدودها وأين ستقف، لذلك تجد المنظومة الحاكمة نفسها مجبرة على الذهاب إلى أقسى حدود القمع والعنف دفاعاً عن نفسها ومكتسباتها ومصالحها، وتغليف هذا الخيار بالبعد العقائدي والتآمر، أو المؤامرة المركبة التي تسير باتجاهين، التخريب العقائدي والثقافي لهوية النظام الإسلامية من ناحية، والعمل على إضعاف قدراته والدفع باتجاه تقسيم إيران من ناحية أخرى، بما يساعد أعداء النظام، وهنا العدو لم يتغير اسمه الأميركي والإسرائيلي والبريطاني والسعودي، بتقليم أظافر النفوذ والدور الإقليمي.
المصدر: اندبندنت عربية