تعيش إيران، منذ شهرين وأكثر، على وقع احتجاجات شعبية متواصلة، بعد مقتل الفتاة الكردية الإيرانية، مهسا أميني، على يد قوات شرطة الأخلاق، بعد اعتقالها بحجة عدم ارتداء الحجاب. وعلى الرغم من القمع الأمني واستخدام القبضة الإيرانية الحديدية لوقف تلك الاحتجاجات، فإنها تواصلت وامتدت لتشمل مدناً عدة، ربما لم يكن يتوقع النظام في طهران أنها يمكن أن تصل إليها، وتحديداً مناطق البلوش والأذريين. وقد أدّى تصاعد حدّة الاحتجاجات التي قابلتها قبضة أمنية حديدية إلى ارتفاع ملحوظ في أعداد الضحايا الإيرانيين، حتى باتت طهران نفسها غير قادرة على إخفاء هذه الأعداد، فبدأت بممارسة خجولة في نشر أعداد الضحايا.
الأخطر في هذه الاحتجاجات الإيرانية ليس فقط عدم توقفها، وإنما أيضاً أنها حملت بين طياتها تنوعاً وتعدّداً في أساليبها، فهي ليست مجرّد تظاهرات تخرج في ساعة معينة في مكان معين، وإنما جاءت بطرق مبتكرة تستدعي معها التفكير جدّياً بحجم الرفض الشعبي الإيراني لهذا النظام وأساليبه القمعية.
في خضم هذا الوضع الإيراني المتفجّر، وفي ظل وضع داخلي قابلٍ للتصعيد، ومفتوح على كل الاحتمالات، خصوصاً مع تعثر مفاوضات النووي الإيراني مع الغرب، وصل إلى بغداد نهاية الأسبوع الماضي، قائد فيلق القدس الإيراني، إسماعيل قاآني، في زيارة هي الأولى له منذ تشكيل حكومة محمد شياع السوداني التي توصف بأنها مقرّبة من إيران، كونها شُكلت من قوى الإطار التنسيقي بعد نحو عام من الصراع السياسي، وحتى العسكري، مع التيار الصدري الذي فاز بانتخابات أكتوبر 2021، غير أن معارضة قوى الإطار التنسيقي تشكيل حكومة صدرية دفع زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، إلى سحب نوابه الـ 73 من البرلمان، وترك الساحة لقوى الإطار التنسيقي التي سارعت إلى انتهاز الفرصة وتشكيل الحكومة.
التقى قاآني بكل من السوداني ورئيس الجمهورية عبد اللطيف رشيد، ونقل إليهما رسالة إيرانية شديدة اللهجة، مفادها بأن إيران ستشن هجوماً برّياً على الحدود العراقية الشمالية مع إيران.
وبحسب وكالة أسوشييتد برس التي نقلت عن مصدرين عراقيين، فإن قائد فيلق القدس الإيراني أبلغ المسؤولين العراقيين أن لدى بلاده شرطين يؤدّي عدم تنفيذهما إلى شنها هجوماً برّياً على إقليم كردستان: نزع سلاح أحزاب كردستان إيران في إقليم كردستان. وأن يتمركز الجيش العراقي على الحدود بين إقليم كردستان العراق وكردستان إيران، كي يمنع تسلل أحزاب كردستان إيران.
تتهم إيران عناصر كردية إيرانية معارضة تتخذ من الشريط الحدودي للعراق مع إيران مقرّاً لها، بنقل السلاح إلى المتظاهرين، تهمة نفتها مصادر عراقية وكردية أيضاً، غير أن إيران لا يبدو أنها مستعدّة لتصديق هذا النفي العراقي، فقبيل زيارة قاآني بغداد، شنّت طهران هجمات عدة على مناطق الشريط الحدودي في شمالي العراقي، أودت بحياة عراقيين أكراد، من دون أن تجد ردّياً عراقياً مناسباً لطبيعة هذا الاعتداء الإيراني. موقف فسره كثيرون بتابعية الحكومة العراقية لإيران بطريقة أو بأخرى، أو عدم قدرتها على أي ردٍّ يتوازى مع طبيعة ما تقوم به إيران من انتهاكات وعمليات قصف متوالية للمناطق العراقية.
لكن هل يحمل تهديد قاآني هذه المرة موقفاً إيرانياً مغايراً لطبيعة عملياتها العسكرية المتكرّرة على العراق لتحييد عناصر إيرانية كردية كما تقول؟
يبدو أن إيران تسعى، من خلال هذا التصعيد، إلى تصدير فشلها الداخلي في قمع الاحتجاجات وتصدير مشكلاتها، خصوصاً أن أي عملية اجتياح برّي قد تُقابل بموقف دولي يتجاوز طبيعة المواقف الدولية المتّخذة حيال قصفها المتكرّر إقليم كردستان.
في المقابل، هل ستضمن إيران موقف حلفائها في بغداد إزاء اجتياح برّي؟ لا يبدو أن لدى حكومة بغداد أي اعتراض على قيام إيران بعملية من هذا النوع، خصوصاً أن العلاقة بين بغداد وأربيل لا تبدو في أحسن حالاتها، على الرغم من أن موافقة الأكراد على محمد شياع السوداني مرشّحاً للإطار التنسيقي كان بمثابة منح قبلة الحياة لقوى “الإطار” من أجل المضي في تشكيل الحكومة.
صحيحٌ أن وعوداً كثيرة، وربما كبيرة، قطعها “الإطار التنسيقي” للأكراد من أجل استحصال موافقتهم على تمرير مرشحهم للرئاسة، ولكن الصحيح أيضاً أن هذه الوعود كثيراً ما كانت كتابة في الهواء، فلا أحد من قوى الإطار سيكون راضياً عن تنفيذ هذه الوعود، على الأقل الوعود المتعلقة بعودة القوى الكردية إلى محافظة كركوك، فما بالك إذا ما كان هناك تحرّك إيراني برّي، بدت بعض قوى الإطار التنسيقي ترويجه وتبريره بعد يوم من وصول قاآني إلى بغداد.
نعم، تسعى إيران إلى تصدير مشكلاتها، ولكنها أيضاً في غنى عن الدخول في مشكلة ربما تكون أوسع، وهي رفض المجتمع الدولي اجتياحاً من هذا النوع، غير أن مراجعة سريعة لمواقف المجتمع الدولي حيال الكثير مما تفعله إيران من انتهاكات، داخلياً وخارجياً، تُنبئك أن أقصى ما لدى المجتمع الدولي فعله إزاء أي انتهاك إيراني صارخ هو التنديد والاستنكار، وقد يلحق ذلك فرض عقوبات اقتصادية على مجموعة من الإيرانيين.
ما أراده قاآني من الزيارة والتهديد العلني، الذي وصفته مصادر عراقية بـ “الوقح”، هو إرسال رسائل في اتجاهات عدة، تعتقد طهران أنها متورّطة في ملف الاحتجاجات، سواء للسعودية أو أميركا، فهي تعرف جيداً أن مغامرة الدخول إلى إقليم كردستان، ولو بحجة تطهير المنطقة الحدودية من العناصر الكردية المعارضة لإيران، سلاح ذو حدين، فهل تفعلها إيران أم تبقى رسائلها مجرّد رسائل عنوان بلا محتوى؟
المصدر: العربي الجديد