عشنا لفترات طويلةٍ ننقد العمليةَ التعليميةَ في بلادنا، التي تقتل الإبداع والتحرر الفكري وتقيده بكل المكبلات، ولا تطلق العَنانَ للتفكير النقديِّ الذي يشخص ويحلل، ومن ثم يأخذ القرار، ويراقب النتائج.
كانتِ العمليةُ التعليمية في كل بلدان العالم النامية، وما زالت تتعامل مع التلاميذ والعقول البشرية، وكأنَّها ذواكرُ إلكترونيةٌ يجبُ ملؤُها بكمٍ هائل من المعلومات على حساب تطويرِ مهارات التفكير والقراءة، وتدريب العقل على التحليل والتجريد والنقد واتخاذ القرار وتحمل المسؤولية.
وكان نقدُنا يستند إلى شواهدَ وتجارِبَ نهضويةٍ، جعلت من العلم رأسَ الحربةِ في محركات النهضةِ ومعركة التحرر الاقتصادي والاجتماعي، من أمثال تجربة تايوان، وكوريا الجنوبية، واليابان، وسنغافورة…وكان نقدنا يجعلنا نبالغُ في تصوير الكارثة التي جعلت هياكلَنا التعليميةَ تُنتج عقولًا أقلَّ إبداعًا وعلمًا وحكمةً؛ مما جعلها بعيدةً بمراحلَ عن متطلبات أسواقِ العمل التي أصبحت شبهَ موحدة مع ترسُّخِ فكرةِ العولمة والشركات العالمية العابرة للحدود.
كذلك استشهدنا من قبل بكتاب آلان دونو عن نظام التفاهة، وهي نظريةٌ فلسفيةٌ سياسيةٌ جديدة، تنبَّأ بها فيلسوفُ العلومِ السياسية الكندي آلان دونو بالواقع المزري للإنسان العاقل، وتتلخص نظريتُه بسيطرة التافهين على العالم، ومن كتابه نقتبس المقطع التالي:” إنَّ التافهين قد ربحوا الحرب، وسيطروا على عالمنا، وباتوا يحكمونه، وإنَّ القابلية للتعليب حلّت محلّ التفكير العميق”. وأعطى آلان دونو نصيحةً فجَّةً للناس في هذا العصر، من باب السخرية، موجزُها: ” بأنَّه لا لزوم لهذه الكتبِ المعقدة، ولا تكن فخورًا ولا روحانيًّا، فهذا يُظهرك متكبرًا، ولا تقدِّمْ أيَّ فكرة جيدة، وإلَّا فستكون عرضًة للنقد، ولا تحملْ نظرةً ثاقبة، بل وسِّعْ مقلتيك، وأرخِ شفتيك، وفكرْ بميوعة (أي بمرونة وقابلية للتشكيل) وكن كذلك حتى تنجح…إذن عليك أن تكون قابلًا للتعليب حتى تعيش في عالم اليوم”.
لقد تغير الزمن، فالتافهون قد أمسكوا بالسلطة، وقواعدِ توزيع الثروة، ومجملِ القواعد والقوانين التي تحكم كلَّ جوانبِ حياتنا فوق كلِّ بقعةٍ على سطح هذا الكوكب. لا ننسى أنَّ ظهور هؤلاء التافهين وعبثية ما أوصلوا له البشريةَ هي تتويجٌ لصعود وعلو الصنف التاسعَ عشرَ للبشر الذي أطلقنا عليه سابقًا مصطلح “الإنسان العابث” ” frivolum Homo ” الذي سيرث بلا شكٍّ الإنسانَ العاقل” Sapiens Homo”. لكن ما لم نبحثْه من قبل هو كيف استطاع هؤلاء السيطرةَ على عالمنا؟
ربما نجدُ الكثير من الأجوبة التي قد تمسك طرفًا من الحقيقة، لكن يبدو للمتبصر أنَّ سرَّ بقاءِ نظام التفاهة وإزاحته كلُّ الأنظمة الأخرى، لم يكن ليحصل لولا ما يمكن أن نسميَه اصطلاحًا “صناعة الغباء” ومكافأة الأغبياء، فقتلُ الإبداعِ البشري، وحشرُ العقول البشرية ضمنَ العلب المعدة سلفًا من صناع ومبدعي نظاِم التفاهة؛ هو الذي جعل نظام التفاهة لا ينافسُه بديلٌ حقيقيٌّ بمحتوى لا يعاكس الفطرة البشرية، ويبدع قواعدَ عادلةً نسبيًّا لتوزيع الثروة. لنُقرِّبَ ونُبسطَ مفهومَ صناعة الغباء، يكفي أن نتذكر طرقَ التعليم في بلادنا التي تحشر العقلَ البشريَّ لما لا يقلُّ عن أربعةَ عشرَ عامًا في الكتاب المدرسي، أو أن نتذكر التخصص المبالغ فيه في توليد المهارات في منظومة التعليم والإنتاج الغربيةِ التي جعلت من العقول البشرية قطعَ غيارٍ قابلةً للاستبدال بسهولة ضمن تلك الآلةِ الإنتاجية الهائلة، أو لنتذكر النظامَ التقاعدي الذي يجعل العقلَ البشرَّي الناضجَ الذي بدأ يفيضُ حكمة وتجربة تُمكنُه من صناعة الفرق، يجلس مُرغمًا على الخطوط الجانبية في ملعب الحياة، ليدخلَ في دائرة الأمراض النفسية، أو يُحشرَ في دار العجزة مع قرنائه!
بالطبع ليس بيد الفردِ أن يُغيرَ منظومةً كاملةً سيطرت على كافة جوانب وأركان حياتنا حتى غرف نومنا السرية، إذن فرصتُنا للبقاء هو الخضوعُ بانكسار لتلك المنظومةِ الهائلةِ، وأن نضعَ عقولنا جانبًا، ونلبِسَ ثوب الغباء؛ لكي نستطيعَ أن نجدَ مكانًا لنا في تلك العلب التي تسمى آلةَ الإنتاجِ والاسترزاق التي أبدعتها تلك المنظومة.
أثبت التاريخ البشري للقارئ المتبصر؛ أنَّ أيَّ شيءٍ يحارب إحدى نعمِ اللهِ على خلقه، وأهمُّها العقلُ البشريُّ، يصبح هدفًا للحرب والإزالة من الخالق. وصناعةُ الغباء تندرج دون أدنى شك ضمن هذه الفئة! تبدو صناعةُ الغباء للمتأمل أمرًا قديمًا قدمَ الكائن البشري؛ وقد عبَّر عنها ربُّ العزةِ جلَّ جلالُه حين وصف نظام فرعونَ الذي سَاقَهُ فرعونُ لاتباعه على أنَّه الطريقةُ المثلى لمعاشهم؛ كما يُسَوِّقُ التافهون نظامَهم لسكان القرية العالمية هذه الأيام: “قَالُوٓاْ إِنْ هَٰذَٰنِ لَسَٰحِرَٰنِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ ٱلْمُثْلَىٰ (طه-63)، فكان وصفُ ربِّ العالمين لهذه الظاهرةِ التي تشبه زمنَ التفاهة الحالي، والتي عمادُها صناعةُ الغباءِ في صورة الزخرف :فَٱسْتَخَفَّ قَوْمَهُۥ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمًا فَٰسِقِينَ (الزخرف – 54) .
صناعةُ الغباء لم تعدْ هذه الأيام حكرًا على نظامنا التعليمي أو مجتمعاتنا المستعبدةِ التي تحركُها حفنةٌ من رجال الاستخبارات في أقبية سرية، ولكنَّها كفيروس أو سلاح بيولوجي أصابت صانعيه في مقتل، فأصبحوا مثل قصة د. جيكل ومستر هايد للمؤلف الاسكتلندي روبرت لويس ستيفنسون، حين يقتلُ الوحشُ صانعَه في تكريس واضح لعجز البشر عن تحدي خالق البشر، أو حتى تجاوز الخطوط التي وضعها لهم، وغرسها في فطرتهم السليمة: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِى فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (الرّوم – 30).
لنعلمْ أنَّ صناعةَ الغباء التي بدأت تتسلل لتصلَ إلى أعلى مراكزِ البحثِ والجامعات الغربية ومراكز صناعة القرار، ستكون بلا شكٍّ رأسَ الحربة في هدم منظومةِ الحياة الغربية السائدة التي جعلت من أحلام وجهد أفضلِ العلماء وخيرة المجتهدين مرفقاً بمكافأتهم المالية طوال حياتهم تنتجُه مطبعةُ عملةٍ ورقية في أقل من ثانية واحدة بلا أيِّ جهدٍ حقيقي مقابل، والدخلُ السنويُّ ليوتيوبر بمحتوى تافهٍ يتجاوز بمراحلَ البديلَ الماديَّ لأرفعِ مرتبةٍ علميةٍ أو جهدٍ بشريٍّ حقيقيٍّ، كاختراع دواء يعالج مرضًا عضالًا يفتك بالبشرية جمعاء.
إذن هناك شيءٌ ما سيقضي بسرعة هائلة على آلة صناعةِ الغباء تلك، أمَّا البديل، فينتظر إحدى اثنتين لا ثالث لهما، إمَّا حلٌّ شيطاني جديد يُدخل البشرية في دوامة جديدة من تيه قوم موسى الذين عبروا البحر، أو إعادة ترسيخٍ للقواعد الإلهية بحل إبداعيٍّ بشريٍّ يصنع العدالةَ النسبيةَ على كوكب الأرض مقتبسٍ من تعاليمَ إلهيةٍ واضحةٍ كالمحجة البيضاء من لدن حكيم خبير.