ما يزال فرانسيس فوكوياما يشير إلى جميع الطرق التي تفشل بها الأنظمة غير الليبرالية في الوفاء بوعودها. ولكن، ما عليك سوى أن تنظر حولك فحسب.
* *
تخيل عالماً يكون فيه رئيس الدولة الأسمى معزولاً تمامًا تقريبًا عن الجنرالات الذين يقودون قواته المسلحة. في مثل هذا العالم، سيكون سلوك السياسة العسكرية على الفور مقيدًا بثقل علوي ويعيقه اعتماد مفرط على البيروقراطية -ناهيك عن عزله عن أي نوع من التأثير الديمقراطي أو أي التزام بالضوابط. ومن شأن مثل هذه المشاكل أن تمتد إلى مجالات أخرى من الحكومة أيضًا: مع تلبية عدم كفاءة حكم الرجل الواحد للنطاق شبه المطلق للدولة الاستبدادية، نجد أنفسنا خاضعين لقوى تكون أكثر حرصًا باطراد على التدخل في شؤوننا وأقل حرصًا على التدخل فيها بشكل إيجابي. وتسمم الأزمات المماثلة الاقتصاد، فيما يتجلى بوضوح في سوء التوزيع الجسيم للموارد: فالصف تلو الآخر من المساكن التي تُبنى لتظل فارغة أو تواجه الهدم بسبب نقص المستأجرين القادرين على الدفع (ناهيك عن وجود أسر تستطيع الشراء)، كل ذلك بينما يجوع الأطفال ويجلس الرجال في منازلهم بسبب الافتقار إلى العمل ذي الأجر المجزي. كما تكون الثقافة مخنوقة أيضًا، لأن فرض القيم التي يوافق عليها النظام من أعلى إلى أسفل لا يطلق العنان (كما كان الوعد) للإبداع الإنساني الطبيعي، بل إنه يخنقه ببساطة في الحقيقة.
ويحذر فرانسيس فوكوياما أيضًا من أنه من دون الديمقراطية الليبرالية، يصبح هذا العالم الموصوف حقيقة واقعة. وبطبيعة الحال، ثمة علامة ليست صغيرة ضد نظريته هي حقيقة أن هذا العالم نفسه موجود في ظل الديمقراطية الليبرالية.
في مقال نشر مؤخرًا في مجلة “ذي أتلانتيك”، (نشرت “الغد” ترجمته في 23 تشرين الأول (أكتوبر) تحت عنوان: “فرانسيس فوكوياما: المزيد من الأدلة على أن هذه هي نهاية التاريخ”)، دافع فوكوياما، رجل الدولة الكبير في الفلسفة السياسية الأميركية، مرة أخرى عن أطروحة “نهاية التاريخ” التي كان قد اقترحها لأول مرة في مقال له نشر في العام 1989 في مجلة “ذا ناشيونال إنترست”، ثم وسعها في كتاب صدر في العام 1992. للوهلة الأولى، تبدو نظرية فوكوياما بسيطة للغاية. ولكن، مع قليل من التفكير، يشرع الأمر في أن يصبح معقدًا، ومع بعض القراءة الإضافية، يعود بسيطًا مرة أخرى.
مع هزيمة الشيوعية السوفياتية، كما جادل فوكوياما، جاءت أخيرًا نهاية التاريخ التي كان قد حددها هيغل لأول مرة في نهاية الثورة الفرنسية. كانت الديمقراطية الليبرالية، المرتبطة بالرأسمالية، هي نقطة نهاية التنمية بالنسبة للإنسان وحكوماته. وكان كل التقدم الذي يتم إحرازه يفضي حتمًا إلى هذه النقطة، بحيث لم يتبق مكان آخر يمكن أن نذهب إليه (ربما سوى العودة إلى الوراء).
كان فوكوياما حذرًا بما يكفي لإنهاء عنوان مقاله بعلامة استفهام، وعمد إلى تقديم أطروحته كنوع من الأسئلة أيضًا: “ما إذا كان من المنطقي، في نهاية القرن العشرين، أن نتحدث مرة أخرى عن تاريخ متماسك واتجاهي للبشرية، يكون من شأنه أن يقود الجزء الأكبر من البشرية إلى الديمقراطية الليبرالية في نهاية المطاف”. أو العكس: أما إذا كانت هناك “أي ’تناقضات‘ أساسية في الحياة البشرية لا يمكن حلها في سياق الليبرالية الحديثة، فإنها ستكون قابلة للحل من خلال إقامة بنية سياسية اقتصادية بديلة”. وهو يجيب بنعم عن السؤال الأول و”لا” لينة على الثاني -وهو مخطئ، بالطبع، في كلتا الحالتين.
خلال سنوات من التحدي، قام فوكوياما بتأهيل الأطروحة الجريئة الأصلية إلى حد أودى بها إلى عدم الوجود أساسًا، بما في ذلك في مكان مبكر من كتاب العام 1992، الذي ألغى فعليًا الأطروحة الانتصارية نفسها بإضافة عبارة “الرجل الأخير”. (في الواقع، كانت عبارة “أو، ربما لا” التي أبقت نهاية التاريخ تسير بعرَج على مدى العقود الثلاثة الماضية، محتواه في اعتراف المقال الأول بأنه “من المستحيل استبعاد الظهور المفاجئ لأيديولوجيات جديدة أو تناقضات لم يتم تمييزها سابقًا في المجتمعات الليبرالية”).
هذا المصطلح مستعار أصلاً من ”هكذا تحدث زرادشت”، لكن رجل فوكوياما الأخير ليس هو رجل نيتشه. كان رجل نيتشه الأخير مخلوقًا مثيرًا للشفقة، غير قادر على الرغبة في (ناهيك عن تحقيق) أي شيء يتجاوز الشعور بالارتياح. لكن رجل فوكوياما الأخير هو مجرد رجل عادي في نهاية التاريخ، لا يملك أكثر من الارتياح، لكنه لم يفقد الدافع وراء البحث عن العظَمة، “الميغالوثيميا”؛ إنه شيء متأصل في طبيعته. وهكذا تساءل فوكوياما دائمًا عما إذا كانت القوى الأقوى، مثل القومية والدين، قادرة على إفراغ الليبرالية من روحها.
لذلك كان المتطرفون الليبراليون، مثل نجمي “بولوارك” (2) جوناثان لاست Jonathan V. Last وبيل كريستول Bill Kristol (وهما من رجال نيتشه الأخيرين، وليس من رجال فوكوياما) خائفين حتى الموت من التطورات الأخيرة. وقد سئل لاست عن مقال فوكوياما المذكور في الأتلانتيك: “ماذا لو كانت هذه نهاية التاريخ، لكن الليبرالية تخسر؟”.
التقط كريستول بعض الأسئلة المهمة التي طرحها لاست: “ماذا لو كانت المشكلة هي أن نسبة كبيرة من المواطنين قرروا أنهم لا يريدون الديمقراطية، لأن الديمقراطية تمنح السلطة لمجموعات اجتماعية لا يتماهى هؤلاء المواطنون معها ويكرهونها؟”، وأيضًا: “ماذا لو قررت نسبة كبيرة من المواطنين في ديمقراطية أنهم يريدون اللا-ليبرالية كخيار؟ ليس لأنهم راضون عن أنفسهم أو مخدوعون أو مخطئون -ولكن لأن لديهم تصورا واضحا بشأن ما يعتبرونه عدوهم؟”.
كان تفسيرهما خاطئًا وسيئ الدوافع (من المثير للاهتمام أن مقال فوكوياما يحمل عنوانًا فرعيًا “العدو هو نحن”) لكنهما اكتشفا شيئًا مهمًا هنا. فلننس قصة “صديق-عدو” ونعبر عن الفكرة بعبارة أكثر بساطة: ماذا لو قررت “نسبة كبيرة من المواطنين أنها لا تريد الديمقراطية… ليس لأن هؤلاء المواطنين راضون عن أنفسهم، أو مخدوعون، أو مخطئون -ولكن لأنهم واضحو الرؤية”.
كانت نظرية فوكوياما عن الحقيقة الانتصارية الديمقراطية -وهي، على الرغم من كل مؤهلاتها، كذلك- كانت تعاني من خبرة سيئة وغير سارة على الإطلاق. فقد انهارت جميع مزاعمها القصوى -حتى أن أولئك الذين قرعوا طبول الحرب لبدء مسيرتها بدأوا يعترفون الآن بأنهم ربما كانوا مفرطين في الأمل.
وهكذا تحول فوكوياما إلى استدعاء حجج أكثر براغماتية: ربما كانت الأشياء المتعلقة بالديمقراطية الليبرالية المكتوبة في قلوب الرجال مبالغًا فيها بعض الشيء -ولكن انظروا إلى البدائل!
بعد ألكسندر كوجيف، أشار فوكوياما إلى الاتحاد الأوروبي باعتباره أفضل تعبير متجسد عن دولته الليبرالية العملاقة المثالية. ولكن، ما من شك في أن فوكوياما، بعد أن كان قد خرج حديثًا من الخدمة في إدارة ريغان ومن التفكير في نهاية الحرب الباردة، كان يفكر في الولايات المتحدة عندما كتب لأول مرة “نهاية التاريخ”. في كلتا الحالتين، في العام 2022، لا تشكل الولايات المتحدة ولا الاتحاد الأوروبي نموذجًا رائعًا للحكم -ناهيك عن فشلهما في حل تناقضات التاريخ والطبيعة البشرية.
في تعارض مفترض مع الديمقراطيات الغربية، يرى فوكوياما أن القوى غير الليبرالية الجديدة هشة وعرضة للصدمات؛ قادتها أشخاص فاقدو اللمسة، هياكلهم غير فعالة. وهم يُجرون تقييمات سيئة بشكل مضحك لقدرات دولهم. وثمة قطاعات واسعة من السكان لا يدعمون حكومتهم في الواقع، بينما يتبين أن أنماط الإنتاج التي يتم الترويج لها على أنها متطورة كانت في الحقيقة غير مناسبة للمجتمع البشري. في الصين، “يتم تفجير المجمعات السكنية الضخمة بالديناميت لأنه لا يوجد أحد يشتري الشقق فيها”. وفي إيران، يخرج المتظاهرون الليبراليون إلى الشوارع في مظاهرات غالبًا ما تتحول إلى اشتباكات عنيفة أو شبه عنيفة مع الشرطة. “يمِّم شطر الوطن الآن أيها الملاك، وذُب في الحزن”.(3)
ربما يكون التناقض الوحيد الجدير بالانتباه بين الغرب والشرق هو مسألة الحرب الأوكرانية. عندما أعلن بوتين في أيلول (سبتمبر) أنه سيرسل المزيد من الروس للموت من أجل القليل من الأرض، ذكرت الأنباء أن الروس المؤهلين للتجنيد فروا إلى الحدود بالآلاف لتجنب الخدمة في الجيش. إن إمبراطورية فلاديمير بوتين هي نمر من ورق -إنها لا تحظى بأي ولاء، كما يمكن القول- لنظام ينتمي إلى حقبة ما بعد التاريخ، الذي يرسل الأولاد من كانساس ليتم تفجيرهم في قندهار من أجل برنامج لدراسات النوع الاجتماعي.
كتب فوكوياما “أن شرعية بوتين استندت إلى عقد اجتماعي وعَد المواطنين بالاستقرار وقدر من الازدهار مقابل السلبية السياسية، لكن النظام نكث بتلك الصفقة وهو يشعر الآن بالعواقب”.
وهكذا، يبدو أن ثمة شيئين يميزان الحضارات غير الليبرالية عن نظيراتها المستنيرة. الأول هو أنها تشعر بعواقب جراء نكثها بوعدها بـ”الاستقرار وقدر من الازدهار في مقابل السلبية السياسية”. والثاني هو أن عددًا قليلاً جدًا من الرجال يموتون بعمىً في حروبها الغبية.
وهكذا، فإن عودة إلى التاريخ -في شبه جزيرة القرم، أو كابول، أو تايوان، أو السهول الأميركية والحفر التي ينجذب منها أبناء المزارعين ليموتوا فيها- ربما تكون جميعًا جديرة بالتأمل.
*ديكلان ليري Declan Leary: ديكلان ليري هو مدير تحرير صحيفة “ذا أميركان كونسيرفاتيف”. ظهرت أعماله في “ذا لامب”، “ناشيونال ريفيو”، كرايسِس ماجازين، من بين منشورات أخرى.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Plank in Frank Fukuyama’s Eye
هوامش المترجم:
(1) “الخشبة” في العنوان: الإشارة إلى الآيات من إنجيل متى في الكتاب المقدس: “لاَ تَدِينُوا لِكَيْ لاَ تُدَانُوا، لأَنَّكُمْ بِالدَّيْنُونَةِ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ، وَبِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ. وَلِمَاذَا تَنْظُرُ الْقَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ، وَأَمَّا الْخَشَبَةُ الَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلاَ تَفْطَنُ لَهَا؟ أَمْ كَيْفَ تَقُولُ لأَخِيكَ: دَعْني أُخْرِجِ الْقَذَى مِنْ عَيْنِكَ، وَهَا الْخَشَبَةُ فِي عَيْنِكَ؟ يَا مُرَائِي، أَخْرِجْ أَوَّلًا الْخَشَبَةَ مِنْ عَيْنِكَ، وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّدًا أَنْ تُخْرِجَ الْقَذَى مِنْ عَيْنِ أَخِيكَ!”.
والفكرة أن فوكوياما لم ينظر أولاً إلى عيوب النظام الليبرالي الرأسمالي الذي يدافع عنه قبل أن ينتقد ما يسميه الأنظمة الاستبدادية. وكان الأولى أن يزيل الخشبة من عينه قبل أن يحاول إزالة القذى من عين الآخر.
(2) بالوارك The Bulwark: محطة تلفزيونية أسسها في العام 2018 سارة لونغويل وتشارلي سايكس وبيل كريستول. تركز على التحليل السياسي وإعداد التقارير من دون ولاءات حزبية أو تحيزات قبلية.
(3) الإشارة إلى بيت من قصيدة “ليسيداس” للشاعر الإنجليزي جون ميلتون.
المصدر: الغد الأردنية/(ذا أميركان كوسيرفاتيف)