“حزب الله” يجدد ضغوطه لتأليف حكومة تدير الفراغ الرئاسي لكن على ميقاتي هذه المرة بدل باسيل. تستمر المحاولات لتشكيل حكومة جديدة في لبنان على الرغم من أن الأيام العشرة الباقية من المهلة الدستورية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، وتاريخ انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون في 31 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، يفترض إعطاء الأولوية لهذا الاستحقاق على استحقاق تأليف الحكومة. فانتخاب الرئيس يجعل تأليف حكومة جديدة “لزوم ما لا يلزم” لأن الدستور يفرض تغيير الحكومة (المزمع تشكيلها قبل 31 أكتوبر) فور بدء ولاية الرئيس الجديد للجمهورية، كما يفرض الدستور ذلك عند قيام مجلس نيابي جديد.
الإصرار على تأليف الحكومة في الأيام العشرة الأخيرة من عهد عون، يعود إلى القناعة الضمنية عند الساعين إلى ذلك باستحالة انتخاب الرئيس الجديد قبل 31 أكتوبر، لعدم الاتفاق بين الكتل النيابية على إسم محدد، ولعجز القوى الأساسية عن ضمان الأكثرية لأي من المرشحين المطروحين، فتؤول سلطات الرئاسة إلى الحكومة، التي يحرص الفريق الرئاسي المنقضي دوره في السلطة على أن يكون له النفوذ المقرر فيها، من أجل تأمين استمرارية دوره في حال طال الفراغ الرئاسي، مثلما حصل بين مايو (أيار) 2014 عندما انتهت ولاية الرئيس ميشال سليمان، وأكتوبر (تشرين الأول) 2016 حين انتخب الرئيس عون خلفاً له. وفي حينه، شهدت الحكومة التي رأسها تمام سلام، مشاحنات ومناكفات كثيرة تحت سقف التنافس على الصلاحيات الرئاسية والضغوط من أجل انتخاب عون رئيساً.
باسيل و”بوليصة التأمين”
بلغ الخلاف حول تأليف الحكومة حد تهديد فريق عون وصهره النائب جبران باسيل بإجراءات قانونية تفقد حكومة تصريف الأعمال المستقيلة برئاسة نجيب ميقاتي الصفة القانونية لتولي سلطات الرئاسة، وسط تحضير الرأي العام لاعتبارها غير شرعية “ومغتصِبة للسلطة ” كما قال باسيل، في وقت رأت اجتهادات أخرى، استند إليها ميقاتي ومؤيدوه، أن الدستور ينص على تولي الحكومة مقاليد الرئاسة من دون أن يمنعها من ذلك إذا كانت حكومة تصريف أعمال. إلا أن النائب باسيل قال قبل أسبوع، في مهرجان نظمه “التيار الوطني الحر” في ذكرى 13 أكتوبر 1990 حين جرى إخراج الجنرال عون من القصر الرئاسي بالقوة بواسطة القصف الجوي السوري ودخول القصر من قبل القوات السورية وعناصر من الجيش اللبناني موالين لحلفاء دمشق، إن “حكومة تصريف أعمال ناقصة الصلاحيات لا تستطيع أن تجتمع ولا أن تاخد قرارات، ولا تستطيع أن تتسلم صلاحيات رئيس الجمهورية، هي أصلاً فاقدة الصلاحية والثقة من المجلس النيابي (الجديد) فكيف لها أن تأخذ صلاحيات ليست لها؟”.
واعتبر باسيل أنه “يجب أن تتشكل الحكومة لتكون بوليصة تأمين في حال الفراغ في الرئاسة والحكومة”. وشدد على مطالبه ومطالب عون الحكومية قائلاً “إننا لن نسمح بتجاوز صلاحيات رئيس الجمهورية وموقعه بعملية تشكيل الحكومة”، مضيفاً أن الرئيس عون لن يقبل في آخر أسبوعين “ما لم يقبل به على مدى ست سنوات”.
مرسوم قبول الاستقالة عمل إعلاني أم إنشائي؟
وكان الفريق الرئاسي هدد في سياق تصعيد ضغوطه على ميقاتي وسائر القوى السياسية التي تعتبر أن بإمكان حكومته المستقيلة أن تتسلم صلاحيات الرئاسة، بإصدار الرئيس عون مرسوم قبول استقالة حكومته قبل مغادرته القصر الرئاسي منتصف ليل 30 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، لنزع أي شرعية لاستمراريتها في تولي السلطة بعد الشغور الرئاسي. ويستند الفريق الرئاسي في التلويح بهذا الإجراء إلى الفقرة الخامسة من المادة 53 من الفصل الرابع في الدستور التي تنص على الآتي: يصدر رئيس الجمهورية منفرداً المراسيم بقبول استقالة الحكومة أو اعتبارها مستقيلة”.
لكن بعض القانونيين والدستوريين وجدوا في هذا الإجراء خطوةً بلا مفعول قانوني، لأن تكليف الحكومة بتصريف الأعمال (إلى حين تشكيل حكومة جديدة) نص عليه الدستور في الفقرة الثانية من المادة 64 في الدستور كالآتي: “لا تمارس الحكومة صلاحياتها بعد اعتبارها مستقيلة إلا بالمعنى الضيق لتصريف الأعمال”، وبالتالي هو ليس من اختصاص رئيس الجمهورية حصراً.
ويوضح الخبير القانوني والدستوري، نقيب المحامين السابق في طرابلس والشمال، الوزير السابق رشيد درباس، أن إصدار رئيس الجمهورية مرسوم قبول الاستقالة له مفعول إعلاني، وهو مختلف عن المفعول الإنشائي قانونياً (الطلب أو النهي). وبمعنى آخر فإن استقالة الحكومة أو اعتبارها مستقيلة كفعل، محددان في الدستور، إذ يحدد في المادة 69 الحالات التي تُعتبر فيها الحكومة مستقيلة، وهي ستة حالات: استقالة رئيسها، إذا فقدت أكثر من ثلث أعضائها، وفاة رئيسها، بدء ولاية رئيس الجمهورية، بدء ولاية البرلمان، نزع الثقة منها من قبل المجلس النيابي… وبالتالي فإن الأمر ليس مرهوناً بقرار رئيس الجمهورية. أما النص على أن يصدر الرئيس مرسوم قبول الاستقالة فهو بذلك يعلن أمراً منصوص عنه في الدستور، ولا يصدر عنه هو حصراً.
ويتفق عدد من القانونيين على أن تسلسل الأمور في خصوص إعلان مراسيم قبول استقالة الحكومات يفرض أن يتم استناداً إلى تدرج يقضي بقبول استقالة الحكومة ومباشرةً من بعده إعلان مرسوم تشكيل الحكومة الجديدة، لا سيما أن إنهاء حالة تصريف الأعمال للحكومة المستقيلة غير ممكن قبل أن تتسلم زمام الأمور حكومة أصيلة. وفي الحالة التي يهدد فيها “التيار الحر” بإصدار مرسوم قبول استقالة الحكومة فإنه لا يضيف جديداً على الواقع لأنها مستقيلة إلزامياً وفق الدستور، وبالتالي ما من مانع قانوني لأن تمارس تصريف الأعمال طالما لم تُشكَل حكومة جديدة. الأوساط المعارضة للعهد الرئاسي ترى أن التلويح بمنع رئيس الحكومة من تولي مهمة ترؤس حكومة تدير الفراغ الرئاسي محاولة للعودة إلى ما قبل “اتفاق الطائف” حين كان رئيس الجمهورية يعين رئيس الحكومة ويقيله، منفرداً.
إلا أن تلويح الفريق الرئاسي بتلك الخطوة يأتي في سياق تصاعد شد العصب من قبل قيادة “التيار الوطني الحر” بعد فقدانه موقعه في الرئاسة الأولى وخشيته من تهميشه بعد انتهاء ولاية عون، وتحميله مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في يلبنان، بحيث يسعى إلى ضمانات في العهد المقبل عبر نموذج الحكومة التي ستتولى الرئاسة الأولى. ولكن “التيار” دأب على اتهام ميقاتي بأنه لا يريد تأليف حكومة كي يتولى سلطة الرئاسة الأولى التي ترمز إلى دور المسيحيين في الدولة، بينما يُنقل عن ميقاتي قوله إنه لن يقبل بتسليم البلد لفريق “التيار الوطني الحر” مع نهاية ولاية عون، عبر تلبية مطالب باسيل بالحصول على أكثرية الوزراء المسيحيين واستبدال الوزراء الذين سماهم، إذ يريد وزراء يواجهون رئيس الحكومة، ويطلب ضمانات بالحصول على قرار الحكومة بتعيينات في المواقع العليا الإدارية والأمنية والمالية (لاسيما تغيير حاكم مصرف لبنان رياض سلامة لتعيين موالٍ له).
شدّ العصب هذا قوبل من جانب بعض القيادات السنية التي أثار حفيظتها سعي الفريق الرئاسي إلى حجز موقع متقدم له في مرحلة إدارة الشغور الرئاسي ثم في العهد الرئاسي المقبل. وكان لافتاً أن المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى الذي ينعقد برئاسة مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان أعلن في بيان له السبت 15 أكتوبر، أنه “يحذّر من محاولات وضع العصي في دواليب الحركة الإنتقالية الدستورية، عن طريق تعطيل انتخاب رئيس جديد للدولة، ونبّه من وصف الحكومة الحالية بأنها غير ميثاقية وبالتالي غير مؤهلة لملء الفراغ الرئاسي إن حصل. ورأى المجلس الشرعي أن “عرقلة محاولات تعديل الحكومة الحالية أو تعطيل تشكيل حكومة جديدة، من شأنها دفع لبنان نحو المزيد من الإنهيار، إذا كان هناك من مزيد”. وحذر أصحاب المصالح الشخصية من المزايدات في دولة تعاني من الفشل والانهيار”. فالأوساط السياسية السنية يسيئها الانتقاص من دور رئاسة الحكومة في إدارة المرحلة المقبلة، ومن محاولات للعودة إلى ما قبل “اتفاق الطائف” ولذلك سبق للمفتي دريان أن أكد على وجوب انتخاب رئيس للجمهورية بدلاً من افتعال سجال حول دور الحكومة في تولي السلطة في ظل الفراغ.
ضغوط “حزب الله” للتأليف في آخر 10 أيام
وفي وقت ازدادت مظاهر اتخاذ الصراع حول تأليف الحكومة والمواقع فيها، طابعاً طائفياً، تجددت ضغوط “حزب الله”، أكثر الأطراف حماساً من أجل التأليف، لإعادة الحرارة إلى الاتصالات الحكومية. وهو ما اعتبره مراقبون إشارةً إلى أن الحزب يفضل الفراغ الرئاسي نظراً إلى عدم قدرته وحلفائه على الإتيان برئيس موالٍ له، بانتظار تغيير المعادلة في البرلمان، واستمالة أصوات لمرشح يرتاح إليه. وبينما كان الحزب يمارس تلك الضغوط الحكومية في الأسابيع الماضية على باسيل من أجل خفض سقف مطالبه حيال ميقاتي، تحول في الأيام الماضية إلى الضغط على ميقاتي نفسه، داعياً إياه إلى أن “يقف على خاطر باسيل” وفق قول مصدر اطلع من رئيس الحكومة المكلف على جانب من الاتصالات التي جرت معه في هذا الملف. وذكرت المصادر أن “حزب الله” بات يميل إلى الأخذ بمطالبة باسيل باستبدال بعض الوزراء المسيحيين الذين كان سماهم في الحكومة الحالية، التي يرغب ميقاتي بتعويمها مع بعض التعديلات الطفيفة في 3 أو 4 وزارات.
وتشكل الأيام القليلة الفاصلة مع نهاية العهد في آخر أكتوبر، اختباراً لمدى تجاوب ميقاتي مع بعض مطالب باسيل، خصوصاً أن الوسيط السابق بين عون وميقاتي، المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم عاد إلى التحرك بناءً لتشجيع من “حزب الله” في محاولة التوصل إلى قواسم مشتركة في تركيبة الحكومة. إلا أن اللواء ابراهيم لم يخف أمام من التقوه أن جهوده لم تحرز تقدماً في الأيام الماضية، لكنه مستمر فيها.
المصدر: اندبندنت عربية