في أوائل عام 2014 ظهرت في العراق، ومن عتمة المجهول وعالم الأساطير منظمة غير معروفة سابقا، تدعى تنظيم الدولة الاسلامية – (داعش) بطريقة مريبة وأقرب الى الافلام والمسلسلات التلفزيونية، إذ فر من أحد سجون بغداد مئات المقاتلين المتطرفين دفعة واحدة ، محسوبين على الاسلام السني . وادعت مصادر الحكومة إن قواتها الامنية والعسكرية لم تتمكن من اعتقال أحد منهم !
وفي حلقة ثانية من هذا المسلسل المثير ، وصل الهاربون بيسر وسهولة الى ثاني كبرى محافظات العراق ، وعاصمة الطائفة السنية ، الموصل في أقصى غرب العراق ووصلوا الى الأنبار ، وفي ساعات قام هؤلاء المقاتلون الحفاة باحتلال عدة مدن ، وطرد الجيش منها والاستيلاء على ترسانة الاسلحة التي خلفها الجيش في ثكناته ومخازنه ، وبعضها أسلحة اميركية جديدة لم تستعمل أبدا ، بينها دبابات ومدرعات وآليات حديثة وسيارات دفع رباعي ، كما لو أن ما جرى عملية تسليم واستلام متفق عليها بين الطرفين . كما قام المقاتلون الداعشيون بنهب مئات ملايين الدولارات التي تركها مسؤولو المدينة الهاربون من البنوك ، ثم أعلنوا قيام ( دولة خلافة ) بإمارة أبو بكر البغدادي الذي حصل على البيعة من آلاف المواطنين تحت التهديد والارهاب الذي مارسه جنوده الذين ما لبثوا أن زحف اليهم من كل أصقاع العالم مقاتلون من كل الجنسيات توحدهم اللحى الطويلة والملابس الأفغانية، شاركوا في إدارة دولة الخلافة وتطبيق أحكام الشريعة كما يفهونها .
وفي حلقة ثالثة ، تمدد تنظيم الدولة الى سورية تحت عباءة تنظيم القاعدة ، واحتل مدنا عدة في عاصمة الصحراء الشرقية ، بين دير الزور والحسكة ، ثم تمددوا الى الشمال وسيطروا على مناطق ومدن ذات غالبية مسيحية ويزيدية وكردية ، قاموا بمعاملة سكانها كسبايا وأسرى وغنائم ، باعوا فتياتهم في الأسواق واغتصبوهن ، واعتدوا على الكنائس ، وأعدموا الكثير منهم ، أو طلبوا المال فدية مقابل اطلاقهم . ثم وصل الداعشيون الى محافظة الرقة في شمال سورية على ضفاف الفرات ثم مدينة الطبقة التي يقع فيها سد الفرات ، المصدر الرئيسي لكهرباء سورية ، ومورد المياه الوحيد في نصف سورية الشمالي ، حيث تقع حقول الزراعة ، ومورد الغلال الاستراتيجية . كما أصبحت حقول النفط السورية كلها في قبضتهم .
الدولة الداعشية : ولاية ايرانية :
هكذا أصبحت دولة الخلافة الداعشية الممتدة من غرب العراق الى أواسط وشمال سورية حقيقة جغرافية قائمة ، وتستحوذ على 282485 كم2 ، فضلا عن أنه وصل لاحقا الى مدن رئيسية في سورية كحلب وحمص وحماة وتدمر وادلب وضواحي دمشق وحواف حوران والسويداء ومساحات واسعة في الصحراء والبادية السوريتين فضلا عن مساحات شاسعة من الانبار الى صلاح الدين وديالى وكركوك .. إلخ .
وأقامت (دولة الخلافة) سلطة مركزية ، وادارة تنظم وتحكم ملايين الناس ، تجبي الخراج منهم ، وتسن القوانين والشرائع عليهم وتقيم المحاكم ونظام الحسبة – الشرطة ، وتسومهم سوء العذاب قتلا وذبحا وتعذيبا وحبسا . وأقامت معسكرات تدريب واستعرضت قواتها في الميادين العامة في وضح النهار .
الغريب أن هذا كله حدث على مرأى العالم ، وقرب حدود تركيا التي تسهل حركة الدواعش عبرها ، بين اوروبا واسيا الوسطى ، ووصلت داعش الى حدود لبنان الشرقية ، ونفذت هجمات عديدة على لبنان وأسرت جنودا للجيش اللبناني ، ووصلت الى بعد أمتار من قوات الأسد ، في دير الزور والحسكة شرقا ، وحلب شمالا ، وحمص في الوسط ، ودمشق والسويداء جنوبا . على مقربة من القوات الروسية والأميركية والغربية في الشمال . وكانت إدارة داعش تستخرج البترول وتبيعه الى نظام الأسد ، واصلا الى غرب سورية ! وكانت تصدره الى تركيا بأسعار زهيدة وخاصة .
وخلال ثلاث سنوات لم تتعرض مواقع داعش لأي هجمات حقيقية من الأطراف الدولية المذكورة ، بل إن مراكز بحث غربية متخصصة رصدت تعاونا ميدانيا ، ولم يحصل أي اشتباك مباشر بين تركيا وداعش واتبعتا نفس التكتيك ، أي التواطؤ ضد العدو المشترك ، قوات الكرد في تلك المنطقة . وانتقل التكتيك ” الذكي” الى روسيا وداعش ، فتجنبتا الصدام إلا نادرا ، وتفرغتا للهجوم على مواقع المعارضة السورية الوطنية . ولم يختلف سلوك الفصائل الايرانية الشيعية عن الآخرين .
وأثار دهشة المراقبين المحايدين في العالم أن داعش السنية المتطرفة لم تشن هجوم واحدا على ايران أو قواتها وفصائلها ومواقعها لا في سورية ولا في العراق . ورأوا أن الأمر لا يعدو أن يكون في نظرهم عاديا ، يتسق مع طبيعة العلاقة بين الجانبين منذ النشأة ، وطبيعة الأهداف التي يعملان لها في سورية والعراق . ففي البلدين تطابقت بصمات الفصائل الشيعية والايرانية وبصمات داعش في جرائمهما وأهدافهما وسلوكياتهما وعلى الاخص :
– تهجير السكان العرب السنة داخل وخارج مدنهم وبلادهم التاريخية .
– ابادتهم وقتلهم جماعيا .
– تغيير هوية مدنهم ، ونسف وتدمير الآثار التاريخية التي تتعلق بالهوية العربية – السنية ، – ممارسة الارهاب المنظم ، واتهام المسلمين العرب السنة به ، ودعشنتهم جماعيا بشكل منظم ، وتكفيرهم عقائديا .
– تصوير الفصائل الشيعية الايرانية كأنها فصائل معتدى عليها تدافع عن ذاتها من قبل الفصائل السنية الاصولية المرتبطة بالسعودية !
ويبلغ التنامي الدرامي في هذا المسلسل ذروته في افتضاح واتضاح العلاقة العميقة بين تنظيم داعش والمحور الايراني الشيعي ، منذ أن خرج من أحشاء تنظيم القاعدة ، المتحالف مع ايران منذ غزوة نيويورك 2001 ، وغزو العراق 2003 ، حيث تقيم قيادة القاعدة ، وقيادة طالبان الافغانية معا في ضيافة ملالي طهران ، وقسم منهم ، بما فيهم بعض أبناء أسامة بن لادن يقيمون اقامة دائمة في سورية بحماية آل الأسد في الساحل السوري منذ عام 2001 ! .
وكان مثيرا جدا أن حزب الله اللبناني أهم أذرع ايران في المنطقة ، هو الذي ضمن اتفاق داعش والسلطة اللبنانية عام 2016 ، لنقل مقاتلي داعش وعائلاتهم من حدود سورية الغربية الى دير الزور بأمان ورعاية كريمة ، في حافلات فارهة يؤمنها الحزب بنفسه ! واعترف حسن نصر الله بأنه ذهب الى دمشق وقابل بشار الاسد ليطلب منه الموافقة على هذا الاتفاق !
وتكرر المشهد المثير في نفس العام عند انسحاب قوات داعش من الرقة بعد تحريرها على أيدي قوات التحالف الدولي ، إذ انتقلت فلول داعش في حافلات مكيفة الى دير الزور .
أما في العراق فلاحظ المراقبون أن النظام العراقي المرتهن كليا لايران لجأ الى اسلوب مميز في الحرب على داعش ، إذ قام المرجع الشيعي علي السيستاني بإصدار فتوى ملزمة عام 2014 بوجوب الجهاد الكفائي ضد داعش . بناء عليها تم تشكيل فصائل الحشد الشعبي التي اقترفت بحق السنة وبحجة تحرير المدن من داعش أبشع وأفظع الجرائم في كافة المدن السنية – العربية وقتل مئات الوف منهم بشكل يكمل ما اقترفته داعش ضدهم أيضا وبنفس الطريقة ، ما يؤكد وحدة المخطط ووحدة الأداة ووحدة النهج والأسلوب والهدف . وفصائل الحشد تلك هي نفسها التي قامت بالانتقال الى سورية للقتال ضد الشعب السوري ، وابادة المعارضة والمدن السنية العربية كحلب وحماة وحمص ودير الزور والرقة بذريعة الحرب على الارهاب وسحق المؤامرة السعودية – الاسرائيلية على نظام الأسد ، ومحور المقاومة في المنطقة .
أي أن أئمة ايران وعملاءهم في العراق وسورية ولبنان استخدموا داعش مرتين ، مرة لذبح مئات الوف السنة العرب بأيديها بحجة أنهم معارضون للدولة الاسلامية وعلمانيون . ومرة ثانية بأيدي الفصائل الشيعية بحجة أنهم سلفيون واصوليون وإرهابيون ودواعش ! . فكان الطرفان الايراني والداعشي فكي كماشة ضد هدف وحيد هو المكون العربي السني في عموم المنطقة .
استراتيجية إدارة ترامب :
عندما وصل ترامب للبيت الابيض في نهاية 2016 بلورت ادارته خطة أولية لوقف الحرب والمقتلة في سورية ، ولجم التمدد الايراني في دول المنطقة ، والقضاء على كافة التشكيلات الارهابية المتطرفة السنية والشيعية على حد سواء ، وإخراج القوات الأجنبية وتوصلت هي واسرائيل الى تفاهم مع بوتين يقوم على :
أولا – تقديم اقصى التنازلات لروسيا بشرط أن تتعاون معهما لحل الازمة السورية وفق الترتيب التالي .
ثانيا – التعاون للقضاء على داعش والقاعدة والمنظمات المتطرفة كلها .
ثالثا – انهاء الوجود العسكري الايراني في سورية ، وسحب بقية القوات الاجنبية .
رابعا – الحد من هيمنة حزب الله على لبنان ، وإخراجه من سورية ، ودول المنطقة .
خامسا – اجراء تغيير سياسي في النظام السوري باقصاء الأسد عن السلطة والاتفاق على بديل مقبول لكل الاطراف الداخلية والخارجية ، وإعادة هيكلية الدولة .
والجدير بالذكر أن القوى الدولية كانت قبل ادارة ترامب تعمل على خطة مختلفة مستخلصة
من اتفاق جنيف الاول 2012 ، تتضمن :
أولا – إعلان هدنة في الصراع بين النظام والمعارضة ، وإقامة فترة انتقالية ، تشكيل جسم سياسي مشترك من المعارضة السياسية وجزء من النظام لم تتلطخ أيديه بالدماء والفساد ، مهمته ادارة الدولة خلال المرحلة الانتقالية ، ونزع سلطة الاسد . واجراء انتخابات تحت اشراف الامم المتحدة ووضع دستور جديد والانتقال الى نظام تعددي جديد .
ثانيا – تعاون الجميع للحرب على الارهاب والقضاء على داعش والقاعدة ، وبقية الفصائل السنية .
ثالثا – حظر تسليح الفصائل السورية السنية ( المعارضة والثوار ) ، لإجبارهم على وقف الصراع وقبول الحل السياسي .
ثالثا – انسحاب القوى الاجنبية المقاتلة ( ايران وفصائلها الشيعية ) من سورية .
إلا أن روسيا وايران والاسد واتباعهم كانوا يرفضون الخطة السابقة ، ويتذرعون بأولوية الحرب على الارهاب الذي يعني عندهم كل الذين حملوا السلاح ضد نظام الأسد ، بما فيهم المعارضة التي تصنفها الأمم المتحدة بالمعتدلة . ويعتبرون وجود ايران والفصائل الشيعية التي جلبتها الى سورية خارج الخطة لأن وجودها شرعي بطلب الحكومة السورية ، وتقاتل ضد الارهاب فقط . ويقبلون اصلاحات هامشية في النظام السوري لا تمس الاسد .
أما هدف ترامب الرئيسي فكان وما زال منذ بداية 2017 ابعاد روسيا عن ايران وكسبها للعمل معه لوضع حل مقبول من الشعب السوري والعالم ، بإخراج ايران من سورية واخراج الاسد من السلطة . ومقابل التمسك بهذين الهدفين الرئيسيين وافق ترامب على التساهل في النقاط الأخيرة , كتأخير الحل السياسي واخراج الاسد من السلطة لما بعد القضاء على الارهاب ، وتأخير انسحاب ايران الى ما بعد القضاء على الارهاب وتصفية جزء كبير من فصائل المعارضة .
داعش لعرقلة الاستحقاقات :
لقد بدأ التحالف الدولي فورا وفعليا التخلص من داعش ، وهو ما تحقق عام 2017 ، بفضل أميركا وحلفائها الغربيين فقط ، بينما لم تشارك روسيا وايران والأسد بشيء يذكر. وخلال الاعوام الثلاثة قامت اميركا بإجبار الدول العربية المؤيدة للثورة السورية على حظر تسليحها ، وتسليم كثير من مناطقها الى النظام وهو ما قامت به روسيا وباركته اميركا فعليا ورسميا ، كما حدث في الاتفاق الخاص بدرعا عام 2018 ، وكذلك الغوطة ، وتوقفت إدارة ترامب عن مطالبة الأسد بتسليم السلطة .
بعد ثلاث سنوات ونيف ، يمكننا ملاحظة أن التعاون الروسي – الاميركي بدأ باتفاق ترامب – بوتين الخاص بدرعا 2018 ، والاتفاق الروسي – الاسرائيلي في أعلى درجاته بدلالة التسهيلات والمباركة الروسية لاسرائيل في حربها على ايران في سورية ، وهو تعاون يصل كما يقال الى التعاون الايجابي الكامل . وهذا التعاون هو الذي يجري تطبيقه والعمل به ميدانيا وسياسيا ودوليا .
وحسب الاتفاق بينهما ، جمدت الادارة الاميركية منذ وصولها ، المطالبة ببدء المرحلة الانتقالية ، وتسليم الاسد سلطاته الأساسية لهيئة الحكم الانتقالية ، وشلت المعارضة الوطنية ، فضلا عن تدمير داعش ، جاء الدور الآن على خروج ايران وميليشياتها ، وفق الاجندة الاميركية مع روسيا للحل في سورية ، واقترب الدور على الأسد ليسلم السلطة ويغادر سورية . أي أن تساهل أميركا وقبولها بالترتيب الروسي لمراحل الحل بلغ نهايته ، ووصل الدور على المفاصل الحساسة : إخراج ايران ثم الأسد للانتقال الى نظام جديد يضع بداية حل عملية للأزمة السورية .
في هذا السياق يمكننا فهم الخلافات الأخذة بالتصاعد منذ سنة كاملة بين روسيا ، وكل من ايران والأسد ، فكلما اقترب استحقاق خروج ايران واستحقاق اخراج الاسد من السلطة ( في العام المقبل ) كلما ازدادت مقاومة الطرفين ، ومحاولتهما التهرب منهما ، بخلق عراقيل تؤخر الاستحقاقين .
معركة ادلب التي شنها الأسد بدعم ايراني كامل ، أحد هذه العراقيل . وإعادة إرخراج داعش من كم الحاوي الايراني ، هو أيضا أحد هذه العراقيل الرئيسية.
داعش هي إحدى أدوات ايران مثلها كمثل الفصائل الشيعية الارهابية في المنطقة تستعملها حيثما وحينما تحتاجها ، وايران اليوم أحوج ما تكون لإعادة خلط الأوراق لتبرر لروسيا واميركا والعالم تأخير انسحابها من سورية ، وتأخير اقصاء الأسد .
عودة داعش الى العراق وسوريا في الأيام القليلة الفائتة إنما هي جزء من سيناريو ايران لخلط الأوراق ، واستراتيجيتها لاخراج الولايات المتحدة من الشرق الأوسط ، وترسيخ وجود (محور المقاومة) و(الهلال الشيعي) من طهران الى بيروت .
تلعب روسيا دور اللاعب الميداني الأول ، ومن خلفها المايسترو الدولي الأكبر ، الولايات المتحدة ، والصراع في سورية ، حول مستقبلها في أشد لحظاته عنفا وتوترا وإثارة أيضا !
المصدر: المدار نت