عارمة ثورة الإيرانيين في هذه الأيام، لم تشهد إيران خلال السنوات الأخيرة نظيراً لها. ويمكن القول إنّ ما مِن مدينة، كبيرة كانت أو صغيرة، إلّا ونزلت فيها الجماهير الغاضبة إلى الشارع، واصطدمت مع القوّات الأمنيّة التي لا تبالي باستخدام مختلف الأدوات والأساليب لتفريق المحتجين، وكبت أصواتهم المندّدة بسياسات النظام وسوء أداء قادته.
وكلّ من يتابع الشأن الإيراني يلاحظ سير مركبة النظام في منحدر السقوط، من دون أن تتوفر لقادته الحلول لإيقاف هذا المسار. ومع الزمن، تفاقمت الأمور وازداد الاستياء الشعبي حتى أصبح ينبئ بانفجار محتوم.
عام 2003 استطاع النظام قمع الاحتجاجات الطالبية في طهران، وإدخال الحراك الطالبي الإصلاحي في حالة من السبات، استمرّت سنين عديدة. ومنذ ذلك الحين، بدأ يتضح الخط الفاصل بين الإرادتين الشعبيّة والحكومية شيئاً فشيئاً، وبان جلياً أن النظام لا يملك قابلية الإصلاح والتغيير حتى لو جاءت الأصوات الناقدة من عند المقرّبين أو من رفاق الأمس.
نشوة نصر النظام في إسكات شريحة الطلاب، وهم رأس حربة النشاط المدني، ومن ثم إبعاد التيار الإصلاحي من مسرح النظام السياسي، وما تلاه من تمدّد في دول المنطقة، ونجاحه في احتلال أربع عواصم عربيّة، أضفى على قادة النظام حالة من الغطرسة، ودب فيهم الشعور بالعزّة، حتى أوهم الأغلب منهم بأن تفوّقهم الكبير في موازين القوى يضمن لهم البقاء في سدة الحكم إلى أمد بعيد.
القراءة غير الصائبة للنظام واجهتها خلال السنوات الماضية احتجاجات شعبيّة بأمل إسقاطه، أو على الأقل تغيير قناعات قادته للقبول ولو بقدر قليل من الإصلاحات. ففي عام 2009 ثارت طهران على تزوير الانتخابات لمصلحة محمود أحمدي نجاد، وفي عام 2017 كان ارتفاع سعر البيض سبباً في احتجاج الإيرانيين، وبعد ذلك احتجت العديد من المدن على غلاء أسعار الوقود في عام 2019، ثم ثارت الأحواز على العطش في ثورة تموز، وبعدها أصفهان. وللتعامل مع كل هذه الاحتجاجات، كان القمع هو وصفة النظام الوحيدة للعلاج.
كسب النظام كل جولاته السابقة ضدّ الشعب، وذلك عن طريق انفراده بكل شريحة في غياب الأخريات، ولمعرفته بأهم ثغرات هذه الانتفاضات، وكانت أولاها التنوّع في المنطلقات والغايات عند مختلف فئات المجتمع الإيراني. فاحتجاجات تيّار “الخضراء” عام 2009 لم تكن تعني عند الشعوب غير الفارسية أكثر من مجرّد صراع بين أحزاب العاصمة، وكذلك أبناء المحافظات المركزيّة ذات الأغلبيّة الفارسيّة. أمّا المنتفعون من سياسة توزيع المياه، فلم يتضامنوا مع الأحوازيين في ثورتهم ضد سياسة التعطيش، وقس على هذا.
وأما الثغرة الثانية التي استغلها النظام في مواجهة المجتمع، فهي غياب البديل للنظام المتفق عليه بين مختلف شرائح المجتمع الإيراني. وبحسب ما تبيّنه الإحصائيات، فإنّ نسبة الاستياء الشعبي قد شهدت ارتفاعاً مطرداً خلال السنوات الأخيرة. وللتدليل إلى ذلك، يمكن الإشارة إلى الانخفاض الكبير التي شهدته نسبة المشاركين في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وكذلك توالي الاحتجاجات لمختلف الشرائح، ومع ذلك افتقر نضال المجتمع الإيراني إلى فئة أو حتى إلى شخص يحظى بنسبة قبول جماهيري، تمكنه من حصد زخم الاستياء الكبير.
والثغرة الثالثة هي الضبابية وغياب الصورة عن المستقبل وغداة إطاحة النظام، ويتساءل كل فريق عن مكسبه في حال تغيير النظام. فالشعوب غير الفارسية تبحث عن الضمانات لحقوقها في الحريّة والوطن والهوية والثقافة، والأقليات الدينية تطمح إلى مجيء من يكفل لها حرية العقيدة وأداء الطقوس، وأما الأحزاب والتيارات الفكرية، فتريد من يوفر لها حيزاً من الحريات، غير أن واقع الفعل السياسي في إيران يكشف عن غياب خريطة تتمكن من طمأنة الإيرانيين إلى حقبة ما بعد ذهاب النظام.
إذاً، ليس لفطنة قادة النظام أو تماسكه المزعوم بل بسبب الثغرات في صفوف المجتمع الإيراني الغاضب، تمكنت آلة القمع من كسب الجولات السابقة، وعليه تجاهل النظام الاحتجاجات المتواصلة للمعلمين والعمال والمزارعين والمتقاعدين وغيرهم خلال السنوات الماضية، وذلك بدافع الثقة بالذات المبالغ فيها، أو ربما العجز في معالجة قضايا المجتمع الشائكة، إلا أنه في غفلة من النظام، اجتمعت جداول الاعتراض وتحولت في أرضية جامعة إلى موجة أكبر من سابقاتها بكثير، حتى صُدم النظام بمدى استمراريتها واتساعها الفريد في جغرافية إيران.
المرأة والاستبداد الديني الخانق هما السببان اللذان نجحا في توحيد جبهة نضال المجتمع الإيراني التواق إلى الحرية والتخلص من سطوة القمع. فعندما شاع النبأ المفاجئ عن موت الفتاة مهسا أميني في معتقل شرطة الأخلاق، وجدت المجاميع المعارضة للنظام وعلى مختلف اتجاهاتها، على حين غرّة، ذلك الجامع الذي كانت تفتقر إليه خلال كل السنوات الماضية.
وتقدمت المرأة صفوف هذه الجولة من الاحتجاجات فخرجت بوجه شرطة، عُرفت بمدى قسوتها في مواجهة المواطنين، وقصت شعرها دلالة إلى ما تستشعر به من هوان ومذلة وحزن، فنجحت في إثارة تفاعل منقطع النظير في الشارع الإيراني، وما يدل إلى حجم التفاعل هو الفضاء الافتراضي، حيث غدا هاشتاغ #مهسا أميني ضمن الأربعة الأوائل في تاريخ تطبيق “تويتر” كله.
بفعل تراكم تجارب الجماهير المستاءة أو لخطأ ارتكبه النظام، توفر للإيرانيين السبب الموحد، وتخلصوا بذلك من أحد عوامل ضعف جبهتهم، فاستطاعت هذه الانتفاضة في زيادة ضغطها على النظام وإطالة مدّة صمودها في الشارع، حتى أربكت النظام وجلبت دعماً دولياً كبيراً، بدءاً بالأمين العام للأمم المتحدة والمنظمات الدولية، مروراً بممثلي الدول، ومنها الولايات المتحدة والدول الأوروبية، وصولاً إلى أصحاب الشهرة العالمية من فنانين ورياضيين و…الخ.
تحسن كبير في أداء الجماهير الغاضبة، وتراجع واضح للعيان في قدرة قوات النظام في تدارك الموقف، هما أولى النتائج للاحتجاجات الإيرانية القائمة، ومن المتوقع بشدة أن تكون هناك كرّات أخرى لمعركة الإيرانيين والنظام، لا سيما بعد يأس الجماهير من سياسة النظام الخارجية والتضاؤل الكبير في فرصة التوصّل إلى اتفاق نووي كان معولاً عليه لإنعاش الاقتصاد الإيراني، وكذلك بعد إحباط الإيرانيين من إمكان إصلاح النظام من داخله.
بعلم كان أو بمحض الصدفة، حصل الإيرانيون على نقطة اشتراك تمكنت من توحيد صفوفهم، لكن بقيت الانتفاضة كالعملاق، ولكن من غير رأس، وتظهر بعض مقاطع الفيديو متظاهرين تمكنوا من طرد الشرطة والاستيلاء على الشوارع، فجلسوا بعد ذلك على الأرصفة جاهلين خطواتهم اللاحقة، ويمكن تعميم المشهد على مجمل الاحتجاجات، كما أن الكل يسير بخطوات غير واثقة عن المستقبل وعن مرحلة ما بعد رحيل النظام.
أخذت الفواصل بين اندلاع الاحتجاجات تتقلص مع مرور الزمان، وعلى ذلك سوف تشهد إيران في مقبل الأيام معارك بين المنتفضين والنظام، والتي قد تكون أكثر ضراوة عمّا سلف، فإن أراد الإيرانيون النصر في مجابهة النظام فما لهم سوى توفير الشرطين المتبقيين، وهما توحيد القيادة والاتفاق على خريطة طريق تبيّن مراحل النضال الشعبي قبل سقوط النظام وبعده، هذا مع افتراض بقاء نسبة الاشتراك في المنطلقات على ما هي عليها من ارتفاع.
المصدر: النهار العربي