تهريب شرعي

زينة يعقوب

مشيتُ نحو نهر الفرات لألتقط صورة معه بخطوات بدت ثابتة، لكنني شعرت بقدميّ تتعثران، وسمعت ضربات قلبي تطرق في أذني، وقطعها صراخ رجل عاري الصدر، لمحتُه على شرفته المطلّة على النهر.

تابعتُ طريقي وتابع هو الصراخ، حتى بات صوته متقطعاً، لأعرف حين التفتُّ أنه نزلَ إليّ ليحذرني من متابعة الطريق: «أختي على الطرف الآخر قنّاص لأخوتنا الأكراد، وخلفه قاعدة عسكرية أميركية». بدا حذراً وهو يلفظ «أخوتنا»، لكنه لم يتحفّظ أبداً عندما حذرني من المرور بجانب نقطة تابعة للحرس الجمهوري، وعندها أدركتُ أن الرحلة لن تكون مجرد مغامرةٍ كما أَحبَّ أن يسميها صديقي، بل إنها الشهادة على المأساة.

حلمتُ لأكثر من عشرين عاماً بصورة لي على ضفة نهر الفرات، منعني عنها خوف أمي من الماء وقلق أبي الدائم عليّ. كبرتُ مع جملة «ممنوع الاقتراب»، وانتظرتُ طويلاً أن أكبر.

أتممتُ سن النضج والرشد، حصلت على استقلاليتي وقلب ميت وسعيت نحو المخاطرة، لم أعرف أن جملة ممنوع الاقتراب ستحاصرني أكثر، ستلفّ ذراعيها حول خطواتي وتشدني للأسفل وتثبتني إلى الأرض مهما علوت، ستسحبني.

بعد سنين طويلة من الغياب قررت زيارة مدن الجزيرة السورية، تواجدي المُكثف وسط دمشق عرّضني -مثل كثيرات غيري- لخطر التطبيع مع حواجز النظام السوري في كل الشوارع، وخشيتُ على نفسي من نسيان الثورة والانفصال عن الواقع. حزمتُ حقائبي واخترتُ وجهتي، حيث ولدت، الحسكة، أقصى الشمال الشرقي السوري. هناك خطوت خطواتي الأولى، وعلمتني أمي القراءة والكتابة و أبي التمرد، وأخبرتني لهجته الديرية أننا غرباء في الحسكة، لكننا مألوفون بغرابتنا. لا أتذكر حاجتي للتعريف بنفسي في الشارع أو المدرسة، ولم أكنِّ نفسي؛ إذ لطالما كنت ابنة العائلة والعشيرة الممتدة في أنحاء الجزيرة، أُنادى باسم العائلة، وأُعرَّفُ باسم أبي.

بعدها، أكملتُ مشواري بغربة حقيقية في دمشق، اخترتها بكامل وعيي طمعاً بمركزية العاصمة، وهرباً من المدينة المهمشة حيث تُرِكَ لنا فُتات التمدن.

العاصمة لم تعرف والدي، عرفتُ اسمي للمرة الأولى وعرّفت عن نفسي في كل مرة بطريقة مختلفة. أحببت ممارسة مجهوليتي في هذا المكان الكبير، واستمتعت بالتحرر من مسؤولية اسم العائلة، واكتشاف نفسي.

في الجامعة لم أمتلك لهجةً واضحةً أَنحازُ بها لجماعةٍ معينة، الصداقات في السنة الدراسية الأولى بُنيت على ألفة الحكي التي لم أمتلكها. «إنتي من وين»، كان السؤال السائد والمتوقع في بداية أي حديث، وكان انتمائي لدير الزور، الثائرة وقتها، تهمة؛ وللحسكة دهشةً على وجوه السائلين تُضحكني. كنتُ أستمتع بالإجابة -غالباً- لأحتكر الحديث وأنا أستعرض جهل أبناء المدن الكبيرة بمحافظات الجزيرة.

أسترسلُ في الحديث عن البناء الحديث على عكس العاصمة القديمة بأغلب حاراتها، وحقول القمح، والجبن البلدي، ولحم الأغنام الذي لا يَنسى طعمه من ذاقه، وعن ثراء الجزيرة بخيراتها القادرة على إكفاء سوريا، ولطالما شعرت بتفوقي لمعرفتي ذاك المكان المجهول بالنسبة لأغلب من التقيتهم.

أكرر باستمرار أن الحسكة محافظة وليست قرية، وأننا نلبس الجينزات، بل كنت أتباهى بثيابي التي اشتريتها أغلبها من محلات البضائع التركية في الحسكة.

تهريب شرعي

حماس صديقي ورغبته في مشاركتي الرحلة، أو المغامرة كما أسماها، كانا كبيرين جداً، لكن ما قد يعرقل الخطة هو قيد نفوسه على بطاقة هويته، والتي تسمح له باجتياز حواجز النظام داخل دمشق بسهولة نسبية، على عكسي في كل مرة سألني فيها عنصر الحاجز عن ماذا تفعل بنت دير الزور في دمشق.

تُسيطر قوات سوريا الديمقراطية على أغلب أراضي شمال شرقي سوريا، وتحظر على غير «السكان الأصليين» دخول مناطق سيطرتها، وتفرض على الوافدين من المحافظات الأخرى إجراء معاملة «كرت زيارة»: يقدم أحد «السكان الأصليين» بطلب كفالة الوافد من باقي المحافظات، وتحتاج هذه المعاملة وقتاً وجهداً مقدوراً عليهما، لكنها تتطلّب مني الاعتراف بحقيقة الخسارة، ليحصل شريكي على بطاقة زيارة لبيت طفولتي حيث كبرت في الحسكة.

على الرغم من رفضي تصديق القرار منذ صدوره، لكنني لم أغامر بالوقوف على المعبر مع شريكي، وكان الحل بسيطاً: سندخل دير الزور، ومن هناك سنعبر إلى الحسكة.. تهريب شرعي!

الساعة السادسة صباحاً، تبعتُ اللهجة الديرية القادمة من آخر الشارع، لأسمع لحناً عراقياً يخرج من الباص خلف مجموعة من الشبان. لم أفكر طويلاً، حتماً هذه هي رحلة دير الزور.

ينادي المعاون ركّاب الباص بأسماء أولادهم، أحاول بدء أي حديث مع السيدة خلفي، لأتباهى بلهجتي الديرية، تسألني دون تكلّف: من بيت منو أنتي؟

هذا السؤال سيتكرر كثيراً خلال الرحلة، لأكتشفَ كل مرة السمعة الطيبة لأحد جذور العائلة البعيدة، الكل يعرف الكل: ستغرق في ألفة العائلة الكبيرة.

الطريق من دمشق إلى دير الزور بأكمله تحت سيطرة النظام، وداخلياً هذا يسهل الرحلة، إذ نستطيع الأكل والنوم كما نشاء، ولا نتوقف على الحاجز إلا لثوانٍ معدودة، يمدّ معاون الباص يده ليعطي العسكري على الحاجز «اللي فيه النصيب»، وتختلف تسعيرة الرشوة بحسب رتبة المرتشي والفرع المسؤول عن الحاجز.

وصلنا دير الزور بعد رحلة ست ساعات مرّت سريعة بفضل مهارة شركة النقل وعلاقتها الوثيقة مع حواجز النظام، ولم أفهم مشقة الطريق. شعرتُ بالخفة لحظة الخروج من الكراج. لم يستمر الشعور طويلاً.

المشهد الأول: دمار

نزلتُ من الباص ورفعت رأسي على دمار. في دير الزور لا تستطيع أن تشيح بنظرك مهما حاولت تفادي البكاء، سيحاصرك الركام من كل الجهات. تجمدتُ في مكاني وشعرت بالدم يتدفق حارّاً في عروقي، وبصعوبة تمالكت نفسي لأصوّر المكان. وكما أفعل في دمشق، رفعت الموبايل بعفوية بالغة لأصور الأبنية المتهالكة فوق بعضها، وكنت أحاول ضبط الكادر حين صرخ أحدهم: «شكون قعد تعملين يا أختي الأمن وراكي».

في كل مرة حاولت بعدها التصوير قاطعني الصراخ. لم يتردد أي ديري من تحذير بنت البلد، فحتى ولو لم تعش بينهم في دير الزور لكن «أبوها قرابتنا»… هذا هو كرت العبور.

تَوجَّهنا إلى مكان إقامتنا حيث سنبيت في دير الزور، لنستأنف رحلتنا إلى الحسكة في صباح اليوم التالي. وأمام نهر الفرات أخذت تتقافز في ذهني صور من الذاكرة. رتبت أسماء أولاد عمي الذين عاشوا هنا؛ لم يبقَ منهم أحد.

مررتُ بشارع «ستة إلا ربع» ولم أعرفه. اختنقت بوحشة الهدوء، وشعرت ببقايا الأبنية ستسقط على رأسي. ميتة تراجيدية، تمنيتها للحظة، لكنني خفت أن أموت بلا أحد من العائلة.

سافرتُ في طفولتي إلى دير الزور مرتين، الأولى ليحضر والدي عزاء أحد الأقارب، والثانية ليشهد على على عقد قران صديقه المقرّب. وفي المرتين كنا نسافر في الصباح، ويتعمد أبي اختيار طريق الجزيرة لنمرّ بكل الأراضي الزراعية ويتغزل بها، ونجتاز المسافة الواصلة بين الحسكة ودير الزور خلال  ساعات أنام أغلبها، وهذا أكثر ما أندم عليه إذ لو عرفت في السابعة من عمري أن الأرض الذهبية الواصلة بين المدينتين ستُحرَق لما أغمضت عيني للحظة.

أتذكر طيف الأراضي. كان أبي مفتوناً بالقمح، يحاول جذب انتباهي وهو يتباهى بالبلاد، بخيرات الجزيرة. في صالة بيتنا وضع سنابل قمح بالمزهرية، وكان يتغنى بثراء المنطقة ويعلق صوته في حنجرته وهو يحكي لي كيف ينهب النظام رزق الأهالي، تغافله دمعة تسقط، ونغني:

بالدير كل شي حلو

حتى ظلام الليل

حتى الحزن يم هلي

قهوة وتفوح بهيل

-مقطع من أغنية ديرية

حاولتُ اكتشاف دير الزور، أو لملمة ما تبقى لي من صورها في الذاكرة، لكنها تشوهت تماماً، ولم تمرّ الحياة من هنا. أرعبتني فكرة أن أناساً من لحمٍ ودم منسيون تحت الركام، لم يصل إليهم أحد، ولم يودعهم أحبابهم… آخرون عاشوا وحيدين ولم يدرك أحدٌ غيابهم إلا جدران بيوتهم التي صنعت لهم من حجارتها قبوراً.

شعرت بالغربة، وهذا الشعور كان الأقسى، كنت بحاجة «الحزن يم هلي». في دير الزور تدرك حتماً مدى حاجتك للعائلة.

اتصل أخي وأعطاني موجز الحواجز، ودليلَ العبور إلى الحسكة: لا تُكثري من الحقائب، واحدة تكفي، ثم الكثير من اللاءات مثل التصوير، والحديث، والردود الطويلة وممانعة التفتيش وأي محاولة للحفاظ على الكرامة.

المشهد الثاني: العبّارة

الساعة الخامسة من صباح اليوم التالي، اليوم الموعود لننتقل من مناطق سيطرة النظام في الميادين إلى مناطق سيطرة قسد في الحوايج، وبينهما نهر الفرات. في الدقيقة الأولى أحبط عزيمتنا السائق: «أنتِ تعبرين، هو لا». على حواجز قسد أتمتع بامتيازات خانة الإقامة على بطاقتي إذ كُتبت «الحسكة» بطباعة واضحة، وعلى حواجز الأمن العسكري، المكان الوحيد في العالم الذي تُعتبر فيها كلمة أنثى امتيازاً. سخرتُ من امتيازاتي ومن الأمن العسكري الذي أصدر قراراً في اليوم نفسه بمنع أي شاب من السفر دون موافقته بحجة أن الشباب يهربون من الخدمة العسكرية عن طريق مناطق قسد المسيطرة على المعابر الحدودية في الشمال الشرقي.

أكملنا رحلتنا، أنا من باب الفضول واليأس، وشريكي من باب المغامرة، و أدهشنا السائق باستخدام أوراقه الرابحة، ورقة الألفي ليرة. لم يطلب أحدٌ الهويات، ولم يفتشنا أحد. ثلاث حواجز متتالية للأمن العسكري عبرناها بخفة ووصلنا إلى الميادين، آخرُ نقطة للأمن العسكري، تقابلها تماماً على ضفة النهر الأخرى أعلام صفراء، بداية مناطق سيطرة قسد.

استخدمنا الورقة الرابحة مجدداً لنجتاز التفتيش، وحاولت استخدامها للتصوير لكن هناك عنصر أمني مهمته الوقوف بين الكوم البشري الذي يحاول زيارة أقاربه على الضفة الثانية والصراخ مهدداً بمصادرة أي موبايل يُرفع.

على ضفة النهر، حيث انتظرنا العبّارة البدائية التي ستنقلنا للضفة الأخرى، وقفت أمٌ جديدة فخورة بأمومتها تصور طفلتها مع النهر، وخلال ثوانٍ كان العنصر فوق رأسها يصرخ ويشتم ويهدد، ويطلب مصادرة الموبايل، والأم تبكي ليمتزج بكاء ابنتها معها. فكرتُ بالطفلة التي ستكبر وتعرف أنها حُرمت من صورة مع النهر، وأدركتُ أنني لن أسامح.

تجمهرت النساء بانتظار العبارة، يحاول الرجال مدّ أيديهم خوفاً من سقوط إحدانا في النهر وكأنهم رسموا حلقة حماية. يبتعد الجميع للأكبر سناً، ثم لطفل مقعد، ويتبادل الجميع الأحاديث. إحداهن تغضب من زوجها الذي قطع زيارتها عن عائلتها، لأن دير الزور بلا كهرباء تماماً في درجات حرارة تكاد تقارب الخمسين ومعها طفلها الرضيع. سيدة في أواخر السبعين، تحاول التوازن بصعوبة ورفضت ترك بيتها في دير الزور، ذاهبة لتزور ابنتها في القامشلي.

سمحت طبيعة التداخل الثقافي، الاجتماعي والعشائري لأهل دير الزور والحسكة وحتى الرقة بالحفاظ على علاقات المصاهرة، والتداخلُ العائلي سمح لأهالي المحافظات الثلاث بالتنقل بسهولة، قبل الثورة السورية. أمّا بعد الثورة، فقد استغلّ البعض هذه العلاقات المتداخلة لزيارة الأقارب في المناطق الأكثر أماناً في الجزيرة. لم يعرف أحدٌ حينها أن الزيارة بداية نزوح سيستمر أعواماً طويلة بعد ذلك.

ياسر، وهو أبٌ رفض الخروج من دير الزور، لم يعرف أن سيطرة قسد على القامشلي ستجعله وافداً ممنوعاً من زيارة أولاده إلا بقطع النهر، ثم ركوب سرفيس مُرخّص ضمن مناطق قسد ينقلنا من ريف دير الزور إلى الحسكة، لتصبح رحلة الساعتين رحلة ثمان ساعات في أرض محروقة، نُصبت عليها أعلام صفراء وحواجز ميليشيات قسد.لا فرصة لاجتماع كل من بقي، فعلى أحدهم البقاء في المنزل خوفاً من أن تعود المياه في أي لحظة فلا تجد من ينتظرها.

قررتُ عدم البقاء طويلاً، إذ كان من الصعب تحمل كل هذا العبث.

ستار: ورقة ضغط

خلال الأسابيع الماضية وحدها نعت الحسكة عشرة شبان على الأقل خسروا حياتهم بين غابات اليونان وبلغاريا، طريق الهروب الأكثر خطراً. يومياً تطالب الأمهات أولادهن بالبقاء، لكن الغالبية قالوا كلمتهم: النجاة من الحسكة أو الموت.

في مناطق سيطرة قسد وعلى حدودها لا قانون يحكم أو دستور، وحده الخوف. يُطلب الشاب للخدمة الإلزامية في جيش الأسد وفي قوات قسد في الوقت ذاته، لتكون الرغبة في الفرار مضاعفة وحلم الحياة بعيدَ المنال.

تتناقل صفحات التواصل الاجتماعي الخاصة بأهالي الحسكة -منبرهم الوحيد للعالم-  صور المفقودين يومياً، تقطع ترتيبها صورة لشاب مبتسم قُتل طعناً بالسكاكين في تركيا ليكون ضحية جديدة للعنصرية، وصورة لآخر قُتل بالطريقة نفسها في أحد ضواحي ألمانيا، لتصبح صفحات فيسبوك ألبومات لابتسامات غائبة.

تسيطر على الحياة في الشمال الشرقي فوضى غير واضحة المعالم. قد تخالف قراراً دون أن تدري، ولذلك تعيش حياتك على حساب الاحتمالات. القرارات والمراسيم سريعة ومتغيرة، فكل البلاد والمعابر هي مجرد ورقة ضغط يستعملها كل من النظام وقسد في المساومات بين الجانبين على محاصصة النفط والقمح والغاز برعاية روسية. وفي خلفية المشهد، تركيا تهدد غير متقبلةٍ لقرب قسد من أراضيها.

يضغط النظام على تل رفعت، فتحاصر قوات قسد المربع الأمني الواقع في وسط مدينة الحسكة وبقعة سيطرة النظام الوحيدة في فيها. يُمنع سكان المربع الأمني من الحركة داخل المدينة، ويُحظَر دخول المحروقات وصهاريج المياه إلى المنطقة، لتنعدم مقومات الحياة الأساسية في المكان إلى حين الوصول إلى تسوية ما، لينتهي الحظر بالتزامن مع انخفاض وتيرة التصعيد.

حراقات النفط العشوائية والبدائية على طول الطريق، وكلها تحت سيطرة قسد، ما يجعل النفط ورقتهم الرابحة في كل المفاوضات. وبالطبع، يتعزز ظهور بعبع داعش قبل إصدار أي مرسوم عنصري تبرره قوات سوريا الديمقراطية بالخطر الداعشي الأكبر. ولعل أبرز هذه المراسيم كان استحداث بطاقة الوافد؛ ونظام الكفالة، قاعدة هرم «فدرلة» ما، تصنّفُ السوريين والسوريات في الحسكة بين سكان أصليين ووافدين ووافدات في الإقليم.

مراراً حاولت فهم السياق وعجزت. على حدود سيطرة قسد كان السؤال الأكبر: الفرات لمن؟

هرباً من قلق الرجال وخلفياتهم السياسية، لجأتُ للأطفال والنساء لأعرف، مقتنعة أن الحديث سيكون بريئاً أو عفوياً.

وجدتُ طفلاً يلعب في أحد أحياء دير الزور، وقال لي: ممنوع الاقتراب من النهر.. نحن لا نسبح، النهر لقسد.

شاركتُ سيدة سيارة أجرة في شارع سينما فؤاد، حيث السوق الوحيد المتبقي في دير الزور. توجست السيدة وطلبت من السائق أن تنزل من السيارة بمجرد سؤالي عن إمكانية السباحة في النهر.

ضمن حدود سيطرة قسد تبدو الأمور أوضح ظاهرياً. تُصدر قسد قراراً بمنع تعدد الزوجات فيعدد الرجال في المربع الأمني، كل ما يلزمه هو الانتقال للشارع الذي يليه. حدودٌ واهية، ترسمها دولتان في المدينة، تجعل المسافة بين القرار ونقيضه كيلومتراً واحداً.

فرضَ الخروجُ من الحسكة علينا تفتيش أنفسنا قبل رحلة التفتيش الطويلة. في الكراج يخاف معاون السائق ويصرخ وسط تجمع الركاب: غرامة تهريب اللحم والبرغل والزيت مئة دولار. في اليوم الذي يليه يطلب المعاون مقابل كل كيلو جبن بلدي أو برغل ألف ليرة سورية، لأنه يُعتبَر المُخلص الجمركي على المعبر: وفي ظل كل هذا العبث الخوف سيد الأحكام.

العودة والمُخلّص

تعتمد الرحلة في المرتبة الأولى على ذكاء معاون السائق، الذي تتجاوز مهامه التأكد من التذاكر وتقديم الماء والشاي للمسافرين ليصبح «المفتاح» الوحيد الذي يسمح له موقعه دفع الرشاوي على حواجز النظام، وهو ذاته المُخلّص الجمركي على نقطة جمارك قسد عند معابرها.

على عكس دخولنا إلى مناطق سيطرة قسد، سُمح لنا الخروج منها بسهولة عن طريق معبر الطبقة، الطريق النظامي التي تستخدمه شركات النقل للسفر من الحسكة إلى دمشق. يتوسطُ المعبرُ الرحلة، ولكي تستطيع تخيله عليك أن تكون قد عبرت حدود دولتين يحكمهما نظامان ديكتاتوريان في العالم.

في النقطة الأولى عناصر قسد، الذين يطلبون من كل الركاب مرافقة حقائبهم للتفتيش. لا داعٍ لمغافلة أحد فهم لا يسرقون ولا يرتشون، بل يفرضون عليك غرامة «سرقة حلال» إذا كنت مثلي تحب برغل الرافدين، بحجة تهريب ثروات الإقليم خارج حدوده. بعد تفتيش الركاب، تبدأ رحلة التأكد من مخزن الوقود. يتم تعبئة الخزان من مازوت قسد، الذي يتم تهريبه لحاجز النظام الذي يليه بأقل من مئة متر، حيث يتم تفريغ الخزان وشراء مازوت جديد بسعر «نظامي» على أراضي الأسد.

الذلّ هو لحظة المرور عبر سياج حديدي لونه أزرق سماوي، لرمنسة المشهد، على عكس حواجز النظام التي تعتمد على العنصر البشري. على معبر قسد تُشعرك كاميرات المراقبة المنتشرة أنهم هنا، يرونك، ويشعرون بكرهك للاحتلال، يسمعون تأففك.

دفعنا ألف ليرة سورية قيمة قسيمة مغادرة المعبر. تسارعت ضربات قلبي، وأردتُ الصراخ وحرق القسيمة على المعبر، وفقدت توازني وأنا أصعد للباص. عرفت أنها نوبة هلع لكن الوقت غير مناسب أبداً. جلست في مكاني دقائق لنصل إلى حضن الوطن، الفرقة الرابعة.

سرعان ما يتغير المشهد.. لا داعٍ لوجودك مع حقائبك. يعود تفعيل كرت الألفين ليرة، ويُطلب من جميع الركاب النزول والوقوف ساعات طويلة في الشمس. كل شيء يُفتش، علب الكليجة، نوع الكعك التي نتفاخر به في دمشق، تُفتح؛ الملابس، علب شوكولا الأطفال، كل كيس غير شفاف.. كله سيفتش، حتى الباص: على المعبر عنصر احترف فكّ قطعه التي من الممكن أن يخبأ أي شيء خلفها. يحظر النظام تهريب أي علبة دواء من الحسكة، وأي مُنتج تركي، وينتشي العناصر عند إيجاد عملة أجنبية لأنك تدخلها إلى البلاد! عليك فقط تسجيل المبلغ عند الحاجز.

سكروا الشبابيك

الشباك فسحة السجين داخل زنزانته إن وجد، يراقب انعكاس أشعة الشمس على الحائط، يلهو بالوقت ليمر بين أصابعه وهو يحاول رسم عصفورة في الظلال. الباص اليوم زنزانة المسافر حين يفكر بالتنقل بين المحافظات السورية.

تنتشر حواجز النظام بين المحافظات، وتتكاثر بالانشطار، لينقسم كل حاجز إلى حاجزين متتالين، يفرض كل منهما إتاواتٍ للعبور متعارف عليها.

ينتشر خبر موافقة النظام على تأجير حي الحجر الأسود، جنوب دمشق، لشركة إنتاج عالمية، لكن يرعبه التصوير على الحواجز. يحاول طفلٌ صغير مد رأسه تحت الستارة بينما يتوقف الباص عند الحاجز لدفع الرشوة، شقاوة الطفل تكلف السائق ازدياد التسعيرة.

يصعد جندي إلى الباص يصرخ، ويُحذر مجدداً من فتح الستائر، ويحتد وهو يوبخ ابن السبع سنوات مهدداً الركاب إذا ما

أفكر بماذا يعني تسريب فيديو لعناصر الجيش وهم يرتشون أمام تسريب فيديو لمجزرة التضامن؟

النظام اليوم يسعّر كل ما يتحرك على الأرض السورية، حتى الأرض ذاتها لها تسعيرة وتختلف بحسب الشاري.

وصلنا إلى دمشق بعد رحلة دامت ثلاث عشرة ساعة، وكنا من المحظوظين بعدم الوقوف على المعبر أكثر من ساعتين. أميّز منذ سنوات وصولي إلى العاصمة بدمار حرستا، هذا الركام لافتتي التي تقول أهلاً بك في العاصمة.

بعد عشر دقائق تصلين مركز المدينة وتستعيدين رفاهية التصوير، فربما الليلة افتتاحُ مطعم جديد في أحد أحياء البلاد «الآمنة».

المصدر: الجمهورية. نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى