المؤشرات الأولية للمسار التفاوضي القائم بين واشنطن وطهران توحي بتكرار تجربة أوباما. ما بين مواقف الإدارة الأميركية ومواقف النظام الإيراني من مفاوضات إعادة إحياء الاتفاق النووي علاقة قد لا يكون من السهل الوقوف على جميع أبعادها وتداخلاتها وتعقيداتها، فللوهلة الأولى يبدو أن الطرفين متمسكان بكل ما أوتيا من قوة بالعمل على التوصل إلى مخرج لأزمة الانسداد التي وصلت إليها المفاوضات، وإزالة المعوقات أمام التوقيع على تفاهم يعيد تفعيل الاتفاق، في حين لا توجد أية إشارات من كلا الطرفين حول التداعيات السابقة واللاحقة لهذا التفاهم على الملفات الأخرى تعمداً أو تواطؤاً، بما يكشف أنهما يسيران في مسار لا يعيران فيه اهتماماً للأصوات المعترضة أو المتخوفة، بخاصة على الساحة الإقليمية التي تشكل منطقة اشتباك بين الطموحات الإيرانية وجهود دول الجوار العربي للحفاظ على استقرارها واستهداف سيادتها ومنع تحولها إلى مسرح تترجم فيه طهران طموحاتها التوسعية أو الإمبراطورية، وهو صراع مفتوح بين الطرفين الإيراني والعربي، ويختلف في طبيعته عن الصراع بين طهران وتل أبيب الذي يمكن إدراجه في خانة الصراع على المدى الحيوي والاستراتيجي وتقاسم مناطق النفوذ في الإقليم على حساب مصالح دوله.
المندوبة الأميركية في مجلس الأمن ليندا توماس غرينفيلد زادت غموض العلاقة بين واشنطن وطهران بتأكيدها أن إدارتها “ملتزمة بمحاولة إيجاد طريقة لإتمام الصفقة النووية مع إيران على رغم التباطؤ الحاصل”، مضيفةً “هدفنا الأساس عدم حصول إيران على سلاح نووي وهذا الاتفاق أفضل طريقة لضمان ذلك”، وهو موقف تخلت فيه واشنطن عن وصفها للرد الإيراني على ورقة الوسيط الأوروبي بأنها “غير بناءة”، ويتعارض مع كل الأجواء السلبية التي برزت خلال الأيام الأخيرة بالوصول إلى طريق مسدود واقتراب موعد إعلان انهيار المفاوضات، وهو موقف لا يأخذ بالاعتبار عينه سوى المصالح الأميركية ويدير الأذن الصماء لكل الأصوات التي تصدر عن القيادات العربية والإسرائيلية التي تعتبر دولها حلفاء استراتيجيين لها في الشرق الأوسط.
تجاوب إيراني
الموقف الأميركي وجد تجاوباً لدى النظام الإيراني، وقد برز ذلك في المواقف التي صدرت عن وزير الخارجية حسين أمير عبداللهيان خلال حديثه الهاتفي مع نظيره العماني بدر بوسعيدي، إذ أكد تمسك طهران “بالحوار وتبادل الرسائل من أجل رفع العقوبات”، مضيفاً أن لدى النظام “الإرادة الضرورية والنيات الحسنة للوصول إلى الخطوة النهائية لاتفاق جيد وقوي ومستقر”.
هذه المواقف تأتي بالتزامن مع وجود أجواء سلبية داخل الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي من المفترض أن تصدر موقفاً من تطورات الملف الإيراني وعدم تجاوب طهران مع الأسئلة حول عدد من الأنشطة غير المصرح بها في تخصيب اليورانيوم، إلا أن الأجواء الأخيرة وبخاصة مسارعة الخارجية الأميركية إلى نفي التسريبات الإسرائيلية عن تغيير المندوب الأميركي للمفاوضات روبرت مالي، تحمل على الاعتقاد بوجود تفاهم ضمني بين الطرفين على تحييد المفاوضات الثنائية غير المباشرة والمتعلقة بإعادة إحياء الاتفاق النووي عن الملفات والأزمات الأخرى المطروحة أو موضع خلاف بين الطرفين، ومنها ملف موقف الوكالة الدولية، بخاصة أن طهران أبدت استعدادها للإجابة عن أسئلة الوكالة تلك، والمساعدة في إقفال الملف شرط عدم فتحه مستقبلاً.
البحث الأميركي – الإيراني المشترك عن مخارج تساعد في عدم الوصول إلى انسداد كامل في المفاوضات، ينسجم أيضاً مع التسويات والتنازلات التي قدمها الطرفان من أجل هذا الهدف، بما فيها الخطوط الحمر التي وضعت على طريق المفاوضات، وتحديداً في ما يتعلق بالعقوبات على مؤسسة حرس الثورة، واقتضت التسوية بأن تسقط واشنطن العقوبات عن الشركات الاقتصادية العائدة للحرس أو التي تعمل في فلكه، مقابل أن تسكت إيران على إبقائه ضمن لائحة المنظمات الإرهابية، والتمسك بمبدأ التعامل بالمثل بتصنيف قوات القيادة الأميركية الوسطى إرهابية، بانتظار مرحلة مفاوضات مستقبلية حول الملفات العالقة.
قبول الإدارة الأميركية والنظام الإيراني بإحالة التفاوض والبحث حول الملفات الأخرى إلى مرحلة لاحقة تجري في المستقبل يعني أن منطقة الشرق الأوسط تشهد عودة للحال التي عاشتها ما بعد عام 2015 والتوقيع على اتفاق فيينا، ومحاولة كلا الطرفين تجميع الأوراق قبل الوصول إلى طاولة المفاوضات المفترضة التي سيكون من مهماتها التعامل مع الدور الإقليمي وطموحات النظام الإيراني الاستراتيجية، بخاصة ما يتعلق بساحات نفوذه في عواصم دول المنطقة، فالتركيز الأميركي على أولوية البرنامج النووي الإيراني وضرورة إعادته إلى الحظيرة الدولية ومراقبته ومنع تحوله إلى برنامج عسكري، أسهم عام 2015 بأن أطلقت إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما يد طهران للتدخل في الشؤون الداخلية لبعض الدول العربية، وتهديد أمن واستقرار وسيادة الدول الأخرى، ومحاولة فرض المعادلة التي تخدم مصالحها القومية والاستراتيجية، مستخدمة من أجل ذلك ما تملكه من أذرع في عدد من العواصم الإقليمية العربية تحت إشراف ذراع عملياتها الخارجية في قوة القدس التابعة لحرس الثورة، واستطاعت إيران أن تربك المعادلات الإقليمية وتهدد أمن الدول العربية، سواء من خلال تحويل اليمن إلى مصدر تهديد للمصالح والأمن الاستراتيجيين للمملكة العربية السعودية بما تمثله من عمق خليجي وموقع قيادة في العالمين العربي والإسلامي، إضافة إلى تحويل الساحة السورية إلى حديقة خلفية لفرض معادلة أمنية وعسكرية وجيوسياسية إقليمية في مواجهة خصمها الاستراتيجي في إسرائيل، في حين استطاعت الإمساك بكل مفاصل القرار السياسي والأمني والعسكري وحتى الاقتصادي على الساحة العراقية، بينما يلعب “حزب الله” اللبناني الذي يشكل رأس الحربة في مشروعها الإقليمي دوراً محورياً في المعادلات الإقليمية وفي الإمساك بالقرار اللبناني والتحكم فيه بما يخدم مشروعه الخاص ومشروع المحور الإيراني.
المؤشرات الأولية
ويبدو أن المؤشرات الأولية للمسار التفاوضي القائم بين واشنطن وطهران توحي بتكرار التجربة من جديد مع إدارة الرئيس جو بايدن، وإن كان على قواعد مختلفة نوعاً ما عن السابق لاختلاف المعطيات الميدانية، إلا أنها لا تخرج عن الإطار العام للسياقات القديمة المتجددة، إذ على رغم عودة الحرارة النسبية للعلاقة بين الرياض وطهران وعقد خمس جولات من الحوار، إلا أن طهران لم تبد حتى الآن استعداداً لتعاون كبير وحاسم في الأزمة اليمنية، ونقل الحوارات التي حصلت وأنتجت تفاهماً لوقف النار وهدنة موقتة يتم تمديدها كل شهرين إلى مستوى الاتفاق السياسي، فهي حتى الآن تحجم عن ممارسة الضغط على حليفها الحوثي لقبول الحوار السياسي والتفاهم على المرحلة الانتقالية التي تؤسس لسلام في اليمن.
وإذا ما كانت الرياض قد ربطت مسألة الحوار السياسي بالنتائج النهائية للمفاوضات النووية وتطبيع العلاقة بين إيران والمجتمع الدولي، فإن طهران في المقابل لم تقدم على أية خطوة قد تسهم في تعزيز الثقة السعودية بإمكان التفاهم والانفتاح وتطبيع العلاقة معها.
وإذا ما كانت طهران قد فوضت “حزب الله” بتشكيل الساحة اللبنانية ومستقبل الدولة على المقياس الذي يريده ويخدم مصلحة الإقليم، سواء في ما يتعلق بالساحة الداخلية أو ما يرتبط بأزمة ترسيم الحدود مع إسرائيل، فإنها على الساحة العراقية ومن خلال توظيف تفاهمات غير معلنة نتيجة لقاءات سرية بينها وبين الإدارة الأميركية، استطاعت تعطيل مسار الإصلاح السياسي الذي بدأ يتبلور داخل المجتمع العراقي وإعادة فرض حلفائها كأحد أركان العملية السياسية، وكجزء من الرد على الاستهداف الذي طاول دورها على هذه الساحة.
أما في الحال السورية فقد حولت هذا البلد إلى ساحة لتوجيه الرسائل وتلقيها مع الأطراف الإقليمية، سواء باتجاه إسرائيل أو باتجاه تركيا، وفي الدرجة الأولى مع الدول العربية التي ترفض تحويل سوريا إلى حديقة إيرانية داخل هذا الجسد العربي.
المصدر: اندبندنت عربية