بينما تستعر الحرب في أوكرانيا، يبدو أن النصر سيكون حليف الدبلوماسية في فيينا. فعلى الرغم من الصعاب يتجه المفاوضون لإعادة إحياء الاتفاق النووي مع إيران، بالتالي منعها من الوصول إلى سلاح نووي، الأمر الذي يدخل في صلب المصلحة الأميركية. وبحسب المسؤولين المطلعين على مسودة الاتفاقية التي جرى تداولها في أوروبا وطهران في النصف الثاني من أغسطس (آب) الجاري، ستقوم إيران مرة أخرى بالتخلي عن مخزونها من اليورانيوم المخصب باستثناء كمية 300 كيلوغرام خصبت بمستويات منخفضة، كذلك ستوقف جميع عمليات التخصيب التي تزيد على 3.67 في المئة وتزيل آلاف أجهزة الطرد المركزي المتقدمة، وبشكل مواز سيمنع الاتفاق أي قدرة إيرانية على تصنيع سلاح نووي قائم على البلوتونيوم، ولعل الأهم من ذلك هو أن برنامجها النووي سيكون مفتوحاً مرة أخرى بالكامل أمام عمليات التفتيش المزعجة التي تقوم بها الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وإذا ما تم تبني الاتفاق رسمياً، فسوف يشكل هذا إنجازاً مهماً لصالح الأمن القومي الأميركي وكذلك للاستقرار في الشرق الأوسط، فعوضاً عن مواجهتها اقتراب إيران من الحصول على قنبلة نووية، يمكن للولايات المتحدة الآن أن تتطلع إلى تجميد البرنامج النووي الإيراني، لعامين آخرين على الأقل. في الواقع، إن تداعيات انسحاب دونالد ترمب من الاتفاقية الأصلية لعام 2015، التي عادت بعدها إيران إلى التوسع السريع في برنامجها النووي واقتراب امتلاكها المواد اللازمة لصنع سلاح نووي أكثر من أي وقت مضى، أظهرت جلياً أن مصلحة الولايات المتحدة هي بوجود الاتفاق، لا من دونه، ولكن في الوضع الحالي، ستكون النسخة الجديدة من خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA) محفوفة بالمخاطر في أحسن الأحوال.
فالبعض سينظر إلى هذه الصفقة الجديدة باعتبارها أقصر وأضعف لا أطول وأقوى، ولهذا ما يبرره، فقدرة إيران التخصيبية، أي مقدار الوقت الذي ستستغرقه طهران لجمع المواد اللازمة من أجل صنع قنبلة نووية، ستتراوح بين ستة إلى تسعة أشهر، بدلاً من الأشهر الـ 12 التي كانت محددة في اتفاقية 2015، لكن على الرغم من ذلك، ومن وجهة نظر حظر الانتشار النووي فترة النصف العام هذه أفضل بكثير من الأيام القليلة التي تحتاجها قدرة التخصيب الحالية لطهران. وأيضاً، فبينما احتوت خطة العمل الشاملة المشتركة الأصلية على 20 عاماً من القيود على برنامج إيران النووي، فإن استمرار هذه الصفقة الجديدة قد يكون مرتبطاً ببقاء الديمقراطيين في البيت الأبيض، إذا ما أخذنا بالاعتبار التزام أهم القادة الجمهوريين علناً القضاء على الصفقة في حال فوز حزبهم في انتخابات عام 2024.
لكن الأسباب الرئيسة التي تجعل من خطة العمل الشاملة المشتركة الجديدة أكثر هشاشة ليست داخل الصفقة نفسها، بل خارجها، إذ يسيطر الآن انعدام ثقة عميق سواء في طهران أو في عواصم أخرى حول العالم، بشأن قدرة واشنطن على الالتزام باتفاقياتها الدولية. كما أن القيادات السياسية الحالية في الولايات المتحدة وإيران لديها قليل من الدوافع الداخلية لتجاوز العداء المشترك بينهما، نتيجة لذلك، قد ترى الصفقة الإيرانية الجديدة النور في سياق استراتيجي يقصر من ديمومتها بدلاً من أن يطيله، لكن، وعلى الرغم من ذلك أمام الطرفين فرصة لاتخاذ خطوات من شأنها معالجة تلك المخاوف وجعل الصفقة أكثر ديمومة، إذا لم يفعلا ذلك، فقد يكون هذا الإنجاز التاريخي مجرد مقدمة تمهد لأزمة أكثر خطورة.
ممارسات تستنزف الثقة
أحد الاختلافات الجوهرية بين الصفقة النووية الأولية ونسختها الحالية التي أعيد إحياؤها، هو البيئة الدبلوماسية التي تحيط بها. في الواقع، سبق إبرام خطة العمل الشاملة المشتركة في عام 2015، أكثر من عامين من المفاوضات المباشرة التي حصلت وجهاً لوجه بين الولايات المتحدة وإيران الشيء الذي بنى قدراً، وإن كان ضئيلاً، من الثقة بين الخصمين، وخلال الولاية الثانية للرئيس الأميركي باراك أوباما أمضى وزير الخارجية جون كيري وقتاً مع نظيره الإيراني جواد ظريف أكثر مما فعل مع أي زعيم أجنبي آخر، كما تبادل الاثنان أرقام الهواتف بعد اجتماعهما الأول في سبتمبر (أيلول) 2013 وتبادلا الرسائل النصية بانتظام بعد ذلك، وقد أثبت هذا التواصل فائدته في ما هو أبعد من المفاوضات النووية، على سبيل المثال، عندما انجرف عدد من البحارة الأميركيين بسفينتهم من طريق الخطأ إلى المياه الإيرانية في يناير (كانون الثاني) 2016، لم يستغرق الأمر سوى خمس مكالمات هاتفية بين ظريف وكيري وأقل من 16 ساعة لتأمين إطلاق سراح البحارة، في حدث كان ليشكل أزمة كبيرة لو جاء قبل تنفيذ خطة العمل الشاملة المشتركة.
لكن في المقابل، لم يشهد التفاوض على خطة العمل الشاملة المشتركة الحالية لقاءً بين كبار الدبلوماسيين الأميركيين والإيرانيين، بل حصل ذلك عبر المبعوثين المعينين من كلا الجانبين اللذين لم يتحدثا بعد مع بعضهما بعضاً، إذ إن إيران رفضت إجراء مفاوضات مباشرة. [ تجري المفاوضات بين إيران من جهة والصين وبريطانيا وروسيا وفرنسا وألمانيا من جهة أخرى، في حين تشارك الولايات المتحدة في الحوار دون خوضها أي اتصالات مباشرة مع الطرف الإيراني]. وعوضاً عن بناء الثقة، غالباً ما أدت المحادثات غير المباشرة على مدى الـ 16 شهراً الماضية إلى استنزاف تلك الثقة.
إلا أن التوقعات غير المتطابقة هي السبب الرئيس وراء ما يحدث [غياب الثقة]. فعلى الرغم من توسيع إيران لأجزاء من برنامجها النووي رداً على خيانة ترمب للصفقة، إلا أنها لم تخرج من الاتفاقية قط، على أمل أن تعود الولايات المتحدة إليها بمجرد مغادرة ترمب البيت الأبيض. ولم تكن مجازفة طهران قائمة على آمال واهية. وبصفته مرشحاً رئاسياً، وصف بايدن خروج ترمب من الصفقة بأنه “كارثة تسبب بها لنفسه”. فلقد تعهد جميع المرشحين الديمقراطيين في الانتخابات الرئاسية لعام 2020، باستثناء واحد، بالعودة السريعة وغير المشروطة إلى الاتفاقية، حتى أن الانضمام مجدداً إلى الصفقة ذكر في منصة الحزب الديمقراطي في عام 2020 [حيث ينشر الحزب خططه في حال فوزه في الانتخابات].
لكن بمجرد توليه منصبه، لم يكن بايدن في عجلة من أمره، وبدلاً من إصدار أمر تنفيذي بالعودة إلى الاتفاقية في يومه الأول، كما فعل مع اتفاقية باريس للمناخ والتزام الولايات المتحدة مع منظمة الصحة العالمية، اختار إبقاء عقوبات ترمب على إيران سارية، بعد ذلك، أضاع أشهراً قيّمة في التشاور مع إسرائيل، ودولا تعارض الاتفاقية بشراسة، وفي أبريل (نيسان)2021، أشاد اللواء تال كالمان، المسؤول العسكري عن ملف إيران في الجيش الإسرائيلي بإدارة بايدن بسبب “الوفاء بوعودها [لإسرائيل]”. وفي ذلك الإطار، قال بايدن لموقع “جويش نيوز سينديكت” (Jewish News Syndicate) إنه ينوي “الاستماع وليس التسرع في عقد صفقة جديدة”. في الحقيقة، كان تأجيل بايدن يهدف جزئياً إلى تبديد المخاوف بين هؤلاء الحلفاء من أن تجديد خطة العمل الشاملة المشتركة سيؤدي إلى ذوبان الجليد على نطاق أوسع بين الولايات المتحدة وإيران، وخلافاً لأوباما الذي أمضى أشهراً في السعي لتحسين فحوى العلاقات الأميركية الإيرانية، لم يكلف بايدن نفسه عناء اتخاذ أي تدابير من أجل بناء الثقة. عوضاً عن ذلك، وبهدف تجنب تأجيج مخاوف شركائها، أصرت واشنطن على أن تتخذ إيران الخطوة الأولى على الرغم من أن الولايات المتحدة هي التي انسحبت من الاتفاقية.
وقد أثار قرار بايدن بعدم العودة السريعة إلى الاتفاق ذهول المسؤولين الإيرانيين الذين خلصوا إلى أن الدافع لذلك هو إطالة أمد عقوبات ترمب بهدف إجبار إيران على قبول شروط أكثر صرامة، ففي يناير2021، صرح ناصر هاديان، مستشار الحكومة الإيرانية في عهد الرئيس حسن روحاني، لصحيفة “ذا نيويوركر” (The New Yorker) أنه في حال لم يفعل بايدن شيئاً فإن “جميع القوى الإيرانية الرئيسة ستضغط باتجاه زيادة جميع جوانب برنامجها النووي”. وهذا ما حدث بالضبط بعد أن أصبح واضحاً أن بايدن لن يعود إلى الصفقة، بدأت طهران في توسيع برنامج تخصيب اليورانيوم بشكل سريع، وبحلول مايو (أيار) 2021، كانت إيران قد نصبت ما يقرب من 2000 جهاز طرد مركزي متقدم، متجاوزة بذلك عدد كل ما كانت تمتلكه في أي وقت سابق قبل خطة العمل الشاملة المشتركة وحتى أثناء رئاسة ترمب. بعد شهر، وفي أعقاب هجوم اشتُبه بأنه إسرائيلي على موقع ناتانز النووي، رفعت إيران من مستويات التخصيب إلى 60 في المئة للمرة الأولى، ما جعلها تقترب بشكل خطير من إنتاج اليورانيوم المستخدم في صنع الأسلحة النووية.
هذه التحركات بطبيعة الحال لعبت دوراً في تسميم الأجواء عند بداية المفاوضات في السادس من أبريل 2021. هذا علاوة عن دخول إيران حينها موسم انتخاباتها الرئاسية وبفترة فاصلة تقل عن ثلاثة أشهر. رفض إيران إجراء المحادثات المباشرة مع الولايات المتحدة كان قد أسهم أيضاً في جعل الدبلوماسية أقل فاعلية وعديمة الجدوى تقريباً في ما يتعلق ببناء الثقة.
بعد تولي الرئيس الإيراني الجديد المحافظ، إبراهيم رئيسي، منصبه في أغسطس من العام نفسه، قال إنه لا ينظر إلى الاتفاق النووي باعتباره أولوية كما إنه لا يرى مستقبلاً واعداً جداً في التقارب مع الغرب، ثم اختار بعدها علي باقري كني، المعارض الرئيس لخطة العمل الشاملة المشتركة، كممثل عنه في المفاوضات النووية. استغرق فريق “رئيسي” بعدها أشهراً عدة لمراجعة ما جرى في المفاوضات السابقة، لكنه في الوقت نفسه استمر بإضافة مزيد من أجهزة الطرد المركزي وتكديس اليورانيوم المخصب، مثيراً بذلك شكوك واشنطن من رغبة إيران بكسب كل ما يمكنها من وقت لتصبح قوة نووية بحكم الأمر الواقع.
في أكتوبر (تشرين الأول) 2021، عبر وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن عن استيائه المتزايد من التصرفات الإيرانية محذراً من أن الولايات المتحدة “مستعدة للاتجاه نحو خيارات أخرى” إذا لم تغير طهران مسارها، مهدداً ضمنياً باتخاذ إجراء عسكري.
في أقل من عام، بدا أن الآمال المعقودة على التوصل إلى اتفاق إيراني جديد قد تبددت، ففي الأشهر الأولى من عام 2021، أبطأ بايدن العملية ما أحبط الإيرانيين وأثار شكوكهم، وبحلول الربع الثالث من ذلك العام كانت إيران هي الطرف المتردد، وكما كان متوقعاً أدت مماطلة طهران إلى استنفاد الثقة وحسن النية أكثر فأكثر.
بالتالي، كان مثيراً للانتباه حقاً أن يعاد إحياء المحادثات ونقلها إلى مرحلتها النهائية في أغسطس 2022، وقد حدث ذلك كنتيجة مباشرة للحقيقة الأكثر ثباتاً في الدبلوماسية الناجحة المتمثلة بإظهار المرونة. وعوضاً عن الاعتماد على الضغط والإكراه فحسب، قدمت كل من الولايات المتحدة وإيران تنازلات مقابل الحصول على تنازلات، لكن هل يكتب لهذا الإنجاز البقاء؟
السقف لا الأرضية
بالنظر إلى الوضع الحالي للعلاقات الأميركية – الإيرانية، من اللافت جداً أن تقدماً قد تحقق. في عام 2015، قال ظريف جملته الشهيرة إن خطة العمل الشاملة المشتركة هي الأرضية لا السقف، مشيراً إلى أن تلك الخطة يمكن أن تؤدي إلى تفاهم أكبر بين البلدين، وكتب على “تويتر” “يجب أن نبدأ الآن في البناء عليها”. ولكن، على ما يبدو فإن خطة العمل الشاملة المشتركة التي أعيد إحياؤها لا تشكل أرضية للعلاقات الأميركية – الإيرانية، بل سقفها، فعلى ما هي عليه الحال الآن، تبدو احتمالات التوسع ضئيلة لأسباب عديدة.
ففي البداية، أدى عدم الاستقرار السياسي والاستقطاب [الانقسام] في الولايات المتحدة إلى جعل أي وعد أميركي غير جدير بالثقة في أحسن الأحوال. هذا الوضع الجديد الذي لم يعد متوقعاً بموجبه أن يحترم رؤساء الولايات المتحدة الاتفاقيات التي وقعها أسلافهم، عمق مخاوف طهران أكثر بشأن تجديد خطة العمل الشاملة المشتركة، والجدير بالذكر أن إدارة بايدن رفضت طلب إيران تضمين آليات ملزمة يمكن أن تمنع انسحاب الولايات المتحدة بشكل غير مبرر لمرة ثانية، مشددة على أنه في دولة ديمقراطية لا يمكن للرئيس أن يكبل أيدي خلفائه.
في النهاية، إن التغييرات التي أجريت على خطة العمل الشاملة المشتركة بهدف تلبية مطالب إيران ،على غرار تمديد فترة السماح للشركات الأجنبية من أجل إتمام صفقاتها التجارية مع إيران في حالة إعادة فرض العقوبات، لم ترق إلى مستوى توقعات طهران، فبدلاً من توقيع المسؤولين الإيرانيين على اتفاقية نووية تسمح لبلادهم بتطبيع تجارتها واستثماراتها مع العالم، كان عليهم تحديد ما إذا كانت مبيعات النفط لمدة عامين فقط تستحق التخلي عن العناصر الحيوية في برنامجهم النووي، وكيف أن صفقة مماثلة لن تتركهم مجردين من النفوذ في حال تخلت الولايات المتحدة عن الاتفاقية في عام 2025.
استطراداً، تضاف الظروف الجيوسياسية الحالية إلى التحديات القائمة. في الواقع، عزز الغزو الروسي لأوكرانيا تفضيل حكومة “رئيسي” التوجه نحو الشرق وليس الغرب. من وجهة نظر طهران، أصبح العالم الآن متعدد الأقطاب بشكل لا رجعة فيه، ما خلق بيئة مناسبة لبدء تحسين آفاق إيران الجيوسياسية كقوة إقليمية كبرى. وبحسب طريقة التفكير هذه، فإن أوروبا المنهكة بسبب التهديدات المرتقبة من موسكو، في حاجة ماسة إلى الغاز الإيراني، وبطريقة موازية أدت الصراعات المتزايدة بين الصين وروسيا مع الولايات المتحدة إلى زيادة الحاجة إلى تعزيز العلاقات مع طهران، بالتالي، سيوفر ترابط الاقتصاد العالمي بين الغرب والشرق لإيران وسائل جديدة للهروب من العقوبات الأميركية.
وعلى نحو مماثل، يسيطر جو من التردد في واشنطن، إذ إن إدارة بايدن التي لم تبد رغبة كبيرة في تواصل على نطاق أوسع مع إيران عندما كان روحاني رئيساً، أصبحت رغبتها أقل مع “رئيسي” في السلطة، ولا شك في أن الخطة الإيرانية المزعومة لاغتيال جون بولتون الذي عمل مستشاراً للأمن القومي في عهد ترمب، ومحاولة اغتيال سلمان رشدي على يد أميركي لبناني مولود في نيوجيرسي كان قد أعرب عن تعاطفه مع سلطة إيران الدينية، لم تؤديا إلى زيادة رغبة البيت الأبيض في التصالح مع مستبدين دينيين في طهران.
ولكن ربما يكون الأهم من ذلك أن تركيز واشنطن ينصب الآن على الصين، وفي المنافسة الجيوسياسية التي يتصورها بايدن، يشكل نظام التحالف الواسع للولايات المتحدة ميزة حاسمة ترجح كفتها على بكين. ويُعدّ إبقاء الأصدقاء إلى جانب واشنطن أمراً ضرورياً، فمن غير المرجح أن تخاطر بدفع حلفائها نحو بكين من أجل انفتاح أكبر مع طهران. بالنسبة إلى عديد من المراقبين في واشنطن لا تشكل إيران ببساطة جائزة جيوسياسية جذابة بما يكفي لتبرير مثل تلك المجازفة.
لهذه الأسباب بالتحديد، افترض استراتيجيون من كلا الجانبين أنه من المستبعد أن تستمر النسخة الجديدة لخطة العمل الشاملة المشتركة إلى ما بعد رئاسة بايدن، والجدير بالذكر أن انعدام الثقة المتبادل وعلامات الاستفهام حول متانة الصفقة تجعلها أضعف من أن تتحمل ثقل التوترات الأميركية – الإيرانية المتزايدة على جبهات أخرى والتهديد بخروج الولايات المتحدة بقيادة الجمهوريين في المستقبل من الاتفاقية. بالتالي، من المرجح أن تقضي واشنطن وطهران العامين المقبلين في الاستعداد لأزمة جديدة في عام 2025. طهران، في هذه الأثناء ستعمل على تحصين اقتصادها ضد العقوبات، فيما ستسعى واشنطن من جهتها إلى جعل خيارها العسكري حقيقاً، بيد أن التصرف على أساس التوقع بأن خطة العمل الشاملة المشتركة بنسختها الجديدة لن تستمر قد يجعل من انهيارها نبوءة تحقق نفسها بنفسها. إذا أرادت إيران والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أن تدوم خطة العمل الشاملة المشتركة الجديدة، فعليها التصرف وفقاً لذلك، وهناك عدد من الإجراءات التي يمكنها اتخاذها من أجل زيادة احتمالات صمود الصفقة.
محادثات وتجارة
بالنسبة إلى إيران، تتعلق إحدى أسهل الخطوات التعزيزية بالدبلوماسية المباشرة، مع تجديد خطة العمل الشاملة المشتركة ورفع العقوبات، سيبدو رفض طهران الدخول في حوار مباشر مع واشنطن غير مبرر بشكل متزايد، علاوة على ذلك، ينبغي ألا تكون المحادثات الأميركية – الإيرانية محصورة بالمبعوث الأميركي الخاص لإيران، روب مالي، ونظيره الإيراني علي باقري كاني، لمناقشة الاتفاق النووي. عوضاً عن ذلك، يجب تطبيع الحوار بين البلدين إلى أقصى حد ممكن من خلال إقامة اتصال مباشر بين بلينكن ونظيره حسين أمير عبد اللهيان، وكذلك بين مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان وعلي شمخاني، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني.
في الواقع، مصالح البلدين لم تخدم عبر عقود من دون حوار، بالتالي فإن معالجة الملف النووي بطريقة ضيقة ومحدودة لن تنفع كثيراً في بناء ثقة أوسع بين الطرفين.
في المقابل، من خلال إعادة تفعيل القنوات الدبلوماسية يمكن للجانبين خفض التكلفة بشكل كبير على الحكومات والإدارات المستقبلية التي ستدخل في المحادثات، على الرغم من أن هذا لن يضمن أن إدارة جمهورية مستقبلية لن تنسحب من خطة العمل الشاملة المشتركة، إلا أن التواصل المباشر بين الجانبين قد يساعد في إقناع رئيس من الحزب الجمهوري في المستقبل بالتزام الصفقة، ولكن المشكلة هنا تكمن في الجانب الإيراني على الرغم من احتمال إدراك طهران لمدى حماقة رفضها الحوار مع واشنطن. في الواقع، أخبرني المسؤولون الإيرانيون في عام 2019 أنهم يعتقدون أنهم لو أجروا نقاشاً مع ترمب في أوائل عام 2017، لكان من الممكن ألا ينسحب من الاتفاق النووي في المقام الأول.
أما الطريقة الثانية لتعزيز الصفقة فهي بجعلها أكثر طموحاً. في ذلك الإطار، كانت الأشهر القليلة الماضية من المفاوضات معقدة لأن خطة العمل الشاملة المشتركة لم تكن واسعة بما يكفي لتبرير تضحيات سياسية كبيرة، ولم تكن ضيقة بما يكفي للتغاضي عن مخاطرها، وبناءً على ذلك، فإن جهود إدارة بايدن التي تسعى إلى صفقة أكبر تستند إلى أسس سليمة من حيث المبدأ، إذ من الصعب تبرير التعديلات اللازمة لجعل الصفقة متينة ما لم يتم توسيع الاتفاقية.
على سبيل المثال، فإن خطة العمل الشاملة المشتركة بنسختها الجديدة لم تعالج بشكل كامل الضمانات التي تبحث عنها إيران في ما يتعلق باحتمال انسحاب الولايات المتحدة مجدداً من الصفقة، ولكن من الممكن، لا بل من الواجب التعامل مع ذلك في المحادثات اللاحقة. والجدير بالذكر أن خطة العمل الأصلية قدمت ضمانة مماثلة تمثلت بفرض عقوبات قاسية، لكنها كانت تنطبق فقط على إيران، لذا، يجب أن تجعل الاتفاقية الموسعة ثمن انتهاك الصفقة أكثر تماثلاً بالنسبة إلى جميع الأطراف. في نهاية المطاف، لا يمكن لواشنطن أن تدعي أنها الجهة الضامنة لنظام دولي قائم على القواعد وتصر في الوقت نفسه على أنها لا تستطيع ضمان تنفيذ الالتزام بالاتفاقيات لأكثر من دورة سياسية واحدة ]فترة واحدة من حكم الرئيس الأميركي[.
بالتالي، فإن الطريقة الأقوى لضمان امتثال أميركي مستمر هو فتح تجارة مباشرة بين الولايات المتحدة وإيران، وفي ذلك السياق، رفعت خطة العمل المشتركة الشاملة العقوبات الأميركية عن دول أخرى، بيد أنها لم تسمح بالتجارة بين الولايات المتحدة وإيران، إذاً يمكن التفاوض على قيود أطول على برنامج إيران النووي مقابل رفع العقوبات الأميركية الأساسية، وهذا من شأنه أن يفتح الاقتصاد الإيراني أمام الشركات الأميركية ويخلق شيئاً تفتقر إليه خطة العمل الشاملة المشتركة الأصلية – جمهور قوي من الناخبين في الولايات المتحدة يقاوم أي تكرار لحماقة ترمب في المستقبل. في منحى مقابل، من المرجح أن يقاوم المتشددون في طهران مثل هذه الخطوة، بيد أن تجربة إيران مع خطة العمل الشاملة المشتركة أثبتت أنه من غير المجدي الاعتماد فحسب على تخفيف العقوبات الثانوية، ففي ظل غياب الشركات الأميركية عن السوق الإيرانية ترتب على انسحاب أميركا تأثير اقتصادي ضئيل أو معدوم على اقتصادها.
واستكمالاً، تتعلق الخطوة الثالثة بحلفاء واشنطن الأوروبيين. في الحقيقة، لعب الدبلوماسيون الأوروبيون دوراً حاسماً في إعادة صياغة الاتفاق النووي من خلال العمل كوسطاء بين الولايات المتحدة وإيران. وعلى نحو مماثل، يمكن للحكومات الأوروبية أن تلعب دوراً لا يقل أهمية في الحفاظ على الاتفاقية، وذلك من خلال إدخال إيران في سياستها المتعلقة بأمن الطاقة على المدى الطويل. في الوقت الحاضر، لا تولي طهران قيمة كبيرة لوعود الاتحاد الأوروبي، إذ إن أوروبا تخلت بسرعة عن تجارتها مع إيران بعد أن أعاد ترمب فرض العقوبات، بيد أن المفاوضين الأوروبيين يصرون على أن الغزو الروسي لأوكرانيا قد غير حساباتهم الجيوسياسية بصورة نهائية، إيران قادرة على مساعدة أوروبا في التخلي بشكل دائم عن الغاز الروسي، كما أنه لا يمكن لأي رئيس ]أميركي[ جمهوري إجبار أوروبا على العودة إلى الطاقة الروسية، وسواء ثبتت صحة هذا التقييم أم لا، فإن إقامة علاقات استراتيجية بين الاتحاد الأوروبي وإيران في مجال الطاقة ستساعد في زيادة فرص استمرار خطة العمل الشاملة المشتركة بنسختها الجديدة، وفي الوقت نفسه تعميق نفوذ أوروبا مع طهران ودورها في الاتفاقية النووية.
الحد من التسلح أم السباق نحو التسلح؟
العائق الأكبر أمام التوصل إلى اتفاق متين هو أن واشنطن تستخدم مبيعات الأسلحة لحلفائها في الشرق الأوسط من أجل الاحتفاظ بنفوذها في المنطقة. إذاً، لا يمكن للولايات المتحدة أن تتوقع استمرار اتفاقية للحد من التسلح مع إيران إذا كانت تسعى في الوقت نفسه إلى توسيع “اتفاقيات أبراهام” لتصبح تحالفاً عسكرياً مناهضاً لإيران، وتوفير أنظمة أسلحة أكثر تطوراً لخصوم إيران الإقليميين. في الواقع، لن يؤدي تعميق الانقسامات الإقليمية وتكثيف شكوك إيران بشأن جيرانها إلا إلى منح طهران حوافز جديدة لخرق الاتفاق والسعي وراء رادع نووي.
ولكن هناك طريقة أخرى، ففي السنوات القليلة الماضية، بدأت القوى الإقليمية باعتماد دبلوماسيتها الخاصة المخففة للتصعيد، التي تيسرها إلى حد كبير الحكومة العراقية في ما يسمى بـ”حوار بغداد”، كذلك أجرت طهران والرياض جولات عدة من المحادثات التي ساعدت في التوصل إلى هدنة في حرب اليمن من خلال دعم هذه العملية وتشجيع الجهود الإقليمية من أجل حل النزاعات الإقليمية، فضلاً عن الجهود المبذولة لتعزيز العلاقات الاقتصادية بين دول الخليج وإيران، يمكن للولايات المتحدة أن تساعد بشكل أكبر في إلزام طهران الاتفاق النووي بنسخته الجديدة، وإذا نجحت مثل تلك التحركات، فإنها ستخلق أيضاً مقاومة إقليمية من الشركاء الأمنيين الرئيسين للولايات المتحدة في الخليج العربي ضد خروج أميركا مرة ثانية من الاتفاق، وستمثل ديناميكية كهذه تحولاً صارخاً في الوضع السائد بين عامي 2017-2018، عندما دفعت الإمارات والسعودية ترمب للتخلي عن خطة العمل الشاملة المشتركة.
واستكمالاً، ستقاوم واشنطن، أو طهران، أو كلاهما عدداً كبيراً من هذه الخطوات، ولكن في حال عدم اتخاذها فمن المستبعد أن تستمر خطة العمل الشاملة المشتركة بنسختها الجديدة. في الواقع، تعد النجاة من خروج أميركي واحد من الاتفاق النووي معجزةً، ومن المرجح أن التغلب على خروج ثان سيكون مستحيلاً.
تريتا بارسي هو نائب الرئيس التنفيذي في معهد كوينسي للحوكمة المسؤولة
مترجم من فورين أفيرز، أغسطس (آب) 2022
المصدر: اندبندنت عربية