أثارت المواقف التركية، أخيرا، تجاه العلاقة مع النظام في سورية، وجوهرها التصالح معه، موجةً من التظاهرات الشعبية العارمة في المناطق الخارجة عن سلطة النظام. شاب التظاهرات حرق العلم التركي، ولم تتأخر المعارضة، ممثلة بمؤسساتها، عن الاعتذار عن الحرق، ولا الاستخبارات التركية في اعتقال الحارقين. والسؤال: هل استفاق الشعب السوري من جديد، معلناً رفض التصالح، وهل في المقدور إيقافه؟
تقول التظاهرات إن الشعب شعر بأنه يُباع في سوق المصالح الإقليمية والدولية، فتظاهر محاولاً التأكيد بأن قضيته لم تمت بعد، رغم أنّه هُجّرَ إلى أصقاع الأرض وحُشِرَ على الحدود التركية، وبالتالي، يجب أخذ مصالحه بالاعتبار في أية مفاوضات أو تسويات سياسية. المشكلة التي تواجه الشعب السوري أن مصالحه لم تعد بضاعة غالية الثمن، بعد أن فقد أغلبية المدن السورية، وصار سهلاً على روسيا أن تضغط على تركيا من أجل إعادة العلاقات السياسية مع نظام دمشق، ولم تعد تركيا غير المحبَذة في حلف الناتو، وفي الاتحاد الأوروبي، سنداً قوياً للممانعة ضد روسيا. وحتى الأميركان، ورغم حدّة الأزمة في أوكرانيا، لم يفرّطوا بالأكراد من أجل تقوية الموقف التركي. وأخيرا، لم تعط أميركا الضوء الأخضر لتركيا بغزو منبج وتل رفعت، ولا بتفريغ ثلاثين كيلومترا داخل الحدود السورية مجالا لحماية الأمن التركي، وبالتالي، ونتيجة لكل هذه العوامل، وبحثاً عن صفقةٍ تبعد الأكراد عن الحدود، راحت تتذوق كأس المرارة وتتقارب مع النظام، وإن كانت لا تزال تتحدّث عن علاقات أمنية، وتضع شروطاً للعلاقات السياسية، وهناك تعقيدات تتصل بضخامة الوجود التركي في الشمال السوري، والموقف من هيئة تحرير الشام، وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) بكل تأكيد.
لن نكرّر أن تأثير التدخل التركي في سورية تقلّص بالتدريج منذ الاتفاق على تسليم حلب 2016، والبدء بمسارات أستانة 2017 وسوتشي وجنيف، والتخلي عن نقاش هيئة الحكم الانتقالي، كاملة الصلاحيات، وأُفرِغ قرار مجلس الأمن 2254 من جوهره من خلال إنشاء لجنة دستورية بإشرافٍ روسيٍّ، ومُثِلت فيها هيئة التفاوض المعارضة والنظام ومنظمات المجتمع المدني. منذ ذلك الوقت، أي من 2016، تتفاوض تركيا وروسيا وإيران على أن النظام شريك مع المعارضة في أيّة تسوية، ولكنّه ظلَّ يرفض ذلك بصورة مستمرّة. قبلت المعارضة التصالح حينما قَبِلت المسارات السابقة؛ هذا ما لم يعه الشعب المحرّر جيّداً، وهذا ما كانت ترفضه بعض تيارات المعارضة، ولكنها عاجزة. أمّا تلك المسارات فقادت إلى تَحكّم تركيا في المعارضة وفصائلها، والخضوع لاتفاقيات الدول الضامنة، ومنها روسيا وإيران.
ماذا يفعل الشعب، وقد أُسقِط بيده بشكل كامل. لقد تظاهر، ولكن ستضبط المظاهرات فصائلُ الجيش الوطني وسواها من مؤسسات تابعة لتركيا في الشمال السوري؛ وهو ما تفعله تلك المؤسسات منذ سيطرة تركيا على الشريط الحدودي. هنا علينا الانتباه إلى أن المظاهرات أخيرا سبقتها احتجاجات متعدّدة في المناطق ذاتها، وتحديداً احتجاجات الأطباء والعاملين في القطاع الصحي، وكانت بسبب انهيار أوضاعهم الاقتصادية، وحالها هذا يشبه الانهيار الكبير لأحوال أغلبية السوريين لدى النظام و”قسد” كذلك. قد تكون الأوضاع هذه هي مفتاح المظاهرات مستقبلاً، ولكن الآن سيتم ضبط المظاهرات وتوجيهها إن تجاوزت سقف مسارات روسيا، وكذلك المظاهرات المندّدة بتركيا، وستستفيد منها الأخيرة ورقة في التفاوض مع الدول الضامنة. المشكلة الآن أن فصائل الجيش الحر أو “قسد” لا تمتلك رؤية وطنية مستقلة، وهي تتصارع فيما بينها أو ضد بعضها، وهي قوى خاضعة للدول الخارجية، وتبني سياستها ومواقفها انطلاقاً من مصالح تلك الدول.
سبقت “قسد” الائتلاف الوطني والفصائل وهيئة تحرير الشام الحوار مع النظام، ولم تسلك مسارات أستانة أو سوتشي واللجنة الدستورية، ولم تُدع إليها من أصله، والآن أصبحت القوى أعلاه خاضعةً لمشيئة التركي، ومصلحة الأخير تكمن في التنسيق مع روسيا وإيران. وبالتالي، ليس أمام الهيئة والفصائل إلّا الخضوع للأتراك والدول الضامنة، وما يرونه من سياساتٍ تصالحيةٍ مع النظام، بفعل الضغط الروسي وحسابات السياسة الداخلية.
طبعاً، لن يتسارع ملف التصالح سريعاً. ولا تتحدّث روسيا عن حصةٍ كبيرة لتركيا في دمشق من خلال قوى المعارضة، وتقاسم السلطة، وتركيا لا يمكنها التفريط بسهولة بما تحت يديها من معارضة ومناطق تابعة لها من دون ذلك، وحتى هيئة تحرير الشام لن يتم تفكيكها قبل الوصول إلى صفقة سياسية كبيرة. والروس أيضاً لن يضغطوا على تركيا للتصالح مع النظام، فتركيا تحتجز مئات آلاف من المقاتلين، وتشرف على ملايين اللاجئين داخل تركيا وفي سورية، وهذا يقتضي تغييراتٍ كثيرة في مواقفها وفي الموقفين، الروسي والإيراني، أيضاً، والدول الضامنة لم تناقش هذا الأمر بعد.
نعيد التكرار إنّ الموقف التركي تغيّر من إسقاط النظام إلى إصلاحه والتصالح معه منذ 2016، كما كان في الأشهر الأولى للثورة 2011، ورفض النظام ذلك، وكانت النتيجة حشر الملايين على الحدود، وتسليم المدن السورية إلى النظام، ولكن هناك مناطق “قسد”، وهي تسيطر على أكثر من ثلث سورية، وفيها أغلبية الثروة الباطنية السورية والزراعية والحيوانية، وهناك السدود وإنتاج الكهرباء، وأغلبيتها خارج سيطرة النظام أو تركيا، وهذا عاملٌ إضافي يعيق التقدم بمسألة التصالح.
مشكلة السوريين لا تكمن فقط في المعارضة، التي لا تمتلك موقفاً مناهضاً لإرادة الدول الإقليمية والدولية، وقد دخلت مساراتٍ تراجعت من خلالها عن أهداف الثورة، وعن القرارات الدولية، وهذا ساعد السير في تلك المسارات، ودفع دولاً عديدة إلى التطبيع مع النظام ما دامت المعارضة تتحاور معه في أستانة وسوتشي واللجنة الدستورية. أيضاً، لم تعد هناك كتلة شعبية وازنة ومستقلة فعلاً في قراراتها، وأصبحت الفصائل وهيئة التحرير قادرة على ضبطها وقمعها، وليس من الصحيح القول إن الثورة ما تزال هي هي، كما عامي 2011 و2012؛ ونضيف أن المناطق الخاضعة للنظام، سواء التي لم تثور أو التي ثارت عليه، وخضعت له ليست بوارد الثورة من جديد.
ما حدث في السويداء تمَّ لجمه، وما يحدُث في درعا غير قادرٍ على إنتاج ثورة جديدة، وبالتالي، الحالة السورية في غاية الهشاشة والهامشية والتفكّك؛ فكل مناطق سورية خاضعة لقوى الأمر الواقع أو للاحتلالات الخارجية، وفي هذا تتفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في كل تلك المناطق. المشكلة الآن أن شعوب تلك المناطق الأربع غير قادرين على إنتاج حالة وطنية جامعة، وحتى الرؤية الوطنية غير متوفرة في مناطق الفصائل أو “قسد” أو هيئة تحرير الشام.
خلاصة التحليل، هناك بقايا ثورة وروح لدى السوريين، وهناك أوضاع تودي إلى ثورةٍ من جديد، ولكن ليس هناك قوى قادرة على إنتاج حالة وطنية جامعة، أو تجد مصلحتها في رؤية وطنية جامعة، وتقود السوريين إلى تقرير مصيرهم؛ وبغياب ذلك كله، فإن فكرة روسيا عن التصالح مع النظام ستكون وجهة تركيا الراهنة، وإنْ بشكل متدرجٍ وببطءٍ شديد.
كي نلّم بالوضع السوري بأكمله، نقول، لا تضع أميركا سيناريو محدّدا لسورية، رغم الكلام عن عودتها إلى المنطقة، واهتمامها بتحجيم روسيا والصين، وتمسّكها برفض التطبيع مع النظام، وتعاظم الخلاف مع الروس بسبب أوكرانيا، وهي تتجه نحو عقد اتفاق نووي مع إيران، وهو خيار الاتحاد الأوروبي كذلك، وهذا قد يُحدِث خللاً في العلاقات الروسية الإيرانية، وربما تستفيد منه تركيا في تثقيل شروطها مع الروس، ولكن فكرة التصالح ليست للشطب وفق أغلبية الاحتمالات التي تسير عليها الدول المتدخلة في سورية وفي منطقتنا بعامة؛ فهل سيستطيع الوجود الأميركي في سورية والانعطافة الأميركية نحو المنطقة إيقاف تصالح تركيا مع النظام وإشادة علاقات قوية مع تركيا، وهل يمكن لروسيا أن تتجاهل العقدة الأميركية، وتصل إلى ذلك التصالح، وإنجاز تسوية سياسية تخصّ النظام والمعارضة؟
المصدر: العربي الجديد