تفيد التطورات في الجزيرة السورية (منطقة شمال شرق سورية) بأن الولايات المتحدة تؤسس لإقامة طويلة هناك، بعد أن تراجعت نهائياً، فيما يبدو، عن قرار الانسحاب الذي اتخذته فجأة في أواخر عام 2018، والذي عرض صورة مضطربة للسياسة الخارجية الأميركية انعكست في صراعات داخل الإدارة نفسها بين مؤسسات الرئاسة والخارجية والدفاع. يبدو اليوم أن أميركا عثرت على “سورية المفيدة” الخاصة بها، وهي منطقة النفط، وبدأت تمارس دورها، مع غيرها من القوى الأجنبية، في خلخلة ما تبقى من عناصر التماسك الوطني السوري. تريد الولايات المتحدة، بعد تحطيم الجسد العسكري لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، تبريد الأرض تحت أقدامها في المنطقة التي تعتبرها مهمة أو “مفيدة”، ودون ذلك عقبات على الأميركيين معالجتها. هناك شرخان سياسيان يعتملان المنطقة: الأول الشرخ الكردي الكردي، المتجسد في الصراع السياسي بين حزب الاتحاد الديمقراطي وتحالف مجلس سوريا الديمقراطية (مسد) من جهة والمجلس الوطني الكردي من جهة ثانية. لهذا تدعم الولايات المتحدة مبادرة القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) لتحقيق صلح سياسي بين القوى الكردية، فقد رعت واشنطن مفاوضاتٍ بين الأطراف الكردية “لتوحيد الصف الكردي”. والثاني هو الشرخ الكردي العربي الذي يشكل استمراره أرضية عدم استقرار وأرضية مناسبة لبروز “داعش” متكرّر. ومعروف أن رائحة “داعش” لم تفارق المنطقة التي تشهد، من حين إلى آخر، عمليات تستهدف قوات السيطرة الكردية، كان منها أخيرا اغتيال مسؤول قوات الأمن الكردية (الأسايش) في دير الزور في 27 الشهر الماضي (إبريل/ نيسان)، إضافة إلى أخبار عن عمليات ضد الوجود الأميركي.
الأرومة مُنشئة “داعش” والتنظيمات الشبيهة بها تتكون من إلباس الظلم أو القهر السياسي ثوباً هوياتياً، وقد اتخذ هذا الثوب في العراق لوناً مذهبياً طاغياً (ولد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق على تربة السيطرة المذهبية الشيعية عقب سقوط نظام صدام حسين والتهميش الذي لحق بالسنة العرب في العراق). مع دخول التنظيم إلى سورية، أضيف إلى البعد المذهبي السني لون جديد، هو اللون القومي العربي، حين قرّرت واشنطن اعتماد قوات كردية (أو بقيادة كردية) حليفاً لها على الأرض في مقاتلة “داعش”. ليس غريباً أن تجد داعش “العربية” بعض القبول في الوسط العربي في المناطق التي تشهد خطوط انقسام عربية كردية، سيما مع بروز قوة عسكرية كردية تفوقت على غيرها وسيطرت في المنطقة، وحازت دعم التحالف الدولي الأميركي.
ما منع ظهور دعم جماهيري صريح لتنظيم داعش هو تطرفه اللاعقلاني والاستعراض الدموي الصادم الذي تميز به، إضافة إلى خطابه المذهبي المُغرق في قدامته وتحجّره، فضلاً عن أثر وجود تحالف دولي بقيادة أميركا لمحاربة التنظيم الجهادي. ولكن لنا أن نتخيّل أنه أمام حضور قوى عسكرية تعبر عن هويات مغايرة للهوية السنية العربية (الكرد مدعومين من التحالف الدولي من جهة، وقوات نظام الأسد منظوراً إليه بوصفه نظاماً علوياً، من جهة أخرى) ستبدو “داعش” (بكل علاتها)، في عيون نسبة مهمة من العرب السنة، القوة العسكرية الأبرز التي تمثل هذه الهوية. بروز “داعش” بوصفها المعبر العسكري الأقوى عن الهوية العربية السنية، شكل إحدى نقاط الألم العميق بالنسبة للعرب السنة، في مرحلة اتخذ الاستقطاب السياسي فيه شكلاً قومياً أو طائفياً. ذلك أن التشكيلات العسكرية الجهادية التي شكلت “داعش” القوة الأهم بينها جاهرت بلغة طائفية صريحة، وسعت إلى استجرار الشرعية من وعدها باستعادة ماض كانت السيطرة فيه للعرب السنة، وتفاخرت بفرض حدود بائدة تأكيداً على الماضي المستعاد. أي إن التشكيل الأبرز الذي تنطع لتمثيل الهوية العربية السنية عرض صورةً منحطةً لا يقبلها الحس السليم.
في ظل فشل بروز تشكيلات وطنية فعلية تستوعب السوريين وطنياً باستقلال عن مذاهبهم وأعراقهم، وفي ظل فشل بروز تشكيلات دينية “سنية” معتدلة قوية وواسعة، وتتمتع بقدر من العقلانية يسمح للعرب السنة بمساندتها من دون كثير حرج، وجد قسم غير قليل من العرب السنة أن هذه التشكيلات الجهادية المشوّهة أقرب إليهم من التشكيلات “الكردية” أو “العلوية”.
من الواضح اليوم أن الولايات المتحدة أدركت أن من أهم سبل قطع الطريق على بروز جديد لتنظيم داعش، هو إعطاء العشائر العربية في المنطقة دوراً أكبر في إدارة مناطقها بدلاً من بقائها تحت سيطرة كردية. كثيرون من أهالي دير الزور ينظرون إلى الكرد قوة احتلال، كما جاء في تقرير على موقع المونيتور في 25 فبراير/ شباط 2020. لهذا الغرض، تعمل واشنطن على إنشاء قوة من العشائر العربية مستقلة عن القيادة الكردية، وتتلقى أوامرها من الأميركيين مباشرة، بمهمة حماية طريق النفط ومواجهة القوات التابعة لإيران في المنطقة. إنشاء قوى عربية محلية خارج القيادة الكردية، أو إيجاد توازن فعلي بين العرب والكرد في قيادة “قسد”، هو الطريق المناسب لاجتثاث “داعش” التي ليس لها في منطقة دير الزور “خلاياها نائمة كما تذكر الصحف، بل خلايا نشطة وذات فعالية يومية”، كما يقول رئيس المجلس المدني للقسم من دير الزور الخاضع رسمياً لسيطرة “قسد”. ويشدد الرجل، في التقرير نفسه، على أن العرب يريدون دوراً فعلياً في إدارة مناطقهم، ما يعكس شعور عدم ارتياح، مع أن هذا المتكلم العربي متعاون مع “قسد” ويستمد سلطته منها.
لا بد أن تدرك الولايات المتحدة أنه إذا كان القضاء العسكري على “داعش” قد تطلب دوراً أو “العلوية””عسكرياً أساساً ساهم به الكرد بنجاح وتضحيات كبيرة، يصعب على منصفٍ أن لا يقدّرها، فإن قطع الطريق على عودة التنظيم، أو تجفيف منابعه السياسية، بات يحتاج معالجة سياسية جوهرها إعادة الاعتبار للعرب السنة من جميع النواحي، في السياسة والعسكرة والتربية والصحة والاقتصاد .. إلخ.
تزدحم منطقة شرق الفرات بالقوى الخارجية (أميركا مع التحالف الدولي، وروسيا، وإيران وتركيا) التي تتصارع مشاريعها وتنعكس تفتتاً ونزاعات بين القوى المحلية. تتوزع ولاءات العشائر العربية في منطقة الجزيرة بين القوى الأجنبية. ولا يبدو من السهل نجاح مبادرة توحيد الصف الكردي، كما ليس من السهل على قوات سوريا الديمقراطية (قسد) الحفاظ على تماسكها في ظل وجود هذه القوى الدولية المتعارضة. تعرض “قسد” اليوم تعايشاً بين اتجاهين، يميل أحدهما إلى أميركا فيما يميل الآخر إلى روسيا. وفيما تقوم “قسد” بحماية مؤتمر عشائر الحسكة القريب من نظام الأسد، والذي يحظى بدعم روسي، فإنها تحافظ على علاقة تحالف مع عشائر دير الزور المتحالفة مع أميركا، والتي تناصب نظام الأسد العداء، وترفض العرض الروسي بتسوية لها مع النظام.
انتهاء مهمة تصفية “داعش” عسكريا يفتح الباب أمام تراجع دور المكون العسكري الكردي، لصالح الانشغال بالتصفية السياسية للتنظيم الجهادي، أي معالجة أسباب صعوده، الأمر الذي يتطلب إعطاء العرب دوراً أكبر في إدارة شؤون المنطقة.
المصدر: العربي الجديد