بعد قرابة عام على انتخابات رئاسية شهدت مشاركة هي الأدنى في تاريخ الجمهورية الإسلامية، تواجه الحكومة الإيرانية اختبارا جديدا لشعبيتها وتماسكها في صورة احتجاجات اندلعت في 7 مقاطعات على الأقل بسبب الارتفاع في أسعار المواد الغذائية الأساسية، وهي احتجاجات ليست جديدة على إيران في السنوات الأخيرة، فقد أصيب الاقتصاد بالشلل نتيجة للعقوبات الأميركية وسوء الإدارة الحكومية مع ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، في حين اقترب التضخُّم من 40%، مع عجز في الميزانية بلغ نحو 21 مليار دولار. وقد تفاقمت الأزمة بسبب آثار الحرب في أوكرانيا، واستمرار تعطُّل الصفقة النووية حتى الآن مع إدارة الرئيس الأميركي “جو بايدن”، ثم زاد الطين بلَّة سقوط مبنى قيد الإنشاء في جنوب البلاد.
هُنا في “عبادان” الواقعة بمحافظة “خوزستان” الغنية بالنفط، وموطن الأقلية العربية في إيران، يشكو المواطنون باستمرار معاملتهم باعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية، علاوة على ما تعانيه المنطقة من أزمة متأصِّلة في مشاريع البناء منذ الدمار الذي لحق بها في أثناء الحرب العراقية-الإيرانية في الثمانينيات. وفي هذا الوقت بالتحديد، وبينما انتشرت الاحتجاجات في المدن والبلدات الريفية على السواء بسبب ارتفاع أسعار الغذاء، اشتعلت احتجاجات في “عبادان” بعد انهيار مبنى قيد الإنشاء وسقوط أكثر من 30 ضحية؛ ما دفع بالإيرانيين إلى مهاجمة المبعوث الحكومي الذي حاول تهدئة الغاضبين في موقع البناء، قبل أن تبدأ قوات الأمن في الرد على المحتجين وإطلاق الغاز المسيل للدموع. لم يعبأ المحتجون الغاضبون بمحاولات الحكومة امتصاص غضبهم، ورفضوا الرواية الرسمية التي أفادت بأن جثة مُطوِّر المبنى “حسين عبد الباقي” كانت بين جثث الضحايا حسبما أظهر تحليل الحمض النووي. ولم يكتفِ المحتجون بالتشكيك في الرواية الرسمية، بل أشاعوا أن “عبد الباقي” هرب إلى خارج البلاد بمساعدة من جهات داخل النظام نفسه.
صدمة الاقتصاد
يعد الاقتصاد هو المحرك الرئيس للاحتجاجات الإيرانية الأخيرة، فالحكومة التي يتعيَّن عليها استيراد أكثر من 20 مليون طن من الحبوب هذا العام، لم تستطع الإيفاء بتعهُّداتها بعدم رفع سعر الخبز حتى نهاية السنة وتقديم برنامج جديد يُمكِن للمستهلكين عن طريقه الحصول على الخبز المدعوم. ففي الأول من مايو/أيار الماضي، قرَّرت الحكومة الإيرانية رفع الأسعار فجأة، فقفز سعر الخبز الإيراني إلى خمسة أمثال، في حين زادته أسعار زيت الطهي والدجاج والبيض والحليب بنسبة 300% تقريبا.
أتت الأسعار الجديدة صادمة للإيرانيين، ودفعت ببعضهم إلى الهجوم على المتاجر وحشو البضائع الأساسية في أكياس بلاستيكية كبيرة والهرب بها؛ ما أفرغ أرفف الأسواق في غضون ساعات قليلة في بعض الأحياء. ورغم أن إيران تنتج ما يقرب من نصف القمح الخاص بها، فإنها تستورد معظم الباقي من روسيا، ولذا، زادت الحرب من أزمة الخبز في البلاد مع ارتفاع أسعار القمح. وقد ردَّد المسؤولون الإيرانيون الحُجة القائلة بأن القمح والدقيق يجري تهريبهم إلى خارج البلاد، ومن ثمَّ ألقوا باللوم فعليا على “جشع التجار” بدلا من الحكومة.
لسوء حظ الإيرانيين، لم يكن الارتفاع السريع في أسعار القمح حدثاً منفرداً، بل جاء في وقت شهدت فيه العائلات الإيرانية بالفعل انخفاضاً حاداً في قوتها الشرائية، وعانى فيه غالبية الإيرانيين من أجل تدبير نفقاتهم الأساسية في ظل اقتصاد خنقته العقوبات الدولية. هذا ويعيش حوالي نصف سكان إيران البالغ عددهم 85 مليون نسمة تحت خط الفقر، ومع استمرار العقوبات الدولية لا يأمل الناس كثيرا في تحسن قريب لهذا الوضع، خاصة أن البلاد اعتادت على اختبار هذا النوع من الأزمات الاقتصادية على مدار أكثر من 4 عقود مضت منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية.
الجمهورية الإسلامية.. تاريخ من التأزُّم الاقتصادي
منذ نشأتها بوصفها نقيضا لنظام الشاه البهلوي الذي أسقطته الثورة عام 1979، حازت الجمهورية الإيرانية وضعا خاصا في النظام الدولي، فهي نظام ثوري متحرِّر تماما من قيود التحالفات الغربية، ويمتلك في حوزته خبرة عسكرية ضخمة من أطول حرب شاملة عرفتها منطقة الشرق الأوسط (بين العراق وإيران طيلة الثمانينيات)، وهي أيضا نظام يملك في حوزته كميات هائلة من النفط والغاز لا يعرف كيف يستفيد منها بالكُلية بسبب علاقاته شبه المنقطعة عن الاقتصادات الغربية، كما أنه يملك طبقة كبيرة نسبيا من المُتعلِّمين تتسرَّب باستمرار للعمل في الخارج نتيجة آثار العقوبات الاقتصادية التي قوَّضت فرص الاستثمار. ونتيجة لذلك، فإن العلاقات المحدودة بين إيران والاقتصاد العالمي، وآثارها على الاقتصاد المحلي، لا تزال هي المُعضلة العالقة بين إيران والعالم من جهة، وبين النظام الإيراني وشعبه من جهة أخرى.
بمرور الوقت، ولَّدت الحركات الاجتماعية الناقدة للعُزلة الاقتصادية والتشدُّد السياسي في مواجهة الغرب اتجاها إصلاحيا من داخل النخبة الحاكمة نفسها، وبرزت ملامحه بوضوح في الانتخابات الرئاسية التي جرت عام 1997 وفاز بها “محمد خاتمي”. وبينما حاز الإصلاحيون في معظم فترات الجمهورية دعم الشباب والطبقات الوسطى، حاز المحافظون دعم المرشد الأعلى والقطاعات الاجتماعية المستفيدة من النظام، وانحصرت اللعبة في الأخير بين هذين الطرفين. تلفت النظر هنا الفترة الرئاسية المهمة للرئيس “أكبر هاشمي رفسنجاني” (1989-1997) الذي حاول تقويض سلطان المحافظين قدر الإمكان وشكَّل علاقة جيدة في الوقت نفسه مع المرشد، في محاولة لإحداث توازن يتيح له إصلاح الوضع الداخلي بعد الحرب، واحتواء الشبكات القتالية التي عادت من الجبهة العراقية، والخروج بالبلاد من أزمتها الاقتصادية نحو علاقة منفتحة على أوروبا والولايات المتحدة، وهو اتجاه تعزَّز أثناء رئاسة “خاتمي”.
بيد أن المؤسسات المحافظة والعسكرية سرعان ما بدأت في مقاومة هذا الاتجاه الإصلاحي، وهو صراع انعكس على المواطن الإيراني، وتسبَّب في تعطُّل اندماج إيران داخل الاقتصاد العالمي، وعرقلة فرص الإيرانيين في التمتُّع بمنظومة اقتصادية منفتحة تلبِّي احتياجات الطبقة الوسطى فيها. وفي غضون ذلك، تفاقم الفساد، وتشكَّلت شبكات كاملة تخلَّلت مؤسسات الدولة كافة، وإن أصرَّ النظام على أن الفساد مشكلة أشخاص بعينهم لا مشكلة النظام بأكمله.
على مدار العقود الماضية إذن تبلورت قوى مستفيدة من العُزلة والفساد القائمَيْن، ومنهم رجال أعمال شباب قريبون من أعضاء بالبرلمان وبمجالس المدن، وهُم يملكون ثروات فلكية، ويديرون جمعيات خيرية في الوقت نفسه، ويقيمون احتفالات دينية بأموال طائلة، فيما يشبه الاقتصاد الموازي للاقتصاد الرسمي المشابه للاقتصادات التابعة للجيوش في دول عديدة مثل مصر وباكستان. وفي الوقت ذاته، دأب المرشحون باستمرار على التعهُّد بتقليص الفساد والتضخُّم في كُل دورة انتخابية برلمانية ورئاسية، ولكن دونما حلول حقيقية يلمسها الشارع بالفعل.
لم تبرح الوعود الانتخابية منصات الحملات الانتخابية، رغم تكرارها في كل مناسبة. على سبيل المثال، ركَّز خطاب “رئيسي” الأول أثناء حملته الانتخابية في 27 مايو/أيار على القضايا الاقتصادية الجارية وأهمية الحكم الرشيد لإنعاش الاقتصاد الإيراني، وتعهَّد بمنح قروض منخفضة الفائدة للأسر الفقيرة وبناء 4 ملايين منزل وخلق 4 ملايين فرصة عمل وإعطاء الأولوية لذوي الدخل المنخفض والخريجين الجُدد. ولكن مع انقضاء ما يقارب العام على حكمه، يظهر أن ما وعد به بعيد عن التنفيذ في المستقبل القريب، حيث تحتاج الحكومة الإيرانية إلى الحصول على أموال كافية من بيع السندات الحكومية وعائدات النفط أو عائدات الضرائب لتحقيق الوعود المذكورة أعلاه، ومع تفاقم الأوضاع نتيجة التضخُّم العالمي والحرب الأوكرانية، فإن تحقيق أهداف “رئيسي” الاقتصادية تصبح أكثر صعوبة.
الاحتجاجات في مواجهة السلطة
في مطلع مايو/أيار، ودون اكتراث بالاعتقالات التي نالت منهم، واصل المُعلِّمون الإيرانيون تظاهرهم المُمتَد منذ أشهر للمطالبة بزيادة الأجور، بعد أن أُجبِروا على العمل بأكثر من وظيفة لتدبير قوت يومهم واحتياجاتهم. وقد كانت تلك واحدة من عدة احتجاجات شهدتها إيران في الأشهر الأخيرة وشهدت انضام شرائح جديدة من الطبقات الموالية تقليديا للمحافظين على خلفية تفاقم الأزمة الاقتصادية والارتفاع الكبير في معدلات التضخم.
يمكن إرجاع أسباب ارتفاع التضخم جزئيا إلى العجز المتزايد في ميزانية الحكومة، التي تراجعت مواردها مع تراجع صادراتها من النفط والغاز نتيجة العقوبات، وهو ما اضطرها إلى تخفيض قيمة الريال الإيراني، والاقتراض من البنك المركزي لزيادة الإمدادات النقدية للدولة؛ ما زاد معدَّل التضخم السنوي للمواد الغذائية وصولا إلى 65%. ومن جهة أخرى، تظل الصناعات المحلية مُنهَكة بسبب التكنولوجيا البالية وصعوبة استجلاب غيرها؛ ما يترك القطاع النفطي وحده القادر على تحقيق النمو، ومن ثمَّ يجعل اقتصاد البلاد رهينة المفاوضات بينها وبين القوى العالمية السِّت.
على مدار السنوات الماضية، شهد الاقتصاد الإيراني جولات مدٍّ وجَزْر اعتمادا على شدة العقوبات الغربية ونوعيتها، التي أمكن أن تُخفِّض الناتج المحلي، وأن تزيد من التضخُّم وتهوي بالعُملة المحلية. وقد كانت فترة الرئيسين “باراك أوباما” و”دونالد ترامب” الأشد ضررا على الاقتصاد الإيراني. ففي عهد أوباما من عام 2012 إلى عام 2015 (حتى توقيع اتفاق فيينا)، انخفض الناتج المحلي الإيراني بنسبة 0.8% سنويا في المتوسط، بينما وصلت معدلات البطالة والتضخم إلى 11.1% و27% على التوالي. علاوة على ذلك، انخفضت قيمة الريال الإيراني بنسبة 23% سنويا طيلة هذه الفترة، فيما كانت صناعات النفط والغاز الطبيعي والسيارات والشحن وبناء السفن والطيران الأكثر تضرُّرا. أما في عهد ترامب، فعانت طهران بسبب الحظر النفطي الذي فرضته واشنطن، بالإضافة إلى آثار جائحة كورونا، وانخفضت أسعار النفط نفسها قبل أن تتمكَّن إيران من زيادة صادرات النفط إلى 1.7 مليون برميل يوميا بيعت بالأساس إلى الصين، ومن بعدها شهد الاقتصاد الإيراني نموّا معتدلا.
نتيجة لما سبق، يواصل الاقتصاد المتردي دفع وتيرة الاحتجاجات، بينما تواصل الحكومة محاولات احتوائها بالوعود تارة، وبالقمع تارة أخرى. لكن المشكلات الاقتصادية المتأصلة تُنذِر بتجدد الاضطرابات مرة بعد مرة، لا سيَّما مع تعثُّر مفاوضات تجديد الاتفاق النووي، وتراجع شرعية النظام الانتخابية التي ستخضع لامتحان جديد في الانتخابات الرئاسية لعام 2025.
المصدر: الجزيرة. نت