التأكيد الإيراني المتكرر باستعداد طهران ورغبتها في دفع الحوار مع السعودية إلى مستويات متقدمة والتوصل إلى اتفاقيات وتفاهمات ثابتة، يكشف مدى الحاجة الإيرانية لهذه الخطوة وهذا الأمر، وأيضاً حجم القلق الذي تعيشه القيادة الإيرانية من مستقبل المفاوضات النووية وإمكانية انهيارها، وما في ذلك من مخاطر الدخول في مرحلة أكثر تعقيداً من سابقاتها، لجهة فشل طهران في تحقيق أي من الإنجازات، سواء على الصعيد النووي، أو تخفيف التوتر مع المجتمع الدولي وفك أو تفكيك الحصار والعقوبات التي تشل وتعرقل مشاريعها الاقتصادية، وتؤثر على استقرارها الداخلي، أو ترتيب علاقاتها مع محيطها الإقليمي وتخفيف مصادر قلقه من طموحاتها السياسية والأمنية والعسكرية ونفوذها في الإقليم.
على مدى أشهر، استضافت العاصمة العراقية بغداد أربع جولات من حوارات مباشرة بين العاصمتين، إضافة إلى اللقاءات الأخيرة في أبريل (نيسان) الماضي، بطلب من طهران، والتي جاءت بعد سلسلة من المحاولات، بدأتها طهران مع عدد من العواصم الإقليمية في الشرق الأوسط وغرب آسيا، كالمبادرة التي قام بها رئيس الوزراء الباكستاني المعزول عمران خان، ثم القيادة العمانية، ولم تتردد بعض العواصم الأوروبية، وحتى واشنطن، في الدخول على خط المساعدة، إلا أن كل هذه الجهود كانت تصطدم بجدار الموقف السعودي المتشدد حيال الدور الإيراني المزعزع للاستقرار في الإقليم واستهداف استقرار دوله والتدخل في الشؤون الداخلية لها.
وفي ظل صمت سعودي وابتعاد الجهات المعنية عن التعليق على الحوارات الأخيرة، فإن طهران في المقابل، تبدي تفاؤلاً واضحاً ببعض المؤشرات التي حملتها هذه الحوارات وإمكانية تطويرها في المستقبل إلى مستويات متقدمة، تخرجها من الطابع الأمني وتنقلها إلى المستوى الدبلوماسي الذي يفتح الطريق أمام الحوار السياسي.
الرغبة الإيرانية بالخروج من الطابع الأمني الذي ساد كل الجلسات السابقة، والتقدم في اتجاه الخطوات الدبلوماسية، نجد ترجمتها في إصرار طهران على التوصل إلى تفاهم سريع يفتح الطريق أمام اتخاذ قرار بإعادة فتح قنصليات البلدين في مدينتي جدة السعودية ومشهد الإيرانية.
في المقابل، فإن الحديث عن عشر نقاط تم التفاهم حولها لتكون الأساس الذي سيبنى عليه الاتفاق المرتقب بين الطرفين، والتي تندرج الخطوة الدبلوماسية ضمنها، ما زال يعتريه الكثير من الغموض، لجهة عدم استعداد إيران للتعاون الفاعل والمؤثر في ملف الأزمة اليمنية، بخاصة بعد الخطوة التي خرج بها الحوار الذي رعته الأمانة العامة لمجلس التعاون في الرياض بين الأطراف اليمنية، والذي انتهى إلى انسحاب الرئيس عبد ربه منصور هادي من المشهد السياسي بعد تسليم الأمور إلى مجلس رئاسي نقل مقر عمله إلى مدينة عدن في الداخل اليمني.
ومن المفترض أن يشكل التعاون الإيراني في الأزمة اليمنية، مبادرة حسن نوايا من جانب طهران وجدية مساعيها لخفض التوتر مع جوارها الخليجي، فضلاً عن أنه يساعد في تمهيد الأرضية وتسهيل المهمة أمام رفع اللقاءات الثنائية إلى مستوى وزراء خارجية، وهو لقاء من المفترض أنه سيجري قريباً، وباستضافة من سلطنة عمان التي تلعب دوراً محورياً ومؤثراً إلى جانب العراق في تقريب وجهات النظر وإزالة العقبات أمام هذا التقارب.
ويبدو أن حرص إيران على تطبيع وترميم علاقاتها مع السعودية، قد يزداد إلحاحاً بعد المتغيرات السياسية التي تشهدها المنطقة، بخاصة التطور الحاصل على مستوى العلاقات السعودية- التركية، والذي سبقه أيضاً انفتاح تركي- إماراتي، بحيث قد يفرض معادلات وتحديات جديدة أمامها على الصعيد الإقليمي، بخاصة وأن الحوارات التي حصلت لم تستطع تقريب وجهات النظر بين الطرفين حول الكثير والعديد من الملفات والأزمات الإقليمية العالقة بينهما، في وقت كانت الخلافات بين هذه العواصم تشكل حالة تسمح لها باللعب على التناقضات وتوظيفها لتعزيز وتكريس وتوسيع نفوذها ودورها في المنطقة، وأن الانتقال إلى التفاهم وتفعيل العلاقات بين الرياض وأنقره قد يجبرها على إعادة النظر في خطواتها ومواقفها واستراتيجياتها، من أجل احتواء هذه المتغيرات وقطع الطريق على تحولها إلى تهديد لمصالحها، وأن المدخل إلى ذلك يمر من بوابة إعادة علاقاتها مع الرياض تحديداً، لجهة أنها قادرة على تفهم “السياسات المتذبذبة” التي يعتمدها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وتخليه عن سياساته ومواقفه السابقة من أجل تحقيق مصالح اقتصادية تساعده على مواجهة ما يتعرض له الوضع الداخلي التركي من تراجع وانهيارات اقتصادية ومالية وأزمات اجتماعية ناتجة عن ذلك، باتت تهدد بقاءه واستمراره على رأس السلطة.
وزيارة أردوغان إلى الرياض، تأتي بعد الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء الباكستاني الجديد شهباز شريف إلى السعودية، ما جعل الرياض تفرض حصاراً من الشرق على إيران، ترافق مع تزايد القلق من التطورات الحاصلة على حدودها الشرقية مع أفغانستان ما دفعها إلى الاستنفار وتحريك ألوية مدرعة ونشرها على هذه الحدود، خوفاً من حصول تصعيد أمني لا تريده مع “طالبان”، وهي تطورات تتزامن مع تنامي الدور السعودي في العراق وفشل الجهود التي تبذلها طهران لإنهاء أزمة الحكم وإمكانية أن تنجح توجهات مقربة أو على الأقل لا تتعارض مع العمق العربي في تولي رئاسة الوزراء، ما يعني نجاح التكتيك السعودي في محاصرة إيران استراتيجياً من الشرق في أفغانستان وشمال الخليج في العراق، أي انتقالها لتكون لاعباً مقرراً وفاعلاً في ساحتين تحتلان أهمية كبيرة في الاستراتيجية الأمنية للنظام الإيراني.
ولعل أبرز مصادر القلق الإيراني، الذي يتحول إلى حاجة في علاقة طهران مع الرياض، الجهود المتسارعة التي تحصل على مسار التطبيع بين العواصم الخليجية وإسرائيل، وأن عدم انضمام السعودية إلى اتفاقية “السلام الإبراهامي” يشكل دافعاً لتفعيل الحوارات وإيصالها إلى نتائج عملية، لجهة أن طهران تنظر إلى “السلام الإبراهامي” كمشروع يستهدفها بالدرجة الأولى، بعد أن انتقل إلى مستويات استراتيجية، يجد ترجمته في الوجود الإسرائيلي المباشر على الساحل الغربي للخليج، وأن عدم دخول السعودية في هذا الاتفاق، يعيق الهدف الإسرائيلي في تحقيق تواصل بين المحيط الجيوسياسي لمنطقة الشرق الأوسط مع المحيط الجيوسياسي لمنطقة الخليج، وأن تحقيق هذا التواصل يشكل تهديداً مباشراً، ويتعارض مع المصالح الإيرانية وعمقها الأمني في المنطقة.
وتتخوف إيران من أن يسهم فشل المفاوضات النووية، في دفع الجهود المدعومة من العمق العربي في ترطيب الأجواء بين الرياض والولايات المتحدة الأميركية إلى نتائج عملية، بحيث يتم تفعيل التعاون بينهما في إطار تفاهم أو اتفاق جديد، تلتزم فيه واشنطن بالوقوف إلى جانب المخاوف السعودية من الطموحات الإيرانية، بخاصة في مسألتي دورها في الأزمة اليمنية وبرنامجها النووي والتسليحي، مقابل ليونة سعودية في التعامل مع الطلب الأميركي والأوروبي برفع مستويات إنتاجها من النفط لتخفيف الآثار السلبية للأزمة الأوكرانية على أسواق الطاقة، وفي حال حصول هذه التطورات، فإن طهران ستتلقى ضربتين، الأولى عودة التركيز الغربي على ضرورة السيطرة على طموحاتها، والثانية تراجع أسعار النفط والغاز ما يؤثر سلباً على عائدات طهران من قطاع الطاقة، مقروناً بإعادة تفعيل وتشديد العقوبات ضدها.
المصدر: اندبندنت عربية