بات العراق بلداً يأكله الفساد، حتى يكاد لا يتبقى منه شيء لمواطنيه الكادحين، وانتشر حتى أصبح سياسة وثقافة وأسلوب حياة ترسخ له الأحزاب، وتحميه قواعد اللعبة. وبإلقاء نظرة على أرقام النفط، يتضح إلى أي مدى عاث الفساد في بلاد الرافدين.
بعد فتح معابر تصدير النفط أقصى جنوب البلاد المطلة على الخليج العربي، وزيادة الكميات المنتجة منه حتى وصلت إلى ما يزيد على أربعة ملايين برميل يومياً، أعلنت وزارة النفط العراقية أخيراً أنها تمكنت من تصدير 100 مليون و564 ألف برميل لشهر مارس (آذار) الماضي، لتحقق أعلى إيرادات في تاريخ العراق منذ خمسين عاماً، بحيث بلغت خلال شهر واحد 11.7 مليار دولار، بمعدل سعر البرميل الواحد (110.090) دولار.
تلك الأرقام أوردتها شركة تسويق النفط العراقية الحكومية “سومو”، إذ أصبح العراق نفطياً ثاني أكبر منتج للنفط في “أوبك” بعد السعودية، ومع ذلك يُصنف بين الدول السبع الأشد جوعاً في العالم.
الفساد في قطاع النفط
وزير النفط العراقي السابق والخبير النفطي الحالي جبار علي اللعيبي أشار إلى أنه على الرغم من تلك الأرقام الكبيرة في التصدير، إلا أن العراق أخفق في صناعته النفطية، بينما كان بالماضي من أوائل الدول في الشرق الأوسط التي اهتمت بالصناعات الاستخراجية والتحويلية والبتروكيماوية.
الاقتصاد العراقي يستمد ديمومته من إيرادات قطاع النفط، وتصل لما يزيد على 90 في المئة من موارده، وهي جديرة بأن تكفل استمرارية الحياة لعموم المجتمع، وتؤمّن الأموال اللازمة لموازنات الدولة، وتوفر الإمكانات المعيشية والحياتية في اقتصاد يوصف بـ”الريعي”، بحيث يعتمد كلياً على الصادرات والموارد النفطية في اقتصاده، ويتأثر مباشرة بالتغيرات التي تحدث فيه.
ويذهب اللعيبي إلى أن هناك هدراً في عائدات الثروة النفطية، قائلاً: “نعم هناك هدر كبير في هذا القطاع الحيوي الذي تعتمد عليه الموازنات العراقية، وقد نبّهت لوقف منافذ الهدر وتغييرها عاجلاً، ومنها استيراد مشتقات نفطية بمعدل (3-4) مليارات دولار سنوياً، وحرق غاز طبيعي في الحقول بمعدل (6-7) مليارات دولار سنوياً، ونقل نفط خام بمعدل 2 مليار دولار سنوياً، وتفاصيل أخرى بمعدل 2 مليار دولار سنوياً، فيكون مجموع الهدر السنوي 15 مليار دولار وربما أكثر”.
خبير نفطي آخر يوضح أن من صور الفساد أيضاً ما يمكن وصفه بـ”سوء الإدارة”، مستشهداً بما حدث مع مصفى “كربلاء”، حيث مضى ما يقرب من عشرة أعوام ولم يكتمل البناء، في حين أن التكلفة الحقيقية لهذا المصفى وفق المعيار الدولي لإنشائه ولسعته الإنتاجية تبلغ أربعة مليارات وبضعة ملايين من الدولارات، لكن تكلفة المصفى الحالية زادت على ستة مليارات، والغريب أنه لم يعمل حتى الآن، وكان من المقرر أن يبدأ إنتاجه بداية عام 2021، في أسوأ الأحوال، ويعزو الخبير النفطي ذلك إلى أن المصفى تعرّض للفساد مرتين، الأولى بزيادة تكاليفه، والثانية بتأخير إنتاجه، لأنه سيقلل استيرادات البلاد من المشتقات النفطية.
فساد قطاع الكهرباء
يُعدّ قطاع الطاقة والكهرباء من القطاعات الحيوية الأكثر تعقيداً بصناعته وتخصصه، والأكبر في استثماراته والأكثر تفاعلاً وارتباطاً مع المواطن وحاجاته. ويرى الدكتور كريم وحيد، وزير الكهرباء الأسبق أن القطاع أيضاً يُعدّ الأكثر تعرّضاً لضغوط سياسية داخلية وإقليمية مما جعله الأكثر هشاشة على مستوى الأمن القومي والمحور الرئيس في تقييم أداء الدولة والنظام السياسي، مما استوجب إعداد خطة بمرحلتين لإعادة بناء قطاع الكهرباء، الذي تضرر معظمه في حرب الخليج الثانية واستُكمل تدميره خلال فترة الحصار التي امتدت 13 عاماً.
إزاء هذا الواقع المدمر لهذا القطاع، فإن مهمة إصلاحه تبدو متعثرة نتيجة فشل الإدارات المتعاقبة ونوع النظام السياسي الذي سمح بسيادة الطائفية والقومية على حساب الوطنية العراقية الجامعة، وإنتاج دويلات مدن هدفها تعظيم مواردها الاقتصادية والسياسية على حساب الدولة.
كريم وحيد يقول لـ”اندبندنت عربية” إن القطاع الاستثماري في الكهرباء سياسي وفاسد وليس اقتصادياً، بل سيسهم في انهيار الاقتصاد في العراق كونه أصبح مورداً لدويلات المدن الطائفية القومية، على حساب النظام الوطني، منوّهاً بأن الدستور يجب أن يكون الخطوة الأولى في تغيير نوع النظام، كونه المظلة التي تحمي تشكيلات اللادولة.
المحاصصة باب للفساد
مستشار رئاسة الوزراء مظهر محمد صالح يوضح لـ”اندبندنت عربية” أنه يرى في المحاصصة السياسية باباً واسعاً لتفشي ظاهرة الفساد، بسبب قدرتها على توفير حالة عرفية من الانسجام والتعادل في تحجيم دور الجهاز الرقابي، عن طريق إضعاف حوكمة نظام الدولة، عبر الأسلوب “المحاصصاتي” في التعاطي مع مراكز القرارات، إذ يبيح هذا التشكيل السياسي التوفيقي قدراً من الانسجام في اختراق القانون وانحراف المال العام في مسالك تسوّغها الحصانات المتبادلة.
يضيف المستشار الاقتصادي الأول لرئيس الحكومة العراقية: “دور الدولة الموازية وتأثيراتها مع قوى المحاصصة السياسية في تسويغ التصرف أو الهدر أو الاستيلاء على المال العام، هو الدور الأخطر والمهدد لسلامة العقد الاجتماعي، فالدولة اليوم تعاني من قوى اللادولة التي يتحدث عنها المثقفون العراقيون والمتخصصون في العلوم السلوكية، التي هي وسائل متشابكة من الأدوات، تنخر في جسد الدولة وتنهب موازناتها لمصلحة قوى سياسية خارج السيطرة الحكومية”.
مزاد العملة سرقة بالقانون
من بين المنافذ المباشرة الأخطر في الاستحواذ على العملة الصعبة التي ترِد للعراق، ما يُسمّى بـ”مزاد العملة” الذي يسبب هدراً يومياً، في سابقة لم تشهدها الدولة منذ تأسيسها عام 1921. يقول الدكتور مظهر محمد صالح، الخبير الاقتصادي إن نافذة العملة الأجنبية نتاج لتطبيق الليبرالية الجديدة في البلاد بعد عام 2003، حيث أُلغيت دائرة الرقابة على التحويل الخارجي في البنك المركزي، وحلّت محلها دائرة مكافحة غسل الأموال وأموال الجريمة والإرهاب، وعليه بات التحويل الخارجي عبر النافذة المركزية أو المزاد حراً طالما أن الدينار مغطى بالعملة الأجنبية 100 في المئة.
يضيف صالح: “التحويل الخارجي بات غير مقيد، وهذه العملية تسببت في هدر مستمر للعملة الصعبة بالدولار والعملات الأجنبية، وانتفاع غير طبيعي للبنوك والمصارف التي تحوّلت سوقاً للمضاربات، وباتت واجهات للميليشيات والأحزاب الحاكمة، لتشكل المنفذ الرئيس للسيطرة على الدولار، والهيمنة على السوق والتجارة وإدامة عجلة الفساد بوتيرة يومية”.
الفساد “ثقافة”
رئيس مركز التفكير السياسي في العراق الدكتور إحسان علي الشمري يرى أن “الفساد في البلاد تحوّل من ظاهرة مرفوضة إلى ثقافة عامة وسلوك لقوى السلطة، وعمقت هذه الثقافة طبيعة الهيمنة على كل مؤسسات الدولة وأثّرت فيها بشكل كبير، لذلك لا يمكن النظر إلى الأحزاب الحاكمة إلا على أنها مساحة فساد حتى في برامجها الانتخابية، وهي تحاول صبغ جميع الدولة ومؤسساتها بالفساد، بالتالي تحوّل الفساد بحكم هذه الرعاية من الأحزاب إلى (دولة رديفة) هي مَن تتحكم بكثير من المفاصل”، مستدركاً: “أصبحت دولة الفساد مدججة بالسلاح والمنظرين وبمن يحميها”.
الشمري يحمّل مسؤولية الفساد كلّياً إلى الأحزاب السياسية، على اعتبار أنها من كرّسته، على الرغم من أن الظاهرة ليست وليدة ما بعد 2003، لكن استشراءها بعد ذلك التاريخ، جعل الطبقة السياسية مسؤولة عن الانهيار نتيجة الفساد، مشيراً إلى أن غالبية القوى والأحزاب السياسية متورطة بعمليات النهب وهدر المال العام، وهناك من استغل بعض الرؤى الدينية ضد الدولة، بأنها ظالمة، وهناك أيضاً من استغل ثقافة قديمة، فبات من يتحكّم بالدولة يؤسس لظاهرة اسمها “ثقافة الفساد”.
المصدر: اندبندنت عربية