لدى واشنطن العديد من الخيارات الجيدة لتجنب الانهيار الاقتصادي لـ «إقليم كردستان» وتحويل النزاع الداخلي حول شؤون الطاقة في العراق إلى فوز صافٍ لجميع الجهات الفاعلة، لكن على الولايات المتحدة متابعة ذلك بسرعة.
تسبب القرار الصادر عن “المحكمة الاتحادية العليا” في العراق الشهر الماضي والذي قضى بإلغاء القانون الذي يحكم صادرات النفط والغاز الطبيعي من «إقليم كردستان العراق»، ببلوغ خلافات مكبوتة منذ عدة عقود حول الطاقة ذروتها. فقبل سنوات، كان الدستور الذي طُّبق ما بعد عهد صدام قد كرّس بشكلٍ فضفاض قيام «إقليم كردستان» شبه المستقل استناداً إلى واقعين أساسيين: الأول أن الأكراد في الشمال كانوا يتمتعون بحكم ذاتي منذ أن طردوا قوات النظام الاتحادي في عام 1992، والثاني أنهم كانوا بحاجة إلى محفزات وضمانات قبل تنازلهم عن جزء من هذا الحكم الذاتي وعودتهم إلى الاندماج مع بغداد. ومع ذلك، فقد ثبت أن تفسير المواد المتعلقة بالطاقة وتقاسم العائدات في الميثاق (المواد 110 و112 و115) كان مثيراً للجدل بشدة، مما دفع «إقليم كردستان» إلى المضي قدماً في إقرار قانون خاص به للنفط والغاز في عام 2007، والذي قدّم بدوره الأساس للعديد من عقود تقاسم الإنتاج مع مستثمرين دوليين.
وفي ظل غياب قانون إطار عمل اتحادي للموراد الهيدروكربونية وقانون لتقاسم العائدات يتماشى مع قانون الطاقة الصادر عن «إقليم كردستان»، رفضت بغداد منذ فترة طويلة الاعتراف بهذه العقود أو بحق الإقليم الأوسع نطاقاً في تصدير النفط بنفسه. وكانت الجهود الاتحادية السابقة للّجوء إلى القانون قد ركزت بشكل أساسي على حملة طويلة وغير حاسمة في “غرفة التجارة الدولية” حيث قامت بغداد بتوجيه تركيا إلى التحكيم بسبب تسهيلها هذه الصادرات. لكن مع صدور القرار في شباط/فبراير، أصبح بيد الحكومة الاتحادية الآن حكماً ملزماً من “المحكمة الاتحادية العليا” - قرار يعلن عدم دستورية قانون الطاقة في «إقليم كردستان» لعام 2007، وينقل حقوق تسويق النفط إلى بغداد، ويقضي بوضع كافة عقود تقاسم الإنتاج تحت رقابة السلطة الاتحادية عبر وزارة النفط.
ولطالما شكك «إقليم كردستان» في دستورية سياسة الحكومة العراقية الخاصة بالنفط وسلطتها القضائية. ومع ذلك، فبغض النظر عن مبررات هذه الحجج، تعتبر بغداد ومعظم المراقبين الدوليين الآن قرار “المحكمة الاتحادية العليا” ملزماً ونهائياً. ولن يؤدي تجاهل هذا القرار – وهو ما يبدو أن «إقليم كردستان» يعتزم فعله من خلال عدم مشاركته في المفاوضات مع بغداد – إلّا إلى تفاقم الوضع.
وبدلاً من ذلك، يتعين على الأكراد الانخراط مع اللجان الثلاث التي شكّلتها بغداد لتناول مختلف جوانب القرار. وإذا سلكوا هذا الطريق، فبإمكان بدء عملية تسوية الخلاف. أما إذا رفضوا التعاون، فسيضطر المسؤولون الاتحاديون إلى تطبيق القرار كما هو، لأنهم إذا لم يفعلوا ذلك سيواجهون تهديداً حقيقياً للغاية من خلال تعرضهم لهجمات من قبل الميليشيات المدعومة من إيران، أو تتمّ ملاحقتهم جنائياً، أو عزلهم من مناصبهم. وقد يؤدي تطبيق القرار إلى صدور أمر قضائي ضد أي تجار نفط، وشركات شحن وتأمين واستخراج تتعاون مع السلطات الكردية.
مصالح الولايات المتحدة على المحك
للولايات المتحدة وشركائها الدوليين مصلحة استراتيجية واضحة في منع حصول مثل هذا التعطيلٍ ومساعدة العراق على تسوية خلافاته المتعلقة بالطاقة بشكلٍ نهائي. فعلى المدى القريب، لا يرغب أي من هؤلاء الشركاء في تراجع إمدادات النفط في السوق بنحو 500 ألف برميل يومياً وسط الحرب الأوكرانية-الروسية، لكن هذا ما سيحدث على وجه التحديد إذا توقفت بغداد و «إقليم كردستان» عن تقاسم البنية التحتية لخطوط أنابيب التصدير بين شمال العراق والموانئ التركية. وقد يلحق ذلك ضرراً كبيراً أيضاً بالمخططات الناشئة لـ “الإقليم” لإنتاج الغاز والتي من المقرر أن ترتبط بالخطوط التركية والأوروبية في عام 2023. وقد أصبحت هذه الخطة أكثر إلحاحاً الآن في ظل مواجهة “الاتحاد الأوروبي” خطر قيام روسيا بقطع إمداداتها من الغاز.
وفي غضون ذلك، هناك الآن قَرْضان حصل عليهما «إقليم كردستان» بشق الأنفس من “مؤسسة تمويل التنمية الدولية الأمريكية” قد أصبحا في خطر. فيمكن أن تؤدي هذه العرقلة، إلى جانب الأوامر القانونية الأوسع نطاقاً ضد تدفقات النفط وأنشطة الصيرفة الكردية إلى انهيار اقتصاد «إقليم كردستان» بسرعة، واندلاع أزمة إنسانية جديدة يذهب ضحيتها خمسة ملايين مقيم ومليون نازح مما يؤدي إلى تدفق أعداد إضافية من اللاجئين نحو تركيا وأوروبا. كما قد تعقّد مسألة التحكيم بين العراق وتركيا أمام “غرفة التجارة الدولية”.
توصيات في مجال السياسة العامة
بالنظر إلى هذه المخاطر، يتعين على الولايات المتحدة والأطراف الأخرى التدخل بسرعة وبمهارة، أولاً من خلال محاولة إدارة الأزمة التي سبّبها قرار “المحكمة الاتحادية العليا” بطريقة بنّاءة، ومن ثم من خلال مساعدة بغداد وأربيل على التوصل إلى تسوية راسخة، ولو بخطى بطيئة، من خلال الحوار. وفي ردّها الأولي، لم تعتبر الولايات المتحدة المسألة ملحةً – وقد اتخذت واشنطن جميع الخطوات الصائبة لحث المسؤولين والمصارف على التعاون، لكنها لم تقرّ بإمكانية حدوث انهيار فعلي. وكما حصل عندما أعربت الحكومة الأمريكية في نهاية المطاف عن أسفها إزاء تقليلها من شأن فشل الاستفتاء الكردي عام 2017 والخلاف على كركوك، ثمة مخاطر كبيرة بأن تؤدي المشاحنة التي تبدو مبطنةً في “المحكمة الاتحادية العليا” إلى تداعيات غير متوقعة. فقد ينغمس قسم كبير من العراق في أزمة اقتصادية حادة، كما قد يندثر نموذج الدولة الاتحادية المطبّق في البلاد بوساطة أمريكية بشكلٍ مفاجئ ومزعزِع للاستقرار.
من الضروري على المسؤولين الأمريكيين أن يدركوا أيضاً أن توقيت هذه الأزمة من صنع طهران والميليشيات الحليفة لها. فالتدخل الإيراني هو التفسير المقبول على نطاق واسع وراء القرار المفاجئ لـ “المحكمة الاتحادية العليا” بعدم دستورية صادرات الخام الكردية في خضم عملية تشكيل الحكومة العراقية الحساسة، بعد عدم التطرق إلى القضية لما يقرب من عقد من الزمن. وكما كان الحال في الأزمات السابقة، قد يكون التوقيت مقصوداً جزئياً لاختبار نشاط الولايات المتحدة وسرعة استجابتها. فمن خلال إحداث شرخ بين شركاء أمريكا الأكراد والعرب في العراق، تأمل طهران بلا شك في عرقلة عمل حكومة الأغلبية الناشئة ومتعددة الطوائف، وتمكين الميليشيات الشريكة لها بشكل أساسي من قلب الخسائر التي مُنيَت بها في انتخابات العام الماضي رأساً على عقب. ولا تزال هناك فرصةً تاريخيةً لإحراز تقدم في العراق، إلا أنه تتم معاقبة «إقليم كردستان» لمحاولته اقتناص هذه الفرصة في وجه المعارضة الإيرانية.
ووفقاً لذلك، على الحكومة الأمريكية تطبيق الخطوات التالية بسرعة إن لم تكن قد فعلت ذلك أساساً:
زيادة التركيز على القضية بين الوكالات. بما أن “مجلس الأمن القومي الأمريكي” هو الطليعة الرائدة في مبادرة سياسية أوسع نطاقاً بين بغداد و «إقليم كردستان»، يجب أن يعقد اجتماعاً لتنسيق السياسة بشأن القضية العاجلة المتمثلة في الحفاظ على صادرات النفط من شمال العراق.
تشكيل مجموعة تواصل دولية تضم دولاً ذات تفكير مماثل. على البعثات الأمريكية في بغداد وأربيل إنشاء مجموعة عمل أو الانضمام إلى مجموعات العمل الدبلوماسية والاقتصادية المتمركزة في أربيل، من أجل تنسيق إجراءات الشركاء عبر الأطلسي والشركاء الآسيويين في توجيه المحادثات بين بغداد و «إقليم كردستان» للخروج بحل يصب في مصلحة الطرفين.
طمأنة الأكراد بشأن المشاركة. يخشى المسؤولون في «إقليم كردستان» من أن الانخراط العلني مع بغداد بشأن القضايا المتعلقة بـ “المحكمة الاتحادية العليا” سيرسّخ قرارها الصادر في شباط/فبراير ويقوّض حججهم الدستورية القائمة منذ فترة طويلة. لذلك على واشنطن ومجموعة التواصل الدولية المذكورة أعلاه طمأنة الأكراد بشدة بأنهم إذا انخرطوا مع بغداد قريباً، فستحظى العملية باهتمام الدول الأجنبية ووساطتها. يجب توضيح الجوانب السلبية للماطلة في التعاون مع “المحكمة الاتحادية العليا” (على سبيل المثال، إصدار أوامر قضائية تحظر صادرات النفط الكردية)، ومقارنتها بالجوانب الإيجابية في التنفيذ التدريجي لقرار المحكمة فور بدء الحوار بين بغداد و «إقليم كردستان».
توفير الدعم الفني بشأن دمج القطاع. على مجموعة التواصل بقيادة الولايات المتحدة مساعدة بغداد وأربيل على التفكير بشكل أسرع وأكثر وضوحاً حول إيجاد آليات تبدد معظم مخاوفهما بشأن التسويق المشترك، وامتصاص الحكومة الاتحادية لديون تجار النفط في «إقليم كردستان»، وإدارة بغداد لعقود النفط التي أبرمها الإقليم. وفيما يتعلق بمسألة الديون، قد تتمكن المؤسسات المالية الأمريكية أو الدولية من تقديم المساعدة من خلال توفير قروض ميسّرة.
تشجيع الحدّ من مخاطر العقوبات المفروضة على روسيا. يمكن لمجموعة تواصل بقيادة الولايات المتحدة توفير الدعم الفني والمالي لمساعدة «إقليم كردستان» على حماية بنيته التحتية لتصدير النفط المملوكة بنسبة 60٪ لإحدى الوحدات التابعة لشركة “روسنفت”، والتي من المحتمل أن تكون معرضة بالتالي للتأثر بالموجة الأخيرة من العقوبات الدولية على روسيا.
تحويل التدابير الطارئة إلى حوار جديد مهم قائم على المساومة. لا بدّ من بذل كافة الجهود المذكورة أعلاه مع التركيز على الهدف طويل الأجل المتمثل في إيجاد حل دائم للخلافات الرئيسية بين بغداد و «إقليم كردستان» من خلال قانون إطار عمل اتحادي بشأن المواد الهيدروكربونية، وقانون لتقاسم العائدات، ومشاريع أمنية وإدارية إضافية مشتركة على طول الحدود الداخلية المتنازع عليها. ويمكن الاستفادة من النجاحات المحققة مؤخراً، على غرار تشكيل “فرق أمنية مشتركة” على طول الحدود، لتنفيذ هذه المشاريع. وأخيراً، تشكّل مساعدة العراق على إحلال سلام دائم مع أكبر أقلية عرقية في البلاد تحسّناً تحوّلياً يمكن للولايات المتحدة وشركائها المساعدة في تحقيقه ويجدر بهم المساهمة في ذلك.
مايكل نايتس هو “زميل برنشتاين” في معهد واشنطن وأحد مؤسسي منصة “الأضواء الكاشفة للميليشيات” التابعة للمعهد.
المصدر: معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى