لم تفاجئ تغريدة مقتدى الصدر، بعدم حضور جلسة البرلمان لانتخاب رئيس الجمهورية، المتابعين للشأن العراقي بمختلف مستوياتهم. فمقتدى وحلفاؤه مثل مسعود البرزاني ومحمد الحلبوسي نتاج ذات المستنقع الاسن، المسمى بالعملية السياسية، مثلهم مثل الحلف الاخر الذي يضم نوري المالكي وهادي العامري وعمار الحكيم وغيرهم. وبات مفهوما ان مهمة وطنية بحجم استعادة العراق المنهوب، لن يقدم على انجازها مقتدى او غيره حتى إذا صدقت النوايا. لأسباب كثيرة. في الصدارة منها ان تشكيل الحكومة في العراق ليس بيده او بيد غيره، وانما بيد أمريكا وإيران. وهذا هو التفسير الوحيد لعدم حضور هؤلاء الأشرار للبرلمان لانتخاب رئيس للجمهورية. فبدون انتخابه لا يمكن تشكيل حكومة مهما كان نوعها او شكلها. وبالتالي ستبقى هذه العصابات بانتظار الاتفاق الأمريكي الإيراني على تسمية رئيس للجمهورية ورئيس الحكومة، وعلى توزيع المناصب وسرقة المال العام وتدمير العراق دولة ومجتمعا.
ومن الطريف في هذا الخصوص، ان السفيرين الأمريكي والإيراني في بغداد لا ينكران ذلك. حيث يجري التدخل بتشكيل الحكومة في وضح النهار، او كما يقال باللهجة العراقية على عينك يا تاجر. اما أحد أبرز زوار الفجر هذه الأيام، إسماعيل قاءاني قائد الحرس الثوري الإيراني. فهو لا يكتفي بالتدخل، وانما يصدر أوامره الى هذه العصابة او تلك. هذه هي الحقيقة ودعكم من القيل والقال عن الصراع الدائر بين هؤلاء الأشرار. فنحن بصدد مسرحية نمطية يتم عرضها في كل مناسبة من هذا النوع.
ان مؤلف هذه المسرحية هو المحتل الأمريكي نفسه. وهذا ليس راي أعداء العملية السياسية، وانما يقره احبابها. بل ان العديد من الكتاب والخبراء الأجانب ومنهم امريكان، قد تطرقوا لهذه المسرحيات. فعلى سبيل المثال يذكر الصحافي الأسترالي فيليب ناتلي في عدد من المقالات التي نشرها في جريدة الاندبيندت، ان زرع الديمقراطية من قبل أمريكا في العراق، او محاولة ايهام الناس بالإصلاح وإعادة البناء، مسائل لا تمت بصلة الا الى أفكار رعناء تحاول أمريكا من خلالها تبرير الجرائم التي ارتكبتها بحق هذا البلد، والتستر على علاقاتها الخاصة مع الأحزاب التي تنصبها لإدارة شؤون البلد المحتل.
في حين يؤكد جيمس فالوز الصحفي الأمريكي عضو الاكاديمية الامريكية للفنون والعلوم، على السبب الذي دعا أمريكا الى حل الجيش العراقي، وبناء جيش له ولاءات طائفية ويحدده بترسيخ ما يسمى الفوضى الخلاقة في العراق. اما الصحفي الاخر روبرت بابي فانه يقول بصراحة، ان وزير الدفاع دونالد رامسفيلد أراد من هذا الجيش مواجهة المقاومة العراقية حينها، او الانتفاضات الشعبية سواء كانت سلمية او مسلحة. مثلما هو جوناثان كلارك وهو مؤرخ بريطاني، فانه يلخص ادعاءات الإصلاح والبناء بالسعى الى نزع صفة أمريكا المحتلة واظهارها بالمحرر، الذي يسعى الى تخليص العراق من الدكتاتورية وتحقيق الديمقراطية والتقدم والرخاء. ويشارك هؤلاء في هذا الراي عدد كبير من الكتاب والصحفيين الأجانب، مثل الخبير العسكري وليم آدم وصموئيل جونسون والمؤرخ التركي كمال كرمان والخبير المشهور مايكل وهائلون وغيرهم.
اما عملية الخداع والتضليل لقلب الحقائق من قبل أمريكا او من قبل أي محتل في العالم. فقد تحدث عنها كبار العقول العسكرية والسياسية في العالم. وذهبت الى ان الشعوب التي تقع تحت نير الاحتلال، لا يمكن اجبارها على القبول به كأمر واقع عبر استخدام القوة لوحدها، وانما يحتاج ذلك الى تقديم حزمة من المشاريع والمغريات والحوافز والرشوة. وبصرف النظر عن عدم صحة هذا المذهب، كون الشعوب لا تقبل بالاحتلال، حتى لو تحول البلد في ظله الى جنة عدن تجري من تحتها الانهار، فان المحتل عبر العصور المختلفة قد اتخذ من هذه الوصايا دليلا له، وسار على هديها. لكن للشعوب بالمقابل وصايا أخرى تسير على هديها، الا وهي وصايا الثورة ضد هؤلاء الأشرار.
على ارض الواقع، فان شعارات الإصلاح والبناء كذبة كبيرة بامتياز. ومضمونها شبيه بحكايات جدتي قبل النوم. أي حكاية من اجل ان ينام العراقيون على ما فيها من امال واحلام وردية. حيث أصبح الإصلاح لازمة لكل التحالفات التي يشكلها هؤلاء الاشرار، لما لهذه الكلمة من سحر في وجدان الناس، جراء حجم الفساد الهائل الذي عم العراق من شماله الى جنوبه، وتسبب في كل الويلات والماسي التي تعرض لها الشعب العراقي طيلة سنين الاحتلال العجاف.
اما ديباجة الإصلاح فهي ماركة مسجلة، وخاصة فيما يتعلق بالشعارات الرنانة. حيث تبدأ بالحديث عن التحديات الكبيرة والخطيرة التي يتعرض لها العراق وضرورة مواجهتها، مرورا بالعمل على تقوية مؤسسات الدولة وتطبيق القانون وتعزيز قدرات القوات المسلحة والاجهزة الامنية والقضاء على الفساد والطائفية، وانتهاء بالتغني بالوطن والاستقلال والسيادة وتطبيق القانون. وبالتالي فان ما يبشر به مقتدى وحلفاؤه، او نوري المالكي واطاره حول امكانية الاصلاح، مجرد كذبة كبيرة واستخفاف بعقول الناس.
فعلى سبيل المثال لا الحصر نضرب مثلا بكذبة نزع سلاح المليشيات. فحتى ان صدقنا هذه الكذبة، لن يتغير شيء في ظل الطائفيين والفساد المستشري في جميع مؤسسات الدولة ودوائرها. بمعنى اخر فان “المصلح” مقتدى لو نزع سلاحها فعلا، ترى ماذا عن الانتماء الطائفي والعرقي لهذه المليشيات التي تسيطر على الوزارات التي هي مستودع للأسلحة، مثل الدفاع والداخلية؟ هل سيتم اجتثاثها من تلك الوزارات؟ ام ان مقتدى سيجرد هذه الوزارات من اسلحتها؟ اليس بإمكان هذه المليشيات ان تسلم سلاحها بهذه اليد وتستلمه باليد الاخرى من تلك الوزارات؟
اما المليشيات الكردية؟ فهي أصبحت جيشا نظاميا واخرجت من خانة المليشيات المسلحة، وحتى إذا حلت نفسها من باب المجاملة للمليشيات الاخرى وسلمت اسلحتها، فهل من الصعب عليها الاتيان بأضعاف اضعافها والاقليم يعيش خارج رقابة السلطة المركزية؟ اذن المشكلة ليست بحل المليشيات ولا بالإصلاح، وانما بوجود الاحتلال وعمليته السياسية. فهذا المارد الطائفي والعرقي والتقسيمي الذي أطلقه الاحتلال، سيظل مرفوع الراس ولن يعود الى قمقمه الا بزوال الاحتلال والعملية السياسية برمتها.
باختصار شديد، لا اصلاح بدون إسقاط الحكومة وتقديم هؤلاء الأشرار الى المحاكم العادلة وكتابة دستور جديد بعيدا عن اطراف العملية السياسية، وابعاد المؤسسة الدينية عن التدخل في السياسة، واستعادة اموال العراق المنهوبة ومحاكمة اللصوص والمسؤولين وتشكيل مجلس قضاء جديد مستقل والغاء المحاصصة في الدولة وحل المليشيات المسلحة. اضافة الى تأسيس جيش عراقي جديد بعقيدة جوهرها الدفاع عن الوطن وحماية المواطن وحل الأجهزة الأمنية، التي مارست القمع والقتل ضد المواطنين وتشكيل اجهزة أمن جديدة عقيدتها الجوهرية حماية المواطن وليس الدفاع عن السلطة.
أدرك العراقيون وفي مقدمتهم ثوار تشرين هذه الحقيقة. وتأتي قيمة هذا الادراك اقترانه بالصمود الاسطوري بوجه القوة العسكرية الغاشمة، او بوجه وسائل الخداع والتضليل، الامر الذي يمنحهم القدرة على مواصلة الثورة رغم تراجعها. خاصة وان الوقائع اثبتت، بان منح مزيد من الفرص او الوقوف في خانة الانتظار او المراهنة على هؤلاء الأشرار، لم يجلب سوى مزيد من الفساد واللصوص ومزيد من الجوع والمرض وانتشار أنواع المخدرات ومختلف العصابات والمافيات.
لدى العراقيين اليوم قناعة راسخة، بان هؤلاء الأشرار وأفعالهم المشينة وضعوا العراق امام خيارين. اما عراق سيد حر يعود لمجتمعه ليبني نفسه على أسس وطنية جامعة، أحزابه وطنية؛ وقيادته وطنية؛ وكل شيء فيه عراقي الهوى والهوية. واما عراق مغلول اليد والعنق والقدم، تنهشه المليشيات وتتكالب على نظامه. عراق ممزقٌ على أسس طائفية، وكل شيء يسبح في مستنقعها، ويُسبّح بحمد عمائمها الهمجية. وثورة تشرين هنا اختارت العراق الوطني الحر ووضعت طريق الوصول اليه، المتمثل بأسقاط العملية السياسية برمتها. وحين يختار العراقيون الثورة فانهم ينطلقون من شعور وطني نقي، واحساس عميق بالتفاؤل. هذا الشعور الوطني تسنده تضحيات سنين طويلة، دفع فيها هذا الشعب العظيم من اجل حريته ثمنا لم يدفعه أي شعب على وجه الأرض، والمقارنات الحسابية تشهد بذلك. اما التفاؤل فتسنده كل تجارب التاريخ التي تقول، ان الغزاة وحكوماتهم العميلة لا ينتصرون، وللعراقيين حساب طويل مع هؤلاء الأشرار. فما ارتكبوه من جرائم ضد العراق الجريح يفوق ما يحلم به الصهاينة.
ختاما ليس لدى العراقيين مشكلة مع هؤلاء الاشرار من قبل، وانما تكمن المشكلة بمجيئهم مع المحتل ليضربوا بمعوله هدما بالوطن، وليقوموا عراقا على شاكلتهم. وقد هدموا عراقنا بما يكفي. الامر الذي سيدفع بثوار تشرين الى مواصلة الكفاح من اجل كنسهم، لا مصالحتهم او القبول بهم او منحهم فرصة تحت اية ذريعة كانت. أما الغزاة فقد اثبتوا في كل ما فعلوه انهم مجرمون، مهما كانت الذرائع التي ساقوها لتبرير وحشية افعالهم المشينة. وعلى هذا الأساس ليس مجازفة القول، بان الموجة الثالثة لثوار تشرين اتية لا ريب فيها، وان من يعتقد من العملاء واتباعهم ومريديهم، بان ثورة تشرين انتهت لهو في ضلال مبين.
المصدر: كتابات