ما زالت في الذاكرة أزمة بنك إنترا في ستينات القرن الماضي، وما زالت في البال أصداؤها التي ترددت في حروب السبعينات والثمانينات الاهلية. واجه النظام اللبناني الذي لم يكن يومها قد تجاوز مرحلة التأسيس، أول إختبارٍ وأصعب تحدٍ، تسببا بأسوأ عملية إستنفار سياسي محلي، و أوسع عملية إستقطاب خارجي.. خرجت المصارف منها بالكثير من الارباح وأوراق القوة والنفوذ، ومنيت فيها القوى السياسية بالكثير من الخسائر والاضرار، والمزيد من الارتهان للخارج، الذي دخل بقوة الى العمق اللبناني، ولم يغادره إلا مؤخراً.
الاحالة الى تلك الازمة، بوصفها شرارة حرائق إمتدت الى مختلف الارجاء اللبنانية، وإستدعت معظم القوى الخارجية المؤثرة في حينه، وظلت بعض آثارها حاضرة حتى يومنا هذا، تفترض ضمناً مقارنة (مصطنعة؟) بينها وبين الازمة المالية _البنيوية التي يعيشها النظام اللبناني، والتي تهدد بقاء الدولة ومؤسساتها كافة، وإستقرار المجتمع وقدرته على مواجهة خطر التفكك وربما الزوال..من دون أن تلوح في الافق معالم تدخلات خارجية، غير تدخل صندوق النقد الدولي المعني وحده، بأن يصدر شهادة حسن سلوك للسلطة، تؤهلها للمضي قدما في مسعى الحفاظ على معالم الجمهورية ورموزها.
المصارف هي الشرارة مرة أخرى، والحرائق أكبر من السابق، لكن النتيجة لا تشي بأن ثمة مصرفاً أو أكثر سيعلن الافلاس أو الاقفال.فالتواطؤ الذي نسجته مع القوى السياسية، والرشاوى التي دفعتها لشريحة واسعة من المودعين، الكبار والصغار على حد سواء طوال العقدين الماضيين، كفيلة بتجنيبها الكأس المرّ، وحصر المسؤولية في السياسيين الذين فشلوا في إنتاج صيغة متوازنة بين جبايات الحرب الاهلية، وبين متطلبات مرحلة السلم الاهلي، وتعاملوا مع اتفاق الطائف بإعتباره صندوقاً أسود لتقاسم المغانم.
إقفال هذا الصندوق ما زال صعباً إن لم يكن مستحيلاً، من دون بديل للطائف، لا يمكن أن تنتجه القوى نفسها التي وقعت عليه واستفادت منه، ومن دون إكراه شعبي (أو حتى خارجي) بأن الامور اللبنانية ليست على ما يرام، ولا من تغيير المسار والبحث بجدية عما يتجاوز وقائع الحرب الاهلية وذكرياتها وإفرازاتها. المؤتمر التأسيسي الذي يحكى عنه بين الحين والآخر كلما إنسدت آفاق عمل مؤسسات الدولة هو بمنزلة الوهم الخالص، بدليل الدعوات المتكررة الى جلسات حوار وطني، لم تنعقد، أو إقتصرت على جلسات تحضير أرواح.
مثل هذا الوهم لا يعترف صراحة بالقوى-الطوائف الأكثر تضرراً من الازمة المالية والاقتصادية الراهنة، ولا يلمح الى الخسائر السياسية التي يفترض ان تتعرض لها تلك القوى، على غرار ما حصل في أعقاب ازمة بنك انترا التي انهت التجربة الشهابية بوصفها أول مشروع مسيحي-ماروني لبناء دولة إلتقاء وإحتواء لبقية الطوائف. ما الذي ينتهي هذه الايام: “طائف” السنة والشيعة، الذي عجز عن وراثة الشهابية، وبنى مسخاً عجيباً، يشهد الجميع إحتضاره الآن ، أم “طائف” الموارنة الذي أخفق في إقناع الجمهور المسيحي بمواده المرتجلة، والذي لم يقدم حتى اليوم سوى هلوسات عن الفيدرالية والقومية اللبنانية، أو عن الدولة القوية ، الذي ليس لها أثر، حتى بمحاربة الفساد، وهو أضعف الايمان، وأدنى مظاهر وجود “النظام”.
أي نظام سياسي سيولده الانهيار الحالي: السؤال لا يطرح على السنة الذين يشعرون باليتم الشديد والضياع الاشد والفقر الاسوأ، ولا على الشيعة الذين يختتمون مغامرة الانقضاض على فكرة الدولة ومصادرتها، بكارثة لم يسبق لها مثيل، ولا الموارنة الذين يشارفون على التسليم بأن الوقت قد فات على تقديم عرض جديد لبناء دولة “قوية” بمؤسساتها الراسخة لا بصفاتها الزائفة.
من صندوق النقد الدولي وحده، قد يأتي الخلاص السياسي هذه المرة: على غير عادته في إنقاذ الانظمة وإفقار الشعوب، يمكن، بل يتوقع، أن تكون شهادة حسن السلوك المنشودة من الصندوق، في خطة التعافي الاقتصادي العتيدة، علامة أولى على البدء بمسار طويل يؤدي في نهاية المطاف الى قيام نظام سياسي جديد في لبنان؟
المصدر: المدن