أوحى موقف رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الذي أعلنه من قصر بعبدا قبل أيام أنه حسم أمره وقرّر المضي في دعوة مجلس الوزراء إلى الانعقاد بعد تريّثه طويلاً منذ الثاني عشر من تشرين الأول/أكتوبر الفائت لئلا يُحدث تعقيداً إضافياً ومزيداً من الانقسامات والشرخ في صفوف الحكومة، نتيجة القرار المعروف للثنائي الشيعي بالامتناع عن المشاركة ما لم تُعالج قضية تنحية المحقق العدلي القاضي طارق البيطار عن ملاحقة الوزراء السابقين في ملف تفجير مرفأ بيروت.
وقد أعطى الرئيس ميقاتي وقتاً طويلاً للاتصالات حول الدعوة إلى جلسة لمجلس الوزراء على الرغم من إلحاح رئيس الجمهورية ميشال عون على الدعوة إلى عقد مثل هذه الجلسة ولو تمّت مقاطعتها، وتفهّم ميقاتي هواجس الثنائي الشيعي وأبدى انفتاحه على النقاش حول مطالبه وعدم استفزاز هذه الشريحة سعياً للمّ الشمل الحكومي وعدم إحداث أزمة إضافية، شارحاً موقفه أكثر من مرة حول ان «لا دخل للحكومة بهذا الملف القضائي» وتأييده أي قرار يُتخذ وفق الأصول الدستورية وانطلاقاً من مبدأ الفصل بين السلطات خصوصاً أن الدستور وجد لمنع التعطيل وأن القوانين وجدت لحل الخلافات. لكن رئيس الحكومة الذي تحمّل مرغماً التعطيل لأهم مؤسسة دستورية وتلقّى السهام على مضض حول قبوله بهذا الأمر الواقع، وصل إلى قناعة شخصية بأن الأمر بات يستلزم الحسم بعدما فعل ما يرضي ضميره وقناعاته الوطنية. ففي تقديره أن تعطيل الحكومة هو خلل بنيوي لا يمكن تجاهله أو التغاضي عنه، وإن مفاهيم الميثاقية عندما تتوسّع تصبح أداة غلبة وتسلّط.
وكان ميقاتي واضحاً في إعلانه بعد لقاء رئيس الجمهورية من أنه سيدعو مجلس الوزراء إلى الانعقاد عند استلام الموازنة، للنظر بها كونها المسألة الأهم في الوقت الراهن، قبل أن يباغته حزب الله بتصعيد النبرة ضد المملكة العربية السعودية والملك سلمان بن عبد العزيز بالتحديد، غير عابئ بالارتدادات السلبية على الوضع اللبناني. واستخدم أمين عام الحزب السيد حسن نصرالله «فائض القوة» في مخاطبة العاهل السعودي متجاهلاً مشاعر بقيّة المكوّنات السياسية ومصالح اللبنانيين العاملين في دول الخليج الذين وصفهم بـ «الرهائن» ومحاولاً الظهور مرة جديدة بمظهر المرشد الأعلى الذي يقرّر سياسات الدولة.
ولم يكن في ذهن حزب الله أن الرئيس ميقاتي المعروف بتدوير الزوايا وجهده للنأي بالنفس عن الخلافات سيلجأ إلى الرد الفوري على نصرالله الذي لم يتقبّل هذا الرد، لاسيما أنه تضمّن دعوة لحزب الله ليكون «لبناني الانتماء» الأمر الذي أغضب الحزب، فأوعز إلى نوابه للرد على رئيس الحكومة، فرفعوا مرة جديدة شعار «الكرامة والاحترام للوطن» مستغربين «التشكيك بولاءات جزء كبير من الشعب» وتمنوا «لو انتفض رئيس الحكومة لكرامة وطنه».
غبر أن ميقاتي لم يرتض لنفسه أن يكون متفرّجاً على الإساءة لعلاقة لبنان بأشقائه العرب وخصوصاً السعودية، ولذلك سارع إلى التأكيد أن كلام نصرالله لا يمثّل الحكومة اللبنانية، ولو كان يدرك أن ردّه سيستدعي حملة شعواء عليه من جانب الحزب.
وسيمضي رئيس الحكومة في تنفيذ قناعاته، وبعدما رفض «الصفقة» التي سعى إليها حزب الله بين الرئيس نبيه بري والتيار الوطني الحر للمقايضة بين المحقق العدلي وبعض التعيينات، فهو سيبادر للدعوة إلى جلسة لمجلس الوزراء فور تسلّم مشروع الموازنة ووضع الجميع أمام مسؤولياتهم، لأن إقرار الموازنة هو شرط يضعه صندوق النقد الدولي للتفاوض مع لبنان، وستصل بعثة من قبل الصندوق إلى بيروت في الأيام المقبلة للبحث المعمّق في خطة التعافي وفي تحديد وتوزيع الخسائر المالية. وإذا كان الثنائي الشيعي ما زال يرفض المشاركة في الجلسات، فإن ميقاتي يطرح مشاركة وزير المال يوسف خليل كوزير مختص أعدّ مشروع الموازنة ليشرحها في مجلس الوزراء ويقرّها ويحيلها إلى مجلس النواب، الذي وافق رئيس الجمهورية أخيراً على توقيع مرسوم فتح دورته الاستثنائية. لكن يبدو أن ميقاتي المتحمّس لدعوة مجلس الوزراء تحت عنوان مناقشة الموازنة سيخفّف قليلاً من عزمه، إذ فجأة قيل إن مشروع الموازنة ليس جاهزاً بعد ويحتاج إنهاؤه إلى بعض الوقت، وهذا ما يجمّد رغبة رئيس الحكومة إلى حين بعدما اعتقد أن فتح الدورة الاستثنائية للمجلس النيابي يمكن أن يسهم في تمرير جلسة حكومية وسط الأشواك السياسية.
وهكذا، فإن الرئيس ميقاتي سيطول انتظاره وتريّثه بعض الوقت تجنّباً للدخول في تعقيد أكبر لا تُحمَد عقباه، قبل أن يقرّر مغادرة مرحلة الانتظار لأنه لم يعد يقبل بتعطيل مجلس الوزراء في ظل هذا المنعطف الخطير الذي يحتّم معالجة الأزمة التي بلغت حداً غير مسبوق من الانهيار ومن ارتفاع سعر صرف الدولار. ويعتبر ميقاتي أننا أمام عام مصيري، وعلى أبواب أجراء انتخابات نيابية ورئاسية جديدة، ستعيد رسم المشهد السياسي الداخلي. لذلك يدعو إلى أخذ العِبَر من الأزمات والعودة إلى روحية الدستور كي تعود الحياة السياسية إلى انتظامها والمؤسسات إلى لعب دورها، بعيداً عن الاصطفاف المذهبي وبِدَع التعطيل.
وكان الرئيس ميقاتي يدرك صعوبة المهمة التي ستواجهه عندما وافق على تكليفه بالتأليف، لكنه قَبِل المهمة مستنداً إلى دعم فرنسي ودولي وإلى تجميع الطاقات الخارجية والداخلية وإلى إمكانية تخفيف آلام اللبنانيين والخروج من النفق، ولذلك يرى أن الوقت حان ليتحمّل الجميع مسؤولياتهم وإطلاق ورشة المعالجة، وهو يدعو من قَبل معه التحدي في حكومة «معاً للإنقاذ» إلى العمل معاً للحد من سرعة تفاقم الأزمة ومعالجة ما أمكن من ملفات طارئة.
المصدر:ـ «القدس العربي»