العراق الجديد يواجه أزمات على كل الجبهات فهل يعجل كورونا بانهياره؟

إبراهيم درويش

لا شيء يجسد الحالة العراقية أكثر من خلافات النخبة الحاكمة على تسمية رئيس للوزراء بعد استقالة عادل عبد المهدي في كانون الأول/ديسمبر وسط الاحتجاجات التي عمت العراق العام الماضي وأجبرها فيروس كورونا المستجد على التوقف أو تفكيك نفسها بانتظار رحيله والعودة إلى الساحات والمطالبة بنهاية الفساد الذي ينخر عظام الدولة العراقية منذ عقود. وبالضرورة نهاية المحاصصات الطائفية والحزبية التي أصبحت سمة “العراق الجديد” منذ الغزو الأمريكي عام 2003 وتسمية قادة منفيين ولاءاتهم متوزعة بين إيران وأمريكا. وهو ما يعيدنا لوصف الشاعر القديم عجز الخليفة يوما ما أو محنته “بين وصيف وبغا” وترديده ما يقولان له كما يقول الببغا. ولكن عراق اليوم هو رهين الإرادة الأمريكية والإيرانية التي انتعشت بسبب الغزو الأمريكي. وباتت طهران المتحكم في أي عملية سياسية في بغداد. وبهذه المثابة لا يمكن تسمية رئيس للوزراء بدون موافقتها، كل هذا رغم المشاكل التي تعاني منها الحكومة الإيرانية من العقوبات الأمريكية والاحتجاجات والانهيار الاقتصادي وتداعيات أزمة فيروس كورونا التي أساءت طهران وأخفت حجم انتشارها عن سكانها والعالم.

مشاكل كثيرة

وتبدو مشاكل العراق نسخة مطابقة عن جارتها إيران والدول الأخرى: غضب شعبي وانهيار في أسعار النفط بسبب حرب السعودية وروسيا، واقتصاد منهار وفساد ومواجهة إيرانية-أمريكية على أرضه واحتمالات عودة تنظيم “الدولة” الإسلامية. فقد ضرب فيروس كورونا العراق بعد خروجه من حرب مدمرة مع التنظيم. ومن هنا فخلاف الساسة على اختيار رئيس للوزراء يجسد مدى التناحر والخلافات داخل النخب السياسية حول الأفضل لديها والجارة إيران. وكان عنوان صحيفة “واشنطن بوست” (10/4/2020) لافتا ومعبرا: “إيران، الولايات المتحدة اتفقتا على آخر مرشح لرئاسة الوزراء، فهل يوافق العراقيون؟”.  وقالت الصحيفة إن قبول مدير المخابرات الوطنية مصطفى الكاظمي، 53 عاما ترشيحا لرئاسة الوزراء يوم الخميس أي في نفس اليوم الذي دخلت فيه القوات الأمريكية بغداد قبل 17 عاما، يعني أنه يواجه رزمة من الأزمات التي تبدو ” شديدة الانحدار أكبر مما كانت عليه في وقت الغزو” فالتحدي ليس كما كان التخلص من نظام صدام حسين، بل اليوم، وقف تقدم فيروس كورونا ومعالجة جذور الاحتجاج الكامنة في المجتمع العراقي ودفع عجلة الاقتصاد وسط انهيار أسعار النفط ومنع مواجهة عسكرية بين الولايات المتحدة وإيران وسط استعداد الميليشيات الشيعية الموالية لطهران للمواجهة والانتقام لقاسم سليماني، قائد العمليات الخارجية الإيرانية، بداية هذا العام. وكان حضور معظم النخبة حفلة تكليف الكاظمي لرئاسة الوزراء مظهرا نادرا من الوحدة كما تقول، حيث جلس الزعماء على كراسي مموهة بالذهب ولأول مرة منذ التظاهرات الشعبية التي أطاحت بعبدي المهدي. وهذه هي المرة الثالثة التي يكلف فيها الرئيس العراقي برهم صالح مسؤولا لتشكيل الحكومة وفي مدى 10 أسابيع، ذلك أن محمد توفيق علاوي وعدنان الزرفي فشلا بالحصول على موافقة القوى المتنافسة. وكشف بعض المحللين أن الكاظمي الذي يقود المخابرات منذ عام 2016 كان قادرا على بناء توازن بين واشنطن وطهران. وقالت محللة للصحيفة “قد لا يكون الخيار الأول لطهران إلا أنه خيار مقبول”. ويأتي تكليف الكاظمي بعد زيارة قائد فيلق القدس في الحرس الثوري وخليفة سليماني، إسماعيل قاآني بغداد الأسبوع الماضي وقال في اجتماع إن إيران والحرس الثوري لا يريدان المرشح الزرفي الذي تفضله أمريكا ليتولى رئاسة الوزراء. ويقول مسؤول عراقي إن الكاظمي وعد بعدم التدخل في شؤون الميليشيات الشيعية التي تحظى بدعم من إيران مقابل حصوله على دعم الكتل السياسية الشيعية التي أفشلت مهمة المرشحين السابقين. وعندها بدأت الكتل بالتخلي عن الزرفي الذي اعتبر معاديا للميليشيات وتقديم الدعم للكاظمي حتى قبل اختياره رسميا. وقال مسؤول عراقي إن الكاظمي حصل على دعم سياسي لاعتقاد القوى السياسية أنه قادر على إقناع الولايات المتحدة لكيلا تلغي الإعفاء من العقوبات وسط انهيار أسعار النفط بحيث لم تعد الدولة قادرة على تمويل نفسها. وأضاف “إنهم لا يثقون بالكاظمي كثيرا لكنهم يعتقدون أنه رجل يمكن التعاون معه”. وجاء التوافق الحالي على الكاظمي بعدما اتهمه فصيل شيعي بالتواطؤ مع الولايات المتحدة في قتل سليماني ونائب قائد الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس في الثالث من كانون الثاني/يناير. وقد التزم هذا الفصيل بالصمت على تكليفه يوم الجمعة.

وأشارت تقارير إخبارية أن الكاظمي استطاع إصلاح علاقاته مع إيران. وقال مصدر مقرب من حزب الله اللبناني إن الكاظمي سافر إلى بيروت وحل الخلافات. وكان فشل الزرفي المفضل لدى أمريكا بمثابة أخبار “محزنة” حسب ديفيد شينكر المسؤول البارز في وزارة الخارجية الأمريكية إلا أنه سارع ووصف الكاظمي بالرجل القادر والوطني. وعليه فالكاظمي يحظى بدعم أمريكي وإيراني وعلاقات جيدة مع السعودية لكي يكون قادرا على التفرغ لمواجهة الملفات الكثيرة التي تواجهه.

ضد الفيروس

وأهمها مكافحة فيروس كورونا، فبسبب عدم توفر الأجهزة الطبية، والنظام الصحي الضعيف المنهك من الفساد يعمل الأطباء ساعات إضافية. وكان العراق المتضرر الأول من انتشار مرض كوفيد-19 بسبب العلاقات الدينية والثقافية والاقتصادية بين العراق وإيران. وقامت السلطات بعمليات تطهير للمدن وإغلاق للمزارات الدينية منعا لانتشاره، خاصة أن الحالات الأولى ظهرت في المدن المقدسة لدى الشيعة. وأعلنت السلطات العراقية عن 1.297 حالة و70 حالة وفاة، إلا أن الخبراء في الخدمات الصحية يرون أن العدد قد يكون أعلى نظرا لعدم وجود أجهزة فحص كافية، ولا تريد الحكومة استخدام ما لديها من أجهزة ووفرتها لفحص المصابين فقط. ويعتبر العراق المتضرر الأكبر مع بقية الدول التي تعتمد في مواردها على النفط، مثل الجزائر من فيروس كورونا. وهو ما دعا البعض للحديث عن واقع جديد في الشرق الأوسط في مرحلة ما بعد كورونا. فالعراق لا مساحة للمناورة لديه بسبب عدم توفر الموارد المالية الكافية لمواجهة أزمة كورونا أسوة بما فعلت فيه دول الخليج أو الدول الأوروبية. والطريق الوحيد المتوفر أمام العراق وغيره من الدول العربية مثل لبنان ومصر هي اللجوء إلى صندوق النقد الدولي، كما أشار تقريرا لصحيفة “فايننشال تايمز” (8/4/2020).

القوات الأمريكية

بعد مقتل سليماني طالب العراق بضغط من ميليشيا الحشد الشعبي بخروج القوات الأمريكية التي تقول واشنطن إن مهمتها تدريب القوات العراقية والقيام بعمليات تنظيف ضد بقايا تنظيم “الدولة” الإسلامية، أو ضمن ما يعرف بالتحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة. وذكرت مجلة “فورين بوليسي” (7/4/2020) أن الحشد الشعبي بدأ يقوم بدور جديد منذ اغتيال سليماني. وجاء فيه إن الميليشيات المكونة له بدأت بمواجهات قوية مع الولايات المتحدة التي ردت أكثر من مرة على معسكرات تابعة لعناصره. وتقول المجلة إن مقتدى الصدر، الزعيم الشيعي الذي انضم أنصاره للدفاع عن المتظاهرين سافر في كانون الثاني/يناير إلى قم لمقابلة ممثلين عن الحشد الشعبي، بشكل يشي أنه يحاول تقديم نفسه كوجه للغضب ضد الولايات المتحدة. وتقول المجلة إن الحشد الشعبي الذي نشأ كرد على دعوة المرجعية الشيعية آية الله علي السيستاني للحشد ضد تنظيم “الدولة” هو بالضرورة منظمة طائفية تربط نفسها بالمشروع الإيراني الأوسع في المنطقة. ذلك أن عددا من منظماته موجودة قبل تنظيم “الدولة” ولعبت دورا بالعنف الطائفي أثناء الغزو الأمريكي. إلا أن الحشد كبر وتوسع وأصبح قوة من 100.000 مقاتل بعد ظهور تنظيم “الدولة”. وتريد كتائبه البالغ عددها 50 كتيبة لعب دور اليوم في الحياة السياسية والاجتماعية العسكرية للبلد. وكتائب الحشد مكتفية ذاتيا كما تقول المجلة، فلديها مخازنها وذخيرتها وسجونها كما يقال. ورغم دمج هذه القوة في مؤسسات الدولة الا إنها بنت نفسها كمنظمة متميزة عن بقية القوى العسكرية في البلاد. وهو ما جعلها تقوم بدور مختلف خاصة بعد زيادة التوتر بين أمريكا وإيران في أيار/مايو 2019 حيث قامت ميليشيات في الحشد باستهداف القواعد العسكرية في التاجي وعين الأسد وكيو ويست وكي-1 قرب كركوك بهجمات صاروخية حيث قتل متعهد أمريكي. وكان هذا سببا في ضرب أمريكا معسكرات للميليشيا قرب الحدود العراقية-السورية وقادت بالتالي إلى مقتل سليماني وأبو مهدي المهندس. ولم تتوقف المواجهات بين أمريكا والحشد، ففي 11 آذار/مارس ضربت أمريكا معسكرا للميليشيات قتلت فيه 11 عنصرا. وفي نهاية آذار/مارس سحبت القوات الأمريكية قواتها “تكتيكيا” من القواعد المتقدمة وأعادت نشرهم في القواعد الآمنة مثل القيارة والموصل ومطار أربيل في شمال العراق خاصة بعد نقل الولايات المتحدة أنظمة باتريوت إلى العراق لحماية قواتها. وأشارت صحيفة “فايننشال تايمز” (7/4/2020) إلى تصريحات وزير الخارجية مايك بومبيو لحوار استراتيجي مع الحكومة العراقية يبحث فيه الشؤون الأمنية والاقتصادية وكل الملفات سيقوده في حزيران/يونيو ديفيد هيل. وقالت إن أمريكا رأت في الزرفي الذي أفشلت مهمته خيارا جيدا نظرا لتاريخه مع واشنطن. وتناقش أمريكا أن أي تخفيض في قواتها وعددها 5.200 جندي في العراق يؤثر على جهود مكافحة تنظيم “الدولة”.

عودة الرايات السود

وهنا أشار مايكل نايتس الزميل في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى مقالا في مجلة “بوليتكو” (9/4/2020) قال فيه إن فيروس كورونا أنعش تنظيم “الدولة” في العراق. مشيرا إلى أن مهام مكافحته عرقلت بسبب الهجمات التي شنتها الجماعات الموالية لإيران ضد قوات التحالف الدولي ضد تنظيم “الدولة” على وضع الدفاع عن النفس. ولم يعد يرسل سوى قوات قليلة من المستشارين لمساعدة القوات العراقية في حملاتها للبحث عن الخلايا الخفية لتنظيم الدولة. وفي 19 آذار/مارس علق التحالف والناتو مهام التدريب والعمليات لمدة شهرين بسبب كوفيد-19. وفي 29 آذار/مارس سحبت فرنسا وأستراليا واسبانيا وبريطانيا والبرتغال ونيوزلندا وهولندا معظم مدربيها. وأدى انشغال القوات العراقية بمهام مكافحة الفيروس لفتح الباب أمام عودة التنظيم الذي زاد من هجماته في خانقين وطوز خرماتو وأمرلي ولأول مرة منذ عامين. واعتبر التنظيم الفيروس منحة من السماء و”عذابا من الله” أرسله إلى “الدول الصليبية” وحث أتباعه للاستفادة من الارتباك الذي أحدثه وانشغال القوى المعادية لهم به.

مخاطر التفكك

إزاء كل هذه التحديات التي جاءت معا، ما هو مستقبل العراق؟ وهو سؤال طرحته “إيكونوميست” (11/4/2020) وقالت إن كل ما ورد أعلاه يهدد الحكومة المركزية، مشيرة إلى النشاط في الحي الفقير، مدينة الصدر التي لا يأبه سكانها بتعليمات الحكومة حول كوفيد-19، فهو إما زيف صهيوني أو بطاقة سريعة إلى الجنة. ولكن كورونا ليس المشكلة الوحيدة، فالحكومة تواجه إفلاسا نظرا لاعتماد 90 في المئة من الميزانية على موارد النفط. وهناك مخاوف من “انهيار الدولة”. وحتى لو ارتفعت أسعار النفط فلن يكون العراق قادرا على حل مشاكله ودفع رواتب موظفيه. وقد يستخدم احتياطاته من العملة الصعبة، 60 مليار دولار في نهاية العام. وبدون زعيم وانشغال القوى الخارجية بشؤونها فلا يعرف من سيبقي على وحدة العراق. فالمرجعية الدينية لم تعد تتدخل بالسياسة. وربما وجد الأكراد فرصة للحصول على استقلالهم لو انهار العراق. ويناقش القادة السنة طرقا لرسم حدود دولتهم. و “يختلف الساسة والمحللون حول كيفية انهيار العراق إلا أن الكثيرين يعتقدون أن المسألة هي وقت فقط”.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى