كاد الموت أن يكون أعدل القضاة في الحياة الدنيا. يتساوى أمامه الحاكم والمحكوم. القوي والضعيف. الغني والفقير. السجان والسجين.
عندما يلوح طيفه تسقط الرتب والمقامات والتيجان، ويفقد المال بريقه، ويتحطم سيف السلطة على صخرة جبروته، وتصبح الشهرة عبئًا على صاحبها. يتواضع في داخل الإنسان شعور التفوق والقوة والتكبر، وتضعف سمة الغرور والشعور بالتميز، وتخبو شعلة الطموح والحماس، وتنكمش الأنا المتورمة لتقترب من حجمها الحقيقي .
عندما كنت مداومًا في قسم العناية المشددة في مشفى (الأسد الجامعي) أثناء اختصاصي كان من ضمن مرضاي الذين تابعت حالتهم الحرجة ضابطًا مهمًا همس لي أحد مرافقيه أنه من كبار ضباط الأمن في البلد، كان رغم حالته الحرجة يبدي تماسكًا وقوة أمام زواره ومرافقيه، لكن حاله يتبدل تمامًا عندما أكون معه لوحدي في غرفة العناية. كانت عيونه وجوارحه وكلماته تبدي انكسارًا وخوفا شديدًا من الموت الذي يلوح طيفه أمام ناظريه. كنت أتعامل معه كمريض يحتاج لخدماتي الطبية ولمساتي الإنسانية بعيدًا عن أي خلفية أخرى تتعلق بموقعه والصورة المرتبطة بهذا الموقع في ذهن أي سوري عاش تلك الفترة. كنت أبدي تعاطفي معه كمريض وكان يشعر بذلك. من أجل هذا سمح لمشاعره الحقيقية أن تظهر أمامي. كان يمدح لطف هذا الشاب ” الملتحي ” معه ، وسألني ذات مرة بانكسار: هل سأخرج من هذه الأزمة حيًا. كنت أتصوره أحيانًا وهو داخل إلى موقع عمله وأتخيل حالة الإستنفار من الجنود والموظفين وحالة الخوف من المساجين كلما تكلم أو تحرك، وأتساءل في داخلي: ماذا لو كنت أنا نزيلاً في موقع عمله؟!. كيف سيكون أسلوب حديثه معي. كيف ستكون نظراته لي. ما الذي غير نبرة صوته وأنساه رتبته وسلطته وقوته وحرك الإنسان في داخله ؟؟. إنها رائحة الموت التي تملأ المكان في قسم العناية المشددة.
ولأن العدالة المطلقة لا وجود لها في الحياة الدنيا، ينحاز الموت قليلًا نحو الفقراء والمستضعفين والمقهورين والمضطهدين، فيقترب منهم بأسلوب أقل صخبًا. أسلوب لا يخلو من غلظة لكنه لا يقاس بحال من الأحوال بأسلوبه في اقتحام حياة الحكام والمستبدين والمترفين والجبابرة والظلام وأصحاب النفوذ والسلطان. تميل كفة عدالة الموت نحو إنصاف مبكر نسبي للفقراء والمساكين والمضطهدين ذلك أن بؤس الحياة التي يعيشها هؤلاء تجعل وقع الموت عليهم أقل حدة وتجعل نفوسهم أكثر تقبلًا وأحيانًا رغبة بقدومه، في حين يموت الظلمة والطغاة رعبًا وهلعًا من إشارات الموت قبل أن يحل بهم. يذوق الظالم طعم الموت في خياله وأحلامه ألف مرة قبل أن يعيشه حقيقة مُرة، مرة واحدة وأخيرة.
يبدي الموت أيضًا انحيازًا نحو المؤمنين حقًا باليوم الآخر فيقترب منهم بلطف، لأنه بالنسبة لهم بداية حياة جديدة مفعمة بالعدالة والراحة والسكينة، بينما هو بالنسبة لغير المؤمنين فناء لا حياة بعده، والفناء غامض ومخيف .
يشفي الموت صدور المقهورين ويذيقهم لذة الإنتقام في داخلهم على الأقل، فيشعرون بنشوة العدالة والنصر (ولو بشكل جزئي) على من اعتدى عليهم وظلمهم وأنزل بهم العذاب واغتصب حقوقهم وانتهك حرماتهم بقوة السلطة أو المال أو الجاه. تسري في صدر المظلوم (عند موت الظالم) موجة من سعادة خفية تظهر بعض من آثارها على قسمات وجهه أو حركاته أو فلتات لسانه.
أتذكرون عندما مات ذاك الطاغية كم فرح أناس ورقصوا في بيوتهم دون أن يراهم جنوده أو جواسيسه. كم سالت دموع الفرح على وجنات أمهات حفرت دموع الألم والحزن أخاديد على وجوههن من كثرة بكائهن على أبنائهن الذين ذبلوا في سجون الطاغية.
أتذكرون عندما مات ذاك الظالم المتجبر كم عقدت الدبكات وعمت الأفراح في قرى ومدن تهدمت جدران بيوتها تحت قذائف نيرانه، وانتهكت كرامات أهلها تحت أحذية جنوده.
ستقول لي: لكن موت الفقراء والمظلومين والمقهورين قد يسعد الطغاة والمستبدين ويشعرهم بفائض قدرتهم وسيطرتهم. ربما. لكن شتان بين الحالتين. فارق كبير بين من ينتهي بؤسه وعذابه وجوعه بالموت، وبين من تنتهي سلطته وجبروته وتخمته بالموت. فارق كبير بين من يفرح لموته الآلاف، وبين من يحزن لموته أقرانه وما أكثرهم .
الموت كمعظم المسائل في هذه الحياة. تختلف صورته وفقًا للزاوية التي تراه من خلالها، والظروف التي تعيشها لحظة وصوله. قد يكون بلسمًا لجراحك. وقد يكون نارًا لقلبك وروحك.
ربما تعيش أفضل أحوالك ماديًا واجتماعيًا وجسديًا ومع ذلك تتمنى الموت. لأن روحك المحبة للضعفاء، وقلبك الرحيم بالفقراء، وعقلك المدرك لاستحالة تحقيق العدالة لهؤلاء لا يحتمل ما يراه من ظلم وطغيان وتكبر واستبداد.
نعم. يكاد الموت أن يكون أعدل القضاة في هذه الحياة، مع انحياز لا بد منه للضعفاء والمساكين. يكفيه انحيازًا أن السجين والمظلوم والمقهور يشتهيه ويتمناه، والسجان والظالم والطاغية يخافه ويفر منه. وهذا من عدالة الموت.
المصدر: اشراق