منذ ظهور نتائج الانتخابات، والحديث عن الشجار بين أشرار عملية الاحتلال السياسية لم يتوقف لحظة واحدة. فالفائز يريد تشكيل الحكومة لنيل حصة الأسد من العراق الجريح. والخاسر يريد الحفاظ على نصيبه وعدم المساس به. أما حصة العراق وشعب العراق، فليس لها وجود في قاموس هؤلاء الأشرار. ويبدو ان هذا الشجار، لم ينشغل به سوى بعض السياسيين المهتمين بالشأن العراقي وهم قلة قليلة. اما عموم العراقيين، فينظرون اليه شزرا، إدراكا منهم بان ما يجري، ليس سوى مسرحية بائسة، يتبادل فيها هؤلاء الأشرار الأدوار، لينتهي فصلها الأخير، الى ما يسموه بالمصالحة الوطنية. ومن ثم انتظار ما يقرره المحتل الأمريكي ووصيفه الإيراني، سواء فيما يخص تسمية رئيس الحكومة أو تقسيم الوزارات والمناصب المهمة فيما بينهم.
حدث ذلك مرات عديدة على مدى أربعة انتخابات سابقة. حيث انتهى الشجار فيها الى الصلح، على الرغم من تصاعد حدته في بعض الأحيان والقبول بعده بقسمة المحتل. وقد نجد نموذجا صارخا له في الانتخابات الثانية التي جرت سنة 2010. حيث وصل الشجار بين الطرف الفائز اياد علاوي وحلفائه، وبين الخاسر نوري المالكي واتباعه، الى درجة تخيل فيها الناس، بان حربا ضروس ستقوم بينهما. حيث أصدر علاوي بيانات اشبه بالبيان رقم واحد في الانقلابات العسكرية، توعد في احداها “القصاص العادل من المالكي وحزبه، كونهم خفافيش ظلام خربوا البلاد والعباد وفسحوا المجال لإيران بالهيمنة على العراق ومقدراته”، في حين هدد الخاسر نوري المالكي “باعتقال اياد علاوي وتقديمه للمحاكمة بتهمة الإرهاب، والتآمر على الوطن والشعب”.
لا ننكر بان هناك فئات من الناس استبشرت خيراً بنتائج هذه الانتخابات، لأسباب منها، هزيمة بعض الأشرار والحط من مكانتهم، مثل هادي العامري، الجناح السياسي للحشد الشعبي، وعمار الحكيم زعيم تيار الحكمة، وحيدر العبادي زعيم تحالف النصر، وقيس الخزعلي رئيس تنظيم عصائب اهل الحق. ومنها ان للمنتصر مقتدى الصدر توجهات وطنية ومشروعا إصلاحيا كبيرا، لا يقتصر على تشكيل حكومة اغلبية بعيدة عن المحاصصة الطائفية فحسب، وانما يتضمن انهاء الفساد وتقديم الفاسدين الى المحاكم. ويضيف هؤلاء بان الفائزين من المستقلين، الذين شكلوا كتلة قوامها أكثر من أربعين نائبا، سيلعبون دورا مهما في مشروع الإصلاح. لكن هذا الاعتقاد تنسفه الوقائع والاحداث التي لا تقبل الشك او ألتاويل
فمقتدى الصدر ليس من مصلحته ابدا انهاء العملية السياسية. فقد عاش في ظلها، وتنعم بخيراتها ونال الجاه والسلطة بفضلها؟ وليس من مصلحته أيضا، التفرد بالسلطة خشية من رد فعل بقية حلفاء الامس داخل ما يسمى بالبيت الشيعي، يؤدي الامر به الى صولة فرسان جديدة. ثم ان مقتدى الصدر ليس بإمكانه انهاء المحاصصة والقضاء على الفاسدين، وهما لحمة عملية المحتل السياسية وسداها. اذ من دونهما لا يتمكن المحتل من الهيمنة على العراق وتنفيذ مخطط تدميره دولة ومجتمعا.
وإذا لم تكن هذه الوقائع كافية لأنها بحاجة الى ادلة دامغة، ترى الا يكفي، تخلي مقتدى الصدر عن الوعود ذاتها، بعد فوزه بالانتخابات السابقة التي جرت سنة 2018؟ ثم اليس هو نفسه من اختار حرامي بنك الزوية عادل عبد المهدي لرئاسة الحكومة، ونزهه من كل شائبة ووصفه “بالشخصية الوطنية المستقلة والمستقيلة من الفساد والفاسدين؟ الم يشارك أيضا في اختيار خليفته مصطفى الكاظمي، وهو يعلم علم اليقين، بان هذا الرجل عميل امريكي بامتياز؟ ثم لماذا لا نقتدي بالمثل القائل “لا يلدغ المرء من ذات الجحر مرتين”؟ او مقولة “لا تجرب المجرب”؟
الم نلدغ من قبل “الوطني الجسور المخضرم” اياد علاوي، و”الفيلسوف الزاهد” ابراهيم الجعفري و”مختار العصر” نوري المالكي و”الأكاديمي المتحضر” حيدر العبادي؟ والدكتور “الاقتصادي الفطحل” عادل عبد المهدي، وأخيرا “الشهيد الحي” مصطفى الكاظمي؟ الم يختم كل منهم مسيرته السوداء بارتكاب أبشع الجرائم والسرقات وبيع العراق للأجنبي؟
اما المراهنة على ما سمي بالوطنيين الذين فازوا بالانتخابات والذين بلغ عددهم أكثر من أربعين نائبا وشكلوا كتلة مستقلة، بهدف الإصلاح، فهذه مراهنة فاشلة حتما. حيث سيصطدم هؤلاء، بافتراض انهم مستقلون، بحيتان الفساد من جهة، والعملية السياسية والياتها المحكمة من جهة أخرى. خاصة وان هذه العملية المقيتة، قد تم شرعنتها بدستور ملغوم، ومؤسسات فاسدة، وقضاء مرتش، واشرار لا يتقنون غير سرقة المال العام واشاعة الفساد. يضاف الى كل ذلك، تحصينها بمليشيات مسلحة لحمايتها من أية كتلة برلمانية تسعى لتنفيذ أي مشروع إصلاحي جدي، بل حتى مجرد التفكير بطرحه على البرلمان، وليس مهما هنا حجم الكتلة وقوتها.
نذكر كل ذلك ونشدد عليه للتأكيد على حقيقة واحدة مفادها، ان المحتل الامريكي ووصيفه الإيراني، لن يسمحا طواعية للقادم الجديد بتهديم العملية السياسية، او التلاعب بالياتها، او المساس بنظام المحاصصة الطائفية، او حتى تدويرها. حيث سيظل منصب رئيس الجمهورية مسجلا باسم الكرد ورئاسة مجلس النواب باسم “السنة” ورئيس الحكومة باسم “الشيعة”. بل لن يسمحا بأجراء اي تعديل عليها، او المساس باي ركن من أركانها.
لكن هذا ليس كل شي، فالمحتل الأمريكي وبمباركة وصيفه الإيراني وبمساعدة هؤلاء الأشرار، استطاع بناء دولة تعتبر انموذجا مثاليا للدولة الفاشلة، الى درجة يصعب إصلاحها في ظل وجود هؤلاء الأشرار. ولا نحتاج هنا الى جهد، لأثبات هذه الحقيقة. حيث توفرت في العراق المحتل جميع مواصفات
الدولة الفاشلة، وفق المعايير التي اعتمدها المجتمع الدولي بالتمام والكمال.
أولها عجز الدولة عن بسط الأمن في ربوع أراضيها، والاخلاء بمبدأ تكافؤ الفرص بين مواطنيها، وتفضيل فئة على غيرها من المواطنين، وإلغاء مبدأ المساواة بين الناس، وتعطل المسارات القانونية، وفساد النخب الحاكمة، وتهدم البنى التحتية وفقدان الخدمات. وثانيها إشاعة الكذب والنفاق وفقدان الانضباط، وانهيار في نظامها القيمي والأخلاقي. وثالثها وأد الأفكار النافعة في مهدها، وتنظيم عمليات ممنهجة لتغييب العقول لصالح شرذمة قليلة، وتغليب توافه البشر والأشياء. ورابعها فالصواب خطأ، والسير في الطريق المستقيم شبهة، وتفرض قرارات صارمة تجاه من يعارضها، وتلجأ لمصادرة الحريات والسجن والترهيب والتعذيب والقتل لكل من يفضح سلوك هذه الدولة الفاشلة، ويشكل تهديدا لها. وخامسها تكون المؤسسات محطمة، وأجهزة الحماية من أعداء الداخل والخارج كسيحة. وسادسها استيلاء المسؤولين على خزينتها، وبشكل قانوني، تجنبا للمساءلة وحفاظا على ما تبقى من سمعة وشرف افتراضيين، يتطلبهما ادعاء الدين والتدين لتمرير بضاعتهم الفاسدة. وسابعها تمرير مشاريع كاذبة ورصد اموال فلكية لشراء الآلات والمعدات الحديثة، التي لا تصل لمعامل لا وجود لها الا على الورق.
ترى الا تنطبق هذه المواصفات على دولة الفرهود في عراق اليتم وعراق يا ويلي كاملة غير منقوصة؟
إذا كان ذلك صحيحاً، فكل ما يستطيع فعله رئيس الوزراء القادم سواء كان الكاظمي او غيره، تلوين جلباب اسلافه بألوان براقة وزاهية لذر الرماد في العيون. والمقصود هنا احتمال قيام الحكومة الجديدة بإصلاحات خدمية متواضعة، على امل ارضاء العراقيين الذين ضاقت بهم سبل الحياة، لحرمان الثورة الشعبية من وقودها الدائم، تمهيدا للالتفاف عليها وانهائها. خاصة وان
المحتل الامريكي ووصيفه الايراني، قد أدركا تماما بان استمرار عمليات النهب والفساد والسرقة وارتكاب الجرائم بهذه الطريقة المكشوفة والصلفة، ستؤدي بهذا الشعب المظلوم الى التخلي عن الثورة السلمية واللجوء الى ثورة مسلحة. بعبارة اخرى، فان هؤلاء الاشرار، سيقبلون على مضض تقديم بعض التنازلات، التي لا تمس جوهر مصالحهم ومصالح المحتل، ولا تقلل كثيرا من مكاسبهم غير المشروعة.
قبل اربعة قرون ونيف، قال نيقولا ميكافيللي في كتابه الامير، “ان مجرد توقع المخاطر، فانه يمكن للإنسان العاقل من علاجها بسهولة. اما إذا انتظر مجيئها حتى تقع، فان العلاج يصبح غير مجد بالنظر لتأصل الداء”. ثم يضرب مثلا فيقول، “وهذا ما ينطبق تماما على الحميات الرئوية التي يقول الاطباء عنها، انها صعبة التشخيص وسهلة العلاج في البداية، ولكنها تضحى مع مرور الزمن، إذا سمح لها بالبقاء دون علاج، سهلة التشخيص ومتعذرة الشفاء. هذا ما أدركه ثوار تشرين والذين سيوفرون للعراق العلاج الشافي عاجلا ام اجلا.
المصدر: كتابات