القِيم values وحدها، وليس الثورات والانتفاضات، هي الوسيلة للخروج من الأزمات، يقول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شارحاً رؤيته لكيفيّة مواجهة الصدمات والتأقلم مع التغيير. إنما عند التدقيق في تناوله التحدّيات التي تواجه روسيا وطموحاتها، تتعثّر القِيم في عراقيل البراغماتية. فهذا رجل مقتنع بأن روسيا اليوم أفضل من روسيا البلشفية وهو يقدّم نفسه قائداً يتأبّط شعار Healthy Conservatism -التقليدية المحافظة الصحيّة- غير الخائف من التغيير، الذي ينبذ التطرّف، ويحسن التموضع عالمياً. لا يعجبه الطرح الداعي الى إيجاد حلول عالمية للمشاكل العالمية لأن ذلك يتطلّب التضحية ببعض السيادة.
وفلاديمير بوتين متعلّق بمبدأ السيادة شرط أن يكون وفق تفسيره له في زمان ومكان تطبيقه.
إحدى مشاكل روسيا هي أنها دولة ضخمة تبحث عن موقعٍ لها بين عمالقة – عمالقة الأمس وعمالقة اليوم. وفي رأي النخبة السياسية الروسية أن الاتحاد الروسي ليس أخاً صغيراً للعملاق الصيني مثلاً، وهي لا تنظر الى روسيا بأقل من مرتبة الإمبراطورية. هذه النخبة تُبحر بين الغضب العارم من الغرب، بالذات أوروبا، وبين الحيرة من أمر روسيا مع الولايات المتحدة ونوعيّة علاقاتها المستقبلية معها في زمن توازن العلاقات الرباعية بين الولايات المتحدة والصين وأوروبا وروسيا. جيرتها المباشرة تقلقها. عنفوانها يكبّلها. اقتصادها يحرجها. فروسيا تبحث عن روسيا. كهوية، وكقوة عالمية، وكفاعل في مشهد الجغرافيا – السياسية، روسيا تبحث عن روسيا وقد تكون قرّرت، لربما مرحليّاً، أن مقام روسيا اليوم يكمن في أنها إمبراطورية رقمية لا ليبرالية، illiberal digital empire أقلّه من وجهة نظر النخبة السياسية.
كان لي شرف المشاركة مرّة أخرى في فعاليات المؤتمر السنوي الـ18 لمنتدى فالداي الدولي Valdai للنقاش في سوتشي الذي يحضره سنوياً الرئيس بوتين ويختتمه بجلسة تحاورية مع المشاركين في المؤتمر تدوم تقليدياً لأكثر من ثلاث ساعات. وكعادته، يطرح مؤتمر فالداي عناوين مهمّة تعكس الأولويات الروسية فكان عنوان هذه السنة “الاضطراب العالمي في القرن الـ21: الفرد، القِيم، والدولة”.
كان لافتاً غياب مسائل الشرق الأوسط وكذلك ضآلة عدد المدعوين من الشرق الأوسط، وأتى ذلك كمؤشر على موقع المنطقة في سلّم الأولويات الروسية. فما يجول في بال روسيا هو درس خياراتها الاستراتيجية البعيدة المدى ونوعية تحالفاتها المرحلية والدائمة لصيانة موقعها ومصالحها كدولة تبقى عظمى، في نظر روسيا.
خلاصة ما خرجتُ به من انطباع نتيجة الاستماع الى خبراء مخضرمين في جلسات جانبية خاصة سويّاً مع قراءة ما طُرِحَ في الجلسات العامة، هي أن أمام روسيا خيارات تحالفية صعبة ومعقّدة.
فخيار التحالف ما بين الصين وروسيا فيه مغامرة لأسبابٍ تتعلّق بالجغرافيا، كما بالمكوّن السكّاني، كما بالاقتصاد. مثل هذا التحالف وارد وممكن أن يكون مفيداً على المدى القريب. أما على المدى البعيد، فإن الصين ستبتلع روسيا في العلاقة التحالفية. ومهما كابرت النخبة السياسية الروسية واحتجّت على وصف الاتحاد الروسي بأنه سيكون الأخ الصغير للصين، فإن هذا التصوّر أكثر واقعية من حنين هذه النخبة الى الإمبراطورية.
خيار التحالف الروسي – الأوروبي مفخّخ بالمشاكل الناتجة من القِيم السياسية المتفاوتة بين الاثنين، أي الديموقراطية التي تتبناها الدول الأوروبية. فهي تصرّ على احترام حقوق الإنسان وهذا في رأي روسيا وسيلة للتدخل في شؤونها الداخلية. ثم إن روسيا لا تزعم أنها تتبنّى قيِم الديموقراطية بتعريفها الغربي. فالاختلافات جديّة وهي مصدر توتّر حالياً، ودائم في علاقات روسيا مع الدول الغربية.
إنما روسيا جزء من الثقافة الأوروبية وبينهما علاقات تاريخية، وبالتالي هناك أسس لعلاقات تحالفية منطقيّاً لو لم يكن الأمر معقّداً نتيجة التحالف القويّ بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية.
وهنا يدخل خيار شبه مستحيل هو خيار إنشاء علاقة تحالفية بين الولايات المتحدة وروسيا. “التهادنية الروسية – الأميركية لم تنجح يوماً لأن الأميركيين لا ينظرون إلينا كشريك على قدم المساواة” يقول أحد الخبراء المخضرمين مستبعداً أي تطوّر نوعي في العلاقات الأميركية – الروسية لا الآن، ولا لاحقاً.
يبقى هناك إذاً إمكان، في تفكير أوساط روسية، يصفه هذا الخبير بأنه “إمكان خلق التوازن equilibrium بين تحالفٍ روسي – صيني وتحالف روسي – أوروبي”.
فالصين وروسيا تتعاونان معاً في آسيا الوسطى الفائقة الأهمية لكلاهما، وفي الشرق الأوسط الأقل أهمية. الصين تقدّم المال وروسيا تقدّم الأمن عبر تواجد روسي عسكري كبير، مباشر في القواعد وعبر مرتزقة، في دول آسيا الوسطى التي تُقلق روسيا كثيراً – بل تضاعف القلق منها بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان. من طاجيكستان الى تركمانستان وفي مختلف بقع القوقاز، إن الأولوية الروسية هي الاستقرار بالمفهوم الروسي – أي الاستقرار السياسي والاستقرار الايديولوجي. بمعنى، أن روسيا تخشى كثيراً ذلك الكمّ من المهاجرين من دول آسيا الوسطى الى عقر الدار الروسية وفي قلوب الكثير منهم “القاعدة” و”داعش” أي أيديولوجية الإسلام المتطرّف الذي يضع شبح الإرهاب في بطن روسيا.
فالانسحاب الأميركي من أفغانستان بعثَر الاستراتيجية الروسية، وهناك في روسيا من يعتقد أن تبعثر الانسحاب وعشوائيته كان مقصوداً لتوريط روسيا والصين في المقبرة الأفغانية. المهم أن روسيا وجدت نفسها مرةً أخرى في قلب المسألة الأفغانية وهي تعمل على إدارة الأزمة لاحتواء اندلاع الإرهاب اليها عبر الدول الآسيوية الأوسطية.
ثم هناك العلاقات مع تركيا وإيران ولهما أدوار في تلك المنطقة. كان لافتاً ما قاله أحد المشاركين في فالداي – سوتشي حول “العمق العميق” للعلاقات الروسية – التركية التجارية الذي لا توازيه سوى العلاقات الروسية التجارية مع إسرائيل. ظاهرياً، وسياسياً، هناك ظن بأن العلاقات الروسية – الإيرانية هي التي يمكن وصفها بالعمق العميق.
“العلاقات الروسية – الإيرانية مختلفة إذ ليس بيننا علاقات اقتصادية عميقة، ولا بيننا علاقات تاريخية عميقة، ولا هناك ما يربطنا بهم ثقافياً، أو عقائدياً”، قال أحد المخضرمين في العلاقات الروسية الخارجية. وأضاف: “فإيران هي مجرد شريك سياسي أحسن الأداء في سوريا. أما روسيا وتركيا، فالشبه بينهما على أكثر من صعيد من النزعة الإمبراطورية الى النزعة الفردية personalism في الحكم”، في إشارة الى سيطرة كل من فلاديمير بوتين ونظيره التركي رجب طيب أردوغان على مفاصل السلطة من منطلق الفرد الذي يملك وحده مفاتيح الحكم والقرار.
ما ستحاول روسيا أن تخلقه هو نوع من شبكة التحالفات العملية pragmatic الإقليمية على نسق عملية “آستانا” التي ضمت روسيا وتركيا وإيران للعمل معاً في سوريا.
حالياً، ترتفع وتيرة الغضب الروسي من ألمانيا وفرنسا لأسباب مختلفة، معظمها يدخل في الخانة الاقتصادية، من الغاز الى العقوبات. لكن لروسيا علاقات جيدة مع عدد من الدول الأوروبية وليس مع منظمة الاتحاد الأوروبي. ثم إن ليس كل الخلافات محليّة. فالمعركة مع فرنسا ليست أوروبية وإنما هي بالدرجة الأولى أفريقية حيث تمدّدت فرنسا لعقود فيما أصبحت أفريقيا اليوم أولوية لروسيا.
“لعلنا نتفاهم في لبنان” قال أحد المشاركين في مؤتمر فالداي شبه ممازحٍ، مشيراً الى الدور الفرنسي التاريخي في لبنان والدور الروسي المتردّد في ضوء علاقات روسيا التحالفية مع “حزب الله” ومع إيران ميدانياً في سوريا، وربما بأبعد.
أثناء تلك الجلسة المطوّلة مع الرئيس فلاديمير بوتين سألته إن كان مستعدّاً لتطبيق القِيم التي نادى بها في مسألة التحقيق في تفجير مرفأ بيروت والتي يتوعّد “حزب الله” الحكومة والقضاء والبلد برمته إذا لم يُقْبَع المحقق العدلي طارق البيطار ويطير معه كامل التحقيق في قصة المرفأ. سألته إن كان مستعدّاً لتقديم ما لدى روسيا من معلومات وصور أقمار اصطناعية، فرد “أعِدَكِ” بالنظر في ذلك. وعسى أن يفعل.
فلنرَ من سيربح السباق في الأولويات الروسية: القِيم التي رفع فلاديمير بوتين شعارها كرؤية روسية أم تلك البراغماتية في الاستراتيجية الروسية.
المصدر: النهار العربي