جميل أن تريد إيران التطبيع مع السعودية، وأن تسعى الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن مع طهران لإقناعها بإنهاء حرب اليمن. لنأمل أن تكون هذه تحوّلات جديّة وليست مجرّد نصف خطوات إرضائية مرحليّة. فمهم جداً أن تستمر المباحثات السعودية – الإيرانية التي تعقد في العراق ووصلت الى جولتها الرابعة، وعسى أن تصل الى مرتبة فتح صفحة جديدة بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية وجيرتها العربية في الخليج وفي الشرق الأوسط. لكن، وبكل هدوء، لنتحدّث عن التداعيات الحالية التي ترتّبت على موافقة الدول الغربية – الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا وفرنسا – ومعها الصين وروسيا، على فصل سياسات إيران الإقليمية عن مفاوضات فيينا لإحياء الاتفاقية النووية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية JCPOA.
هذه التداعيات واضحة في العراق ولبنان، حيث تتصرّف القيادات الإيرانية ووكلاؤها بتوتّر ومكابرة على السواء. فمفاجأة الانتخابات العراقية التي أوضحت السأم من الميليشيات والأحزاب التابعة لطهران، لاقت التهديد بسحق نتائجها، الأمر الذي يهدّد بخطر أمني مصيري، ويثبت أن رجال “الحرس الثوري” الإيراني وأذرعته لا يهضمون الفرز الديموقراطي، وهم يتسلّحون باستقتال إدارة بايدن والحكومات الأوروبية على إرضائهم من أجل إحياء الاتفاقية النووية.
في لبنان، أتى الرضوخ لاستبعاد السلوك الإيراني الإقليمي عن المفاوضات النووية ليعزّز ثقة “حزب الله” بأن لا محاسبة ولا مساءلة ولا معاقبة دولية آتية صوبه، وهو يجهر بتصميمه على قمع العدالة والقضاء، وسحق مبدأ فصل السلطات، ودفن التحقيق في تفجير مرفأ بيروت، وإسقاط الحكومة الجديدة إذا رفضت إملاءاته، والتهديد بحرب شوارع تدبّ الرعب في نفوس اللبنانيين من حربٍ أهلية. فلقد علّق “حزب الله” ومعه حركة “أمل” المعروفان بـ”الثنائي الشيعي”، المشنقة لقاضي التحقيق في تفجير المرفأ، طارق البيطار، بتهمة “تسييس” التحقيق، لأنه لم يخضع لأوامرهما، ويشنّان حملة على رئيس المجلس الأعلى للقضاء، القاضي سهيل عبود، لأنه وضع القانون والعدالة فوق السياسة. هلع “الثنائي الشيعي” من انتفاضة القضاة على السياسيين واضح، كما عزمه على تخوين المعارضة والتحريض عليها بأي سبيل كان. وراء استقوائه مزيج من التوتّر خوفاً من التحقيق وإفرازاته من جهة، والرهان على أن المواقف الأميركية والأوروبية لن تخرج عن مجرّد التباكي العقيم، لأن الأولوية نووية وليست محاسبة إيران.
واضح أن “حزب الله” لا يريد تعمّق التحقيق في تفجير مرفأ بيروت واغتيال عاصمة لبنان، بل يريد إغلاق التحقيق عن بكرة أبيه. قصة الانفجار معقّدة، كما حكاية وصول باخرة “النيترات” الى المرفأ بمساهمات شركات واحتيالات دولية تحت مظلّة منظومة حكم فاسدة في لبنان، وفي مرفأ خاضع لـ”حزب الله”.
الافتراضيات عديدة، والتحقيق لم يتوصّل، أو لم يكشف بعد، عن استنتاجات. فالدول التي تملك قدرات استطلاعات “الساتلايت” الجوية، تلكّأت عندما طلب التحقيق منها إعطاء الصور التي لديها يوم الانفجار، وعددها 17 دولة. بعضها تجاهل الطلب، والبعض أنكر أن تكون لديه صور، وما أعطته الولايات المتحدة وتركيا، بحسب المصادر، أتى في إفادة رسمية خلاصتها أن لا شيء يثبت أن ضربة من خارج المرفأ سبّبت الانفجار. فرنسا التي تزعم أن لبنان في أولوياتها لم تجِب على الطلب.
من القبطان الروسي، الى مالك باخرة النيترات الجورجي Georgian، الى الشركة المسجّلة في بريطانيا، الى شركات أوروبية أسرعت الى الاختفاء، هناك حكاية ذات رائحة كريهة بلاعبين دوليين وإقليميين ولبنانيين. والحكاية لا تقتصر على التجّار ولا على النيترات.
ما تتحدّث عنه الأوساط الاستخبارية الدولية هو حركة التصدير والاستيراد غير الشرعي من مرفأ بيروت، ليس فقط الى سوريا بل أيضاً الى إيران. والكلام ليس حصراً عن النيترات التي يُقال إنها استُخدِمَت في البراميل المتفجرة التي أسقطها النظام في دمشق على معارضيه.
فعلى ذمّة مصادر استخبارية، الخوف الأكبر هو من الكشف عمّا كان يمرّ عبر مرفأ بيروت الى إيران من مواد كيماوية، وقطع غيار وإلكترونيات وأجهزة للصواريخ، ومواد “حسّاسة” لبرنامج إيران النووي.
أي وثائق أو مستندات توثّق مرور مواد “حسّاسة” ذات علاقة بالبرنامج النووي الإيراني عبر مرفأ بيروت قد تعرّض المفاوضات النووية في فيينا الى انتكاسة، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي الى نسف معادلة رفع العقوبات عن إيران عند إحياء الاتفاقية النووية. لذلك، من الممنوع على التحقيق في تفجير مرفأ بيروت أن يتوصّل- ولو عن طريق الخطأ – الى الوثائق التي يُقال إن الكثير منها أُحرق بعد الانفجار. فتدمير الأدلّة وحجبها، تقول المصادر الاستخبارية، مسألة فائقة الأهمية ولا هامش للمغامرة بها عبر التحقيق الذي يتولاه القاضي البيطار.
“الأفضل للجميع أن يمحوا كامل الموضوع من الذاكرة”، قالت هذه المصادر المتعاطفة مع إيران، “فهناك تفاصيل عديدة قد تؤدي الى المزيد من الضرر لأكثر من جهة. ولا أحد يريد إزالة تلك السحابة clear the fog”.
سهلٌ على هذه الأوساط التوصية بالقفز على ما حدث في 4 آب (أغسطس) 2020، بحجة أن لا روسيا ولا إيران ولا إسرائيل ولا الأوروبيون ولا الولايات المتحدة يريدون “فتح الباب على غرفة ظلام”. بل أكثر، تنصح هذه الأوساط بمقولة فحواها “كُلوا البراز، فلا يمكن لأربعين مليار ذبابة أن تكون على خطأ”.
4 ملايين لبناني يأكلون البراز كالذباب بامتياز في السنتين الماضيتين بفضل منظومة الحكم الفاسد، وبسبب تسلّط “حزب الله” بالسلاح، ونتيجة التحالف بين “حزب الله” و”التيار الوطني الحر” الذي يجد نفسه اليوم في مأزق، كما يجد رئيس الجمهورية ميشال عون نفسه في وضعٍ يدفع به الى ضرورة الاختيار بين انصياعه لحليفه “حزب الله” ووزراءٍ يتطاولون عليه، وبين قاعدته الشعبية التي أبلغته أنه طفح الكيل ولا تريد الانبطاح في مسألة التحقيق في تفجير المرفأ.
لكن الرئيس عون ليس ضحية. في وسعه استغلال تسلّق كل الأطراف على الأشجار ليتصرّف بما هو في مصلحة لبنان ككل، وفي المقدّمة الحفاظ على مبدأ فصل السلطات السياسية عن السلطات القضائية. سيكون عليه التحلّي بالشجاعة والحكمة انطلاقاً من قراءة معمّقة لما أدّى اليه تحالفه مع “حزب الله” وتوفير الغطاء السياسي له، ما مكّنه من الإمساك بكامل مفاصل الدولة، ومن زج الرئاسة في الزاوية والإملاء عليها والتهديد بإطاحة الحكومة الجديدة التي يرأسها نجيب ميقاتي، وهي حكومة “حزب الله” في نهاية المطاف. فنسف التحقيق بات الأولوية القاطعة للثنائي الشيعي الذي يرفض مثول وزرائه أمام المحقق العدلي طارق البيطار. وللإيضاح، إن المطلوبين للمثول أمام العدالة لا ينتمون حصراً الى حركة “أمل” مثل علي حسن خليل وغازي زعيتر، بل يشملون نهاد المشنوق ويوسف فنيانوس.
بإمكان الرئيس عون الهبوط من شجرته وإعطاء الإذن الذي طلبه القاضي البيطار لاستجواب اللواء طوني صليبا، المدير العام لأمن الدولة. بإمكان الرئيس ميقاتي إبلاغ وزير الداخلية السُني إعطاء الإذن للبيطار لاستجواب المدير العام للأمن العام عباس إبراهيم. هكذا يكون الوقوف مع القضاء مثالاً للآخرين، وهكذا يثبت عون وميقاتي أنهما يحميان القضاء.
ذلك أن الأزمة دخلت الآن مرحلة المواجهة بين القضاء المستقل وسلطة سياسية تعتبر نفسها فوق القانون، ترفض حتى مساءلتها وتلجأ الى تحريك الشارع في وجه القضاء. وقد حان للعلك الدولي أن يتوقف عن الإدانات اللفظية ويقدّم الدعم الفعلي لنظام قضائي مستقل. فالقضاة في خطر أمني، ومن الضروري تأمين أجهزة أمنية وحماية دولية للقضاة. في وسع الولايات المتحدة والدول الأوروبية، لا سيّما فرنسا، تفعيل ذلك التوعّد بالعقوبات على الذين يتمرّدون على القضاء، فيما الأجهزة الأمنية اللبنانية تتخاذل خوفاً من الانتقام السياسي.
إصرار “حزب الله” و”أمل” على “قبْع” رئيس الجمهورية لقاضي التحقيق بأي وسيلة، وتهديدهما بإسقاط حكومة ميقاتي، رافقه التلميح الى الاضطرار لاستخدام وسائل أخرى، لأن لا تراجع عن قرار “تصفية” البيطار بالسياسة أو بالإكراه. واضح أن الثنائي الشيعي عقد العزم على إطاحة التحقيق في تفجير المرفأ وليس فقط طارق البيطار. واضح أيضاً أن القيادة الإيرانية تدعم بشدّة تعنُّت “حزب الله” في هذا الملف، حتى ولو كلَّف اهتزازاً في التركيبة السياسية اللبنانية، وذلك لأن محو جريمة تفجير مرفأ بيروت له الأولوية لدى طهران.
المصادر الوثيقة الاطلاع المقرّبة من إيران أكدت أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية هي التي أصدرت الأمر بسحق التحقيق الذي يقوده طارق البيطار وقبعه ومحوه. لا طهران ولا الثنائي الشيعي سيساومان في مسألة محو التحقيق، لمحو ما حدث في مرفأ بيروت، ومحو ما أدى الى تفجيره. فقصّة مرفأ بيروت هي المدخل الى عواقب أكبر بكثير من المشكلات التي تثيرها زوبعة التحقيق وقبع البيطار، هكذا ارتأت قيادة “حزب الله” وارتأى الحرس الثوري الإيراني. محو القصّة برمّتها قد يكون مكلفاً اليوم، لكن إذا بقيت القصّة حيّة فستكون كلفتها ثلاثة أضعاف غداً. هكذا ارتأت طهران.
طارق البيطار بات خطيراً لأنه يحوك حكاية مرفأ بيروت بأدلة ووثائق تشكّل مشكلة كبيرة لطهران وللثنائي الشيعي. بات مشكلة، إذا لم يكن في الاستطاعة حلّها، فلا بد، في رأيهم، من محوها بلا تردد! فلا خوف من أي تداعيات محليّة أو دوليّة، لأن قراءة طهران للمشهد الدولي تفيد بأنها انتصرت في تدجين الأوروبيين، لدرجة انسياقهم الى غض النظر عن جريمة ضد الإنسانية، وتمكّنت من تكبيل الأميركيين في عهد الرئيس جو بايدن لدرجة ضمان الإفلات من العقاب، مهما فعلت من سحقٍ وقبعٍ ومحوٍ لقصة مرفأ بيروت المرعبة.
المصدر: النهار العربي