كان الهدف من الانتخابات المبكّرة في العراق إتاحة الفرصة لظهور وجوه جديدة يمكن التعويل عليها في تغيير نمط الحكم وأداء القوى السياسية. وكانت “انتفاضة تشرين” قد وقعت وقع الصدمة على هذه القوى، ومع أنها تظاهرت باستجابة المطالب الشعبية عبر بعض التشريعات التي أُفقدت لاحقاً من أي ملمح “إصلاحي”، إلا أنها سرعان ما اطمأنت الى أن العنف الذي مورس ضد نشطاء ساحات الاحتجاج تمكن من ردّ الصدمة وتخفيف تداعياتها.
حاول القمع الحكومي، أيام عادل عبد المهدي وبدرجة أكبر أيام مصطفى الكاظمي، أن يبقى في إطار “الضرورة الأمنية”، لكن العنف الميليشيوي أو “الحشدي” المقَنّع قتل مئات المحتجين وتسبب بإيذاء الآلاف جسدياً واختطاف الكثيرين لترهيبهم. وبرغم أن الأجهزة الأمنية رصدت عدداً من القتلة والمعتدين، إلا أن حماياتهم السياسية أمّنت لهم الإفلات من أي عقاب أو محاسبة، حتى بعد اعتقال عدد منهم.
لذلك، صعُب على المجتمع العراقي أن يصدّق أو يتوهّم أن الانتخابات تشكّل بوابة الى الخلاص، أو أن تأتي بأي تغيير حقيقي، ويتساوى في ذلك شيعة الانتفاضة مع أبناء المكوّنات الأخرى التي واكبتهم ودعمت حراكهم وراهنت على تأثيرها في القوى السنّية والكردية. فالفساد مرضٌ عضال يعمّ أنحاء الجسم العراقي المسيطر على الحُكم، ولم يعد ظاهرة محصورة ومحدودة، بل إن سرطانيته قادرة على التهام واجتياح أي أعضاء صحيحة قد تساعد في التعافي. وفي جسم مضروب كهذا تتعطّل المناعة ويستحيل التغيير، فالقوى السياسية التي دعمت إسقاط النظام السابق واجتثاثه لم تُسقط فساده المركّز في شخص الحاكم المستبد، ولم ترث إنجازاته التنموية والخدماتية، بل حرصت على وراثة ما اعتبرته “أفضل” ما لديه – فساده – لاقتسامه في ما بينها، فلم يبقَ شيء للعراق، ولا للعراقيين.
تبنّى الحكام (الذين لا يزالون “جُدداً” برغم مرور 18 عاماً على تولّيهم المسؤولية) قانوناً انتخابياً بمعايير جيّدة على الورق، ثم نسوا ما كتبوه، وتصرّفوا كأنه غير موجود، بل يقولون إنهم طوّروه هذه المرّة لاستيعاب القوى الشبابية، لكن الخدعة ظلّت مكشوفةً. إذ إن حيّز القرار مُصادر مسبقاً لدى حيتان السياسة المعسكرة والسلاح غير الشرعي المتسلّط على السياسة. فأي “تغيير” يعني عملياً أن تتخلّى هذه القوى عن سلاحها لمصلحة الدولة، وهذا ليس قرارها بل قرار إيران التي كانت لفترة مضطرة لتمويلها، الى أن وُجدت سبل التمويل من خزينة الدولة نفسها. ميليشيات ضد الدولة تتموّل من تحاصصها للوزارات والموازنات، لتحافظ على “دويلاتها” الموازية للدولة وتتحكّم بالاقتصاد وخيارات السياسة الداخلية والخارجية، فضلاً عن الاستراتيجيات الدفاعية. لا أي دول أخرى، بما فيها الولايات المتحدة، لديها مثل إيران هذه اليد الطولى داخل العراق وتطمح الى إدامتها برغم الرفض الشعبي المتنامي لنفوذها.
لعل حكومة مصطفى الكاظمي استطاعت أن تُدخل بعض الجديد الى نمط الحكم الذي طغت عليه فئوية نوري المالكي واعتناقه الوصاية الإيرانية. أثبت الكاظمي أنه أقرب الى الاستقلالية، بحكم عدم انتمائه الى أي حزب، ومع أن واقعيته حالت دون تبنّيه الكامل لخطّ حيدر العبادي، إلا أنه حافظ على توجّهات الأخير نحو تعزيز مكانة الدولة وجيشها وأجهزتها الأمنية بالتوازي مع انفتاحات على المحيط العربي. والمهم في تجربة الكاظمي أنها أنهت استمرارية حكم “حزب الدعوة” و”المجلس الأعلى للثورة الإسلامية” المواليين لإيران، فالخلافات المستحكمة بين الأحزاب الشيعية الرئيسية باتت كفيلة بمنع أحدها من إيصال مرشّحه الى رئاسة الحكومة. وأظهرت نتائج استطلاعات رأي غير معلنة أن هذه الأحزاب ضعُفت جميعاً، لذا كانت قلقة مع اقتراب الاستحقاق الانتخابي، إذ إن أياً منها، ولا سيما “التكتّل الصدري” أو “تكتّل الفتح”، ليس واثقاً من تحقيق الفوز الذي أحرزه في انتخابات 2018، وفيما تعاني قائمة “دولة القانون” من احتراق زعيمها (المالكي) فإن “تكتّل النصر” شهد انشقاقات بعد استبعاد زعيمه (العبادي) عن رئاسة الحكومة.
لكن الثابت أن هذه الأحزاب والكتل ستبقى متصدّرة الخريطة السياسية، ومتحكّمة برئاسات الجمهورية والحكومة والمجلس، بل إن المقاطعة الشعبية الواسعة للتصويت تصبّ في مصلحتها. ثمة رهان على “المستقلّين” الذين عُدّلت الدوائر الانتخابية وطريقة التصويت لإفساح المجال لهم كي يصنعوا الفارق مع معادلة البرلمان المنتهية ولايته.
يُفترض أن يأتي هؤلاء من صفوف “انتفاضة تشرين” وأن يكون عددهم كافياً لتشكيل تكتل عابر للطوائف وقادر على مقارعة تحالف قوى الفساد والسلاح من المكوّنات الثلاثة. قبل ثمانية عشر شهراً، عندما اختارت الأحزاب الشيعية الكاظمي على مضض لترؤس الحكومة، كان الاعتقاد السائد أنه “مرشّح الانتفاضة” التي باتت تمثّل غالبية شعبية ساحقة، وأنه سينصف المحتجّين في مطالبهم والاقتصاص من قتلتهم ومطارديهم، ومع أن قضيتهم لم تغب عن اهتماماته وخطابه، إلا أن الشارع راح ينتقده وينأى عنه لأن حمايته للحراك تعرضت لاختبارات صعبة، إذ لم يتمكّن من احتواء سطوة الميليشيات وفسادها، ولم يستطع معالجة الأزمة الاقتصادية وتحسين الوضع المعيشي، بل إن مريديه يعتبرون أنه خذلهم حين نأى بنفسه عن خوض الانتخابات، لذلك اختارت غالبيتهم مقاطعة التصويت.
هذه المقاطعة لا تعبّر فقط عن إحباطٍ مقيمٍ حين تكون الدولة عاجزة عن إشعال الأمل، بل عن إدانة وازدراء لطبقة سياسية تعرف أنه حتى الذين ينتخبون مرشحيها إنما يصوّتون للحفاظ على لقمة عيشهم. فهؤلاء مثل المقاطعين يرون أن ما يجري هو مجرّد انتخابات أخرى، وأن التغيير الذي يأملونه لن يأتي هذه المرّة أيضاً.
عشية الانتخابات، كان واضحاً أن أي تحالف لن يحصل على عدد كافٍ من النواب كي يفرض كلمته على البرلمان، وبالتالي فإن المعادلة التي جاءت بالكاظمي والتقت فيها إيران مع المرجعية لا تزال على حالها، ولن تغيّرها أي تجاوزات أو محاولات تزوير. وإذا لم تتمكّن إيران من إقناع تحالفَي “الفتح” و”سائرون” (الصدر) بترشيح رئيس للوزراء كامل الولاء لها، فإن الكاظمي سيبقى رجل المرحلة المقبلة، ولو بتفاهمات جديدة، برغم أن هناك تفكيراً في ترشيح رئيس المجلس القضائي الأعلى فائق زيدان. وأيّاً يكن المرشح يُطرح السؤال: إذا كانت المشكلة في الفساد والسلاح فهل التغيير ممكن بالانتخابات، أم يبقى العراق في انتظار المواجهة الحتمية لكن المؤجّلة بين الدولة والميليشيات؟
المصدر: النهار العربي