عن الهجرة واللجوء مرة أخرى

محمد عمر كرداس

    يتعرض البشر منذ أقدم العصور إلى التهجير القسري وأيضًا للهجرات الطوعية والأسباب متعددة فالحروب والأوبئة والقحط وندرة الغذاء كلها كانت أسبابًا للهجرة والتهجير، وبالنسبة للمنطقة العربية كانت الهجرات من اليمن والجزيرة العربية هي أكبر الهجرات إلى المناطق الغنية بالماء والزراعة وقد أرخ العديد من الكتاب لتغريبة بني هلال إلى مصر والمغرب، حتى إن الشاعر الشعبي المصري عبد الرحمن الأبنودي  كانت السيرة الهلالية أكبر أعماله وآخرها على شكل شعر شعبي بديع بما فيها من حروب وتحالفات ومواطن استقرار باقية إلى اليوم.

    في القرن العشرين كانت الحربين العالميتين في 1914 و1939 مصدرًا رئيسيًا للهجرات والتهجير واللجوء وما رافقها من معسكرات اعتقال للأسرى ومعسكرات اعتقال أيضًا للمعارضين السياسيين، وكان تجنيد الشباب من الدول المحتلة مصدرًا للتهجير والتغريب، فترى الفرقة الأجنبية الفرنسية كانت مؤلفة من مجندين لأبناء المستعمرات وقام النازيون بنفس الفعل. أما داخل الدول المتحاربة فقد قامت أميركا بعزل المواطنين من أصل صيني في شبه معسكرات اعتقال وهكذا فعلت الكثير من الدول.

    في سورية، وهي مجال اهتمامنا هنا قام الكثير من السوريين باللجوء  إلى مصر في فترة الحرب العالمية الأولى وقبلها وبعد انتهاء الحرب وقيام المملكة السورية على سورية الكبرى عادوا أفواجًا إلى سورية فقام الكاتب المصري الشهير مصطفى لطفي المنفلوطي صاحب كتاب النظرات والعبرات بإنصاف السوريين العائدين إلى الوطن فقال في كتاب النظرات : فارق مصر على أثر صدور الدستور العثماني كثير من فضلاء السوريين بعدما عمروا هذه البلاد بفضائلهم ومآثرهم فصيروها جنة ذاخرة بالعلوم والآداب ولقنوا المصريين تلك الدروس العالية في الصحافة والتأليف والترجمة، وبعد ما كانوا فينا سفراء خير بين المدنية الغربية والمدنية الشرقية، يأخذون من كمال الأولى ليتموا مانقص من الأخرى، وبعدما علموا المصري كيف ينشط في العمل، وكيف يجد ويجتهد في سبيل العيش، وكيف يثبت ويتجلد في معركة الحياة.

    هذا كاتب مشهور يعترف بفضل اللاجئين والمهاجرين السوريين في مصر، إلا أن سورية في تلك الفترة من الإستقرار شهدت موجات لجوء لهاربين من نيران الحروب وزحف الجيوش ومحاولات المنتصرين تغيير ديموغرافيا الدول المنهزمة فهاجر إلى سورية اليونان والأرمن والشركس واستوطنها جنود المستعمرات من أفارقة سنغال ومغاربة وغيرهم، ولا ننسى بقايا جيش إبراهيم باشا المصري المنهزم على حدود تركيا والذين استوطنوا سورية الكبرى وكانت غالبيتهم من النساء والأطفال بعد قتل وأسر أكثر الجنود في ذلك الجيش عام 1840.

بعد النكبة واستيطان فلسطين من قبل شذاذ آفاق من كل دول العالم كان اللجوء الأكبر في عصرنا الحديث فقد تشرد مئات الآلاف من الفلسطينيين وكان نصيب سورية كبير فعاملت الفلسطيني معاملة السوري في كل شيء وبعد حرب 1967 كان هناك نزوح داخلي في سورية من أبناء الجولان الذي احتلته إسرائيل في هذه الحرب من دون قتال. سورية كانت دائمًا ملاذًا آمنًا لكل من يأتي إليها حتى لم تكن تطلب من أي عربي تأشيرة للدخول منذ نشأتها.

   بعد احتلال العراق عام 2003 من قبل الغازي الأميركي وحلفائه لجأ إلى سورية بحدود مليوني عراقي ولم يسكن أي منهم في مخيم بل سكنوا كمواطنين، وفي عام 2006 بعد الحرب اللبنانية مع إسرائيل استضافت سورية اللاجئين اللبنانيين وهذه المرة لم يقم أي مخيم بل سكنوا بيوت السوريين ووجدوا كل الدعم المادي والمعنوي من الشعب السوري.

     بالمقابل مارس البعث الحاكم في سورية على السوريين أقسى أنواع الظلم والقتل والتهجير  والتشريد في حروبه على الشعب السوري منذ عام 1980 إلى اليوم. التهجير بالتشريعات الدولية يعد جريمة كبرى وهو يساوي جريمة الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية ونتيجة تسلط هذا الحزب  وحربه مع حلفائه من روس وإيرانيين وتجاهل المجتمع الدولي هاجر من سورية بحدود 8 ملايين إنسان ونزح داخليًا بحدود 6 ملايين أيضًا وقتل وجرح واعتقل بحدود مليون إنسان، فقدوا ممتلكاتهم وذكرياتهم ويشتاقون لها  فلا أحد سعيد بلجوئه في أي مكان بالعالم وقد لخص السوري المهجر الذي رحل عنا نادر شاليش ابن كفر نبوده المعاناة فقال في قصيدة له :أرسلت روحي إلى داري تطوف بها..لماخطانا إليها مالها سبل….ثم يقول بعد أن أصبح في مخيم أطمة: لكن روحي ستبقى فيها ساكنة ….مالي بأطمه لا شاة ولا جمل.

      توزع اللاجئون السوريون الذين شكلوا أكبر لجوء في العصر الحديث حسب الأمم المتحدة في شتى بقاع الأرض فمن وصل إلى أوربا وحاز على لجوء نظامي حسب القوانين الدولية توجب عليه الإندماج في المجتمع ليصبح جزءً منه خاصة أن أكثرهم خلال خمس سنوات سيكون مؤهلاً للحصول على جنسية البلد الذي لجأ اليه، أما في بلاد العرب فهم نموذج آخر لاجئون ولا يتمتعون بحقوق اللاجىء. الأردن أنشأت مخيمات عانى فيها السوريون أقسى أنواع الظروف الطبيعية فهم بدون بنية تحتية ولايحق لهم العمل نظريًا والشاهد على ذلك مخيم الزعتري الصحراوي . أما في مصر فيعيش السوريون كالمصريين ولا مشكلة في الإندماج فلطالما كنا دولة واحدة في أكثر من مرحلة، أما في دول الخليج فكانت السعودية أكثر الدول التي استقبلت السوريين ولكن لم تمنح أي منهم إقامة بل زيارة عليه تجديدها شهريًا ودفع الرسوم فلا حقوق ولا مخيمات أيضًا وهو ضيف على من أمن له الزيارة حتى لايحق لك امتلاك هاتف باسمك  أما في لبنان الذي لجأ إليه بحدود 600 ألف سوري  فيمكن   تلخيص معاناتهم بما كتبته الكاتبة اللبنانية  راما الجراح على الموقع الاخباري “لبنان الكبير” حيث قالت في مقال: يتعرض السوريون في لبنان إلى الكثير من المواقف الرافضة لوجودهم وطالب كثيرون بعودتهم إلى بلادهم غير الآمنة وأصبح خطاب  الكراهية يطالهم عند كل حدث  حتى أنتجت هذه العنصرية أفعالًا عنفيه  داخل المجتمع، وهذا يحدث في بلد محتل من إيران وأزلامها  وأغلقت باقي الدول العربية عمليًا أبوابها في وجه السوريين.

في تركيا الوضع مختلف فقد وصل إليها أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ عدا عن مستثمرين وحاملي الإقامات السياحية وقد حصلوا على بطاقات الحماية المؤقتة {الكملك} تتيح لحاملها رعاية طبية وبعض المساعدات للمحتاجين ولا مخيمات في تركيا ولكن كثير من المخيمات تنتشر على حدودها مع سورية كما أن محافظة إدلب الخارجة عن سيطرة النظام ومناطق غصن الزيتون ونبع السلام داخل سورية وتشمل مناطق حدودية تدخل تحت اتفاقات أستانا وتتيح لتركيا التواجد فيها والإشراف على مؤسساتها من جيش وشرطة ومجالس محلية ومنظمات، وبذلك تكون تركيا أكثر الدول تماسًا مع القضية السورية.

   السوريون داخل تركيا يحظون بميزات واسعة من تعليم وصحة وحتى التملك لبعض المقتنيات وكثير من السوريين حصلوا على الجنسية التركية وهي ليست مرهونة بوقت  والحصول عليها يخضع لاعتبارات خاصة غير مقوننة وتخضع للوضع الأمني أولًا.

    الأحزاب المعارضة في تركيا تحرض على السوريين وتدعوا لترحيلهم والحكومة ترفض رفضًا قاطعًا ترحيل أي لاجئ عنوة وما يظهر من مناوشات ومشاكل وإجرام فهي محصورة بعدد قليل من الطرفين تسعى الإدارات الرسمية لتطويقها ومعالجتها ولكننا لانقول في هذا المجال إلاّ أن على السوريين أن يتأقلموا في حياتهم الجديدة حتى يجعل الله لهم مخرجًا ويعودوا إلى بلدهم بعد زوال نظام القتل والإجرام وأن على الأتراك أن يعرفوا أن هؤلاء ضيوف مؤقتين لن يشاركوهم أرزاقهم وممتكاتهم ووطنهم.

والحقيقة فإنه بين دول الجوار العربية وغير العربية تركيا هي من قدمت الكثير لللاجىء السوري.

المصدر: إشراق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى