مثّل تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة، بالترافق مع وصول صهاريج نفط إيراني عبر الأراضي السورية ومؤتمرات صحافية متتالية لأمين عام حزب الله حسن نصر الله، إعلاناً رسمياً ومشهدياً عن انتصار الثورة المضادة في لبنان.
وزاد من حجم هذا الانتصار انعدام التحرّكات الشعبية والمظاهرات والاعتصامات الحاشدة الرافضة له أو حتى المندّدة به وبما عبّر عنه.
فما الذي أوصل الأحوال اللبنانية إلى هذا الحد من السقوط، وكيف تحولّ وضعٌ كان يبشّر بالتغيير ويفيض بالمبادرات والديناميات السياسية والاجتماعية والثقافية قبل عامين إلى كابوس وخراب شامل أصاب أكثرية اللبنانيين؟ وهل ما زال ممكناً تعديل الأمور واستنهاض الطاقات والانتقال إلى طور جديد؟
يُحيل السؤال الأول إلى ستّة عوامل توالت وأفضت إلى الأوضاع الراهنة.
العامل الأول يرتبط بالهجوم الشامل الذي شنّه حزب الله، حامي النظام اللبناني وسلطته ومُملي سياسته الخارجية بالسلاح دفاعاً عن المحور الإيراني في سوريا. فالهجوم هذا أربك أغلب القوى السياسية الممالِئة للحزب أو المخاصمة له، وأحدث انقساماً في أوساط المجموعات المشاركة في الانتفاضة الشعبية، وأعاد بعض خصائص القسمة الـ8 والـ14 آذارية إلى الواجهة بعد أن كانت الأحداث والانتفاضة قد تجاوزتها. وليس أكثر تعبيراً عن الأمر، عزوف أطراف عن التذكير بدور الحزب وسلاحه في إيصال لبنان إلى حالة الانهيار التي وصل إليها من جهة، وعزوف أطراف أخرى عن انتقاد السياسات المالية والهندسات المصرفية التي أفضت إلى الإفلاس من جهة ثانية.
العامل الثاني يكمن في تدهور الأحوال المعيشية على نحو غير مسبوق في التاريخ اللبناني الحديث، و»تبخّر» أموال المودعين وإذلالهم على أبواب المصارف، ثم تعميم العتمة والشلل في أنحاء البلد، وتحويل أكثرية المواطنين، ومثلهم اللاجئين، إلى باحثين عن سبل نجاة من وضع يزداد صعوبةً أسبوعاً بعد آخر. وأدّى الأمر إلى إنهاكٍ وتبديد جهودٍ وهجرة، جاء انفجار المرفأ ليجعلها طوق نجاة لعشرات الآلاف من القادرين على المغادرة.
وهنا يأتي العامل الثالث. ذلك أن الانفجار الذي دمّر أحياء في بيروت، أظهر مقدار الأذية المباشرة التي يمكن أن تصيب الناس نتيجة الإهمال والفساد المحميّين سياسياً، ونتيجة التعمية على تواطئ المسؤولين عن استيراد وتخزين نيترات الأمونيوم اللبنانيّين والسوريّين، ونتيجة الحصانة التي حمت تاريخياً القتَلة والمرتكبين، والتي بدت مستمرّة في حمايتهم وتسهيل إفلاتهم من العقاب. وفي كل هذا ما حفر في النفوس شعوراً مريراً بالعجز أمام خصوم لا حدود لتوحّشهم.
العامل الرابع هو ذلك الذي فرض نفسه من خارج الحلبة السياسية، أي جائحة كورونا التي بدّلت منذ ما قبل تفجير المرفأ بأشهر عديدة المشهد الوطني العام وأمْلَت انصياعاً لقرارات صحية (ضرورية) صادرة عن سلطة فاقدة المشروعية والمصداقية. النتيجة: انكفاءٌ عن الشارع وعن التحرّكات فيه، بما مكّن القوى الأمنية من احتلاله وحيدة، بوصفها أداة تنفيذ قرارات السلطة السياسية.
العامل الخامس يتعلّق بتعثّر القوى والمجموعات الصغيرة والكبيرة التي شاركت في الانتفاضة في مهمة تشكيل قيادة، أو إطار تنسيقي واسع، أو حتى جبهة عريضة ذات صدقية وفاعلية. ولذلك أسباب عديدة مرتبطة بتباينات في الأولويات وبخلافات جدية حول حزب الله والموقف منه، وبطموحات تفردّ بالقرارات والمفاوضات وغير ذلك مما يعطّل عملا تحالفياً واسعاً. ولا شكّ أن الوقت والظرف وحجم الانهيار المالي والاقتصادي لم تسهّل المهمّة. على أن التعثّر المذكور ظلّ نقطة ضعف رئيسية، رغم الإنجازات المهمّة في انتخابات نقابات المهن الحرّة، المهندسين والمحامين بخاصة، ورغم الانتصارات الطلابية الكبيرة التي حقّقتها النوادي العلمانية في الجامعات الخاصة في مختلف المناطق.
أما العامل السادس، فمفاده أن الظروف الإقليمية والدولية عاكست إرادات المنتفضين في لبنان، تماماً كما سبق وعاكست إرادات شعوب الموجتين الأولى والثانية من الانتفاضات والثورات العربية (من البحرين إلى اليمن، ومن سوريا إلى ليبيا مروراً بمصر، ثم من العراق إلى الجزائر وبينهما السودان). بمعنى أن موازين القوى في المنطقة مالت تدريجياً منذ سنوات لصالح المحور الإيراني، المستفيد مؤقّتاً من الاندفاعة الروسية في سوريا، ومن الانكفاء الأمريكي في العراق، ومن ضحالة خصومه الخليجيّين، المعادي معظمهم في أي حال للتغيير الديمقراطي والمشارك في دعم وتمويل انقلابات وأمراء حروب.
هذه العوامل جميعها أعادت موازين القوى التي اختلّت بعض الشيء بين تشرين الأول (أكتوبر) 2019 وآذار (مارس) 2020 إلى سابق عهدها، وطمأنت حزب الله وباقي القوى المشاركة في السلطات المتعاقبة منذ ثلاثة عقود إلى أن النكبات التي تسبّبت بها والمماطلة في تشكيل حكومة لمدة 13 عشر شهراً نتيجة حسابات طائفية وزبائنية وأوامر إقليمية، لن تفجّر غضباً ولن تعيد مئات الألوف إلى الشوارع. بل إن الرهان اليوم هو على تحسين الحكومة الجديدة لبعض الخدمات، وتوفير كمّيات إضافية من النفط الإيراني عبر سوريا لإظهار طهران ودمشق بموقع المنقذ والحليف، والسيد حسن نصر الله بموقع عرّاب الإنقاذ من خارج الحكومة ومن داخلها، إذ يُتوقّع أن يتبع منحها الثقة في المجلس النيابي وصول بعض المساعدات الدولية وبدء التفاوض على القروض مع الجهات المانحة.
هل يمكن إذاً، استناداً إلى كلّ ما ذُكِر، التعويل على استنهاض جديد؟
يصعب الجزم بالأمر، ولَو أن الجواب الأقرب إلى منطق الأمور يشي مرحلياً بإجابة سلبية.
فلا المناخات الإقليمية والدولية مُقبلة على تبدّلات قد تعدّل من القائم اللبناني. ولا الظروف الداخلية اللبنانية التي تدفع أكثر الناس إلى البحث عن سبل النجاة اليومية ذاهبة إلى تغيير جوهري. ويُخشى أن تتحوّل الانتخابات النيابية إن جرت في الربيع المقبل وفق القانون الحالي وشروطه وملابساته، إلى تكريس إضافي لمشهد السلطة كما رسا سياسياً منذ أشهر وحكومياً منذ أيام.
وهذا كلّه إن صحّ، يعني أن التحدّي المقبل المطروح على الفاعلين السياسيين المعارضين للنظام وسلطته هو في سُبل تشكيل ائتلاف وطني واسع يستوحي من التجارب الطلابية والنقابية الناجحة، ويحدّد أولويات العمل في المرحلة المقبلة ويضع أهدافاً محدّدة لا أوهام أحجام داخلية فيها ولا رهانات على أدوار خارجية لن تحصل في المدى المنظور.
*كاتب وأكاديمي لبناني
المصدر: القدس العربي