لا شك في أن الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي إلى العاصمة الإيرانية طهران تختلف في ظروفها ومعطياتها عن الزيارة الأولى التي جرت في يوليو (تموز) 2020.
فمن ناحية الشكل، كانت الحفاوة في الزيارة الأولى غير طبيعية، لجهة الاهتمام الإيراني بالزائر العراقي الذي أتى إلى طهران في لحظة كان النظام الإيراني ومؤسساته المعنية بالساحة العراقية تمر في حالة من انعدام الوزن إذا صح التعبير، نتيجة تزايد حالة العداء والرفض للدور الإيراني الذي عبّرت عنه غالبية الأصوات التي ظهرت في ساحات الاعتراض والتظاهرات المعروفة باسم “حراك تشرين”، وأدت إلى دفع رئيس الوزراء المحسوب على إيران عادل عبد المهدي للاستقالة تحت وقع المواجهات وسقوط أعداد من المتظاهرين قتلى وجرحى.
ومن ناحية المضمون، حفلت الزيارة الأولى باهتمام سياسي، ظهر من خلال سلسلة اللقاءات والاجتماعات التي عقدها الكاظمي مع المسؤولين الإيرانيين، سواء المعلنة وغير المعلنة التي جرت بعيداً من الأضواء بينه وبين قيادات عسكرية من قوات حرس الثورة المعنية بالساحة العراقية خصوصاً، وتُوّجت بلقاء مرشد النظام الذي حرص على كسر البروتوكولات الطبية الخاصة بجائحة كورونا احتفاء بالضيف العراقي.
ربما يكون من الطبيعي أن تظهر القيادة الإيرانية على مختلف مستوياتها هذا الاهتمام بالضيف العراقي في زيارته الأولى، لحاجتها في تلك المرحلة لاستيعاب المتغير العراقي الذي جاء في سياق تزايد الضغوط الدولية ضدها، إضافة إلى ما تعرّضت له من ارتفاع في حدة التصعيد الأميركي سواء في موضوع العقوبات الاقتصادية والحصار الخانق الذي فرضته عليها إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب، أو في كسر هذه الإدارة لقواعد الاشتباك المتعارف عليها بين الطرفين خلال الأعوام الماضية من خلال تبنّي ترمب علناً عملية اغتيال قائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني بالقرب من مطار بغداد.
خريطة الطريق التي رسمتها الزيارة الأولى لطهران، وضعت الإطار العام للتعامل بين حكومة بغداد والنظام الإيراني للمرحلة المقبلة، وهو إطار تضمّن التزامات قدّمها كل من الطرفين لتسهيل عمل الآخر وضمان مصالحه السياسية والأمنية والاقتصادية. طرحت فيها طهران تسهيلات كبيرة للكاظمي بما يساعد على إنجاح تجربته في هذه المرحلة الانتقالية التي أوصلته، إن كان عبر الضغط على حلفائها العراقيين للتعاون معه، ودعم مشروعه في ضبط السلاح المتفلت خارج المؤسسات الرسمية، من دون المساس بالمفاصل التي تشكّل تهديداً استراتيجياً للدور والنفوذ الإيراني الذي يقع في إطار مشروعها ورؤيتها الإقليمية.
المقابل المباشر الذي كانت تريده إيران من الكاظمي، لم يختلف عما كانت تسعى إليه مع رؤساء الوزراء السابقين، ويقع خارج العلاقة الأمنية والعسكرية التي تتصدر المشهد فيها قوة القدس أو أجهزة وزارة الاستخبارات، ويصب في إطار تعزيز أو نقل العلاقة بين البلدين من الدائرة الأمنية إلى دائرة العلاقات بين الحكومات.
وكانت طهران ترمي من ورائها إلى تحقيق الكثير من الأهداف التي تساعدها على كسر دائرة العقوبات، أو تعزز مشروعها في ربط إيران بمحيطها الشرق أوسطي، وبناء علاقات اقتصادية وتجارية ذات أبعاد استراتيجية مع العراق.
التفاهم الضمني بين الإدارة الأميركية الجديدة بقيادة الرئيس جو بايدن والنظام الإيراني على تحييد العراق عن دائرة المواجهة والتصعيد بينهما، سمحت للكاظمي بالانطلاق نحو بناء مروحة من العلاقات الخارجية، حاول توظيفها من أجل تعزيز موقعه في مركز القرار وتكريسه كخيار وحيد لإنقاذ العراق وإخراجه من الأزمات التي يعيشها.
وهو دور كان النظام الإيراني يراقبه بكثير من الاهتمام والدقة، ويحاول قراءة أبعاده وأهدافه، وكيفية استخدامه لتعزيز مصالحه وترميمها سواء في العراق أو مع المحيط العربي والدولي.
لذلك، فإن النظام في طهران لا ينكر الدور الإيجابي الكبير الذي لعبه العراق في استضافة الحوار مع المملكة العربية السعودية، ويقدّر الجهود التي بذلتها بغداد لعقد اجتماع دول الجوار العراقي في العاصمة وإن كانت تراه منتقصاً نتيجة لعدم مشاركة سوريا.
من هنا، كانت توقعات النظام الإيراني من الحكومة العراقية الانتقالية، التي تعاملت مع المرحلة وكأنها حكومة طبيعية، أن تنفذ ما التزمت به هي وسابقاتها من تفاهمات وتحويلها إلى خطوات عملية أو اتفاقات بين دولتين، وفي مقدمتها دفع المستحقات الإيرانية المالية من عائدات الغاز واستجرار الطاقة التي بلغت نحو 6 مليارات دولار، إلى جانب استحقاقات الشركات الإيرانية الخاصة التي تتجاوز مبلغ 5 مليارات دولار، وهي عائدات راهنت طهران على توظيفها لشراء لقاحات كورونا وكسر الحصار المالي الأميركي الذي منعها من الحصول عليها، إضافة إلى تنفيذ ما تعهد به الكاظمي برصد الموازنة اللازمة لاستكمال الربط السككي بين “شلامتشه” الإيرانية والبصرة العراقية بطول 38 كليومتراً، وأعمال “كري” لتنظيف مياه شط العرب. ومن دون إهمال المطلب الأساس الذي لم يتجرّأ أي من رؤساء الحكومة السابقين على مقاربته والمتعلق بموضوع إعادة إحياء اتفاقية الجزائر لعام 1975 وترسيم الحدود. وهي مطالب أو تفاهمات لم يُنفّذ أيّ منها ولم تحصل طهران على مكاسب تحقق لها هذه الأهداف.
وعليه، فإن زيارة الكاظمي الجديدة إلى طهران، زخرت بكثير من الوعود بالتعاون في مشاريع متعددة ذات بعد استراتيجي تحظى بالأهمية لدى الجانب الإيراني، إلا أنها تفاهمات على الورق لن يختلف تعامل حكومة الكاظمي معها عن تعامل الحكومات السابقة.
بالتالي، فإن المسعى الإيراني لتقنين أو قوننة العلاقة مع بغداد وفتح مسار التعاون بين الدولتين وعدم حصره في المسار العسكري والأمني لم يتحقق. فهي لن تكون على استعداد للتعاون في أي من المسائل الأخرى طالما أن الوعود العراقية لن تُنفّذ أو تبقى حبراً على ورق.
يمكن القول إن النظام الإيراني ليس جمعية خيرية، ولا جهة تقدّم الدعم لأي طرف في الإقليم من دون مقابل، بل تسعى طهران إلى توظيف أي دعم أو تعاون مع الجهات الخارجية لدعم مصالحها القومية والأهداف الاستراتيجية، وهو مبدأ تعامل تعتمده مع الحكومات ومع الجماعات الحليفة لها.
لذلك فإن الزيارة التي قام بها الكاظمي إلى طهران، لن تتأثر بالدور الذي لعبه كوسيط في فتح مسار الحوار بينها وبين الرياض، أو نقل الرسائل مع واشنطن أو دول عربية أخرى، لأنها تنظر إلى هذه الوساطة على أن الكاظمي استفاد منها أيضاً في تعزيز موقعه الخارجي ويحاول توظيفه في فرض نفسه كخيار في الداخل يعيده إلى موقع رئاسة الوزراء لدورة من أربعة أعوام جديدة.
وعليه، فإن ما لم يتردد المقربون منه في الكشف عنه وتأكيد أن الهدف الرئيس لهذه الزيارة التي تأتي قبل أقل من شهر على موعد الانتخابات البرلمانية المبكرة والتي من المفترض أن تنتج رئيساً وحكومة جديدة، هو الحصول على دعم إيراني لولاية جديدة، ومحاولة العودة إلى رئاسة السلطة التنفيذية من البوابة الإيرانية بما يشكل اعترافاً واضحاً بحجم الدور والتأثير الإيراني في العملية السياسية العراقية، مباشرة أو عبر حلفائها. وأن طهران تملك مفاتيح القصر الحكومي وهي التي تحدد الشخص الذي ستكون من نصيبه.
في الظاهر، حظيت زيارة الكاظمي بترحيب جيد من الجانب الإيراني، وكسر فيها الرئيس ابراهيم رئيسي البروتوكول عندما استقبله رسمياً، في حين من المفترض أن يستقبله محمد مخبر، النائب الأول للرئيس كونه يُعتبر بمثابة رئيس للوزراء، كما أجرى لقاءات مع أمين المجلس الأعلى للأمن القومي ورئيس البرلمان محمد باقر قاليباف، وختم بزيارة دينية إلى مدينة مشهد.
وزيارة الكاظمي لم تتضمن لقاء مع مرشد النظام، ما يعني أن المرشد لم يكُن راضياً على نتائج الزيارة، ويوحي بخيبة أمل لدى المرشد من عدم التزام الكاظمي ما سبق أن تم التفاهم عليه في زيارته الأولى.
وعدم استقبال المرشد للكاظمي يحمل على الاعتقاد أيضاً أن مؤسسة النظام في طهران لا تريد أن يتم توظيف هذا اللقاء في معركة الكاظمي للعودة إلى السلطة مجاناً وعلى حساب قوى حليفة لها على الساحة العراقية.
وهو موقف يعيد خلط الأوراق أمام الكاظمي ويجعل من معادلات عودته وعدمها متساوية، ومرتبطة بمدى قدرته على كسب التأييد الإيراني وتأييد الفصائل والأحزاب العراقية الحليفة لطهران، وقدرته على خلق توازن بين المؤثرات الإيرانية وتحالفاته مع المكونات السياسية والمذهبية والقومية العراقية الأخرى، فضلاً عن قدرته على الاحتفاظ بالزخم الذي يملكه في علاقاته الإقليمية مع العمق العربي. فهل تُستجاب الابتهالات التي قرأها في زيارته لقبر الإمام الثامن لدى الشيعة علي بن موسى الرضا في مشهد، أو سيكون مصداق المثل العراقي “لا حظيت برجيلها ولا أخذت السيد علي”.
المصدر: اندبندنت عربية