لا أحد يهتمّ بالمدنيين في الحروب، وكان هؤلاء على مدى التاريخ أول الضحايا وآخر من يتمّ تعويضه. تقوم الحروب تحت شعارات تحقيق مصالحهم، لكنّهم يكونون دائماً وقودها وضحاياها. قليلة هي الحروب التي لم يدفع المدنيون أثمانها، بل هي شبه نادرة إن لم نقل غير موجودة إطلاقاً. وعلى الرغم من أنّ تعاليم أغلب الأديان تنصّ على الرفق بهم، وعلى الرغم من أنّ قواعد القانون الدولي (حديثة النشأة في التاريخ البشري) تقضي بتحييدهم عن الصراعات، وتجنيبهم المخاطر ما أمكن، فإنّ الواقع جرى عكس ذلك على الدوام، وسيبقى على منواله هذا إلى أمد بعيد، في ما يبدو.
كلّ الحروب عقائدية، حتى لو لم تكن كذلك في شعاراتها، فالعقائد ليست الأديان وحدها، بل تتعدّاها إلى الأساطير القومية والوطنية، وحتى القَبَليّة. القوّة العارية المستندة إلى العقائد هذه هي من تضع القواعد في الحروب، ومهما حاول البشر الابتعاد عن الهمجيّة من خلال تقعيد المسموح والممنوع فيها، إلّا أنهم يدركون أنّ ذلك أشبه بالمستحيل، ما لم يصل المتحاربون أنفسهم من سياسيين وقادة عسكريين وجنود إلى مستوى الفهم نفسه من جهة، والحسّ الإنساني ذاته من جهة ثانية، لأصحاب الفكر القانوني والحقوقي ممن ينظّرون لذلك ويعملون عليه.
تركّز نشرات الأخبار على التحرّكات العسكرية، تطلب التفاصيل عن سير المعارك، تحاور بالخلفيات والأسباب والدوافع، تناقش موازين القوى، تبحث في المصالح، ترصُد المواقف وردود الأفعال، وعندما يأتي المدنيون لا نجد سوى حصاد الدمار. أرقامٌ لا يكترث لها أحدٌ إلا عند عتبةٍ ما، عتبة ترتفع أو تنخفض حسب جنس الضحايا، وحسب أدوات قتلهم أو تهجيرهم، وحسب جنسية الجاني، وحسب ظروف اللحظة الراهنة وفترة الصراع واعتياد الناس له. حتى في المآسي يبحث البشر عن الإثارة، وما شعارات التضامن والتكافل والإخاء إلا من باب إراحة الضمائر، والتي غالباً ما تكون فرديّةً لا تشكّل ثقلاً في موازين السياسة والفعل الحقيقي.
ينظر المتلقّي إلى صور ويستمع إلى أرقام، ينسى الوجوه بعد ثانية، فهي ليست وجوه أبنائه. يدفع المتبرّع عشرة دولارات ثم يذهب إلى التسوّق والتنزّه. وحدهم ضحايا الحروب يعانون الألم بشكل دائم ومستمر، فمن بُترت ساقه أو ذراعه، ومن فقد بصره أو سمعه، ومن فقد زوجه أو أبناءه أو أملاكه، وحده من يعرف معنى الألم ومرارة الفقد والحرمان.
يستسهل السياسيون وأنصافهم، كذلك الثوار وأشباههم، والمتحاربون كلّهم، قضايا المدنيين، فتراهم يتحدّثون عن التهجير وكأنّه رحلة سياحيّة! لا يدرك هؤلاء أنّ للناس جذورا في الأرض كالأشجار، ولها كالطيور أعشاشا تألفها ولا تقوى على تركها، وإن فعلت تحنّ إليها. لا يعرف هؤلاء أنّ الناس تتأقلم وتستمر على الرغم من اقتلاع جذورها، لكنّها تذبل وتنكسر أغصانها. ألا يدرك هؤلاء أنّ الطيور لا تبقى في السماء دوماً، بل تحطّ على الأرض أيضاً لتحيا، ألا يعلمون أن الحناجر الممزّقة لا تقوى على الغناء؟
سمعنا وقرأنا بيانات تطالب بالتهجير الجماعي لأهالي درعا البلد، وبعضهم شمل أهل المحافظة كلّها، أي ما يزيد على نصف مليون إنسان. وعلى الرغمّ من أنّ التهجير الجماعي يشكّل جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية وفق القانون الدولي الذي تقوم عليه منظمة الأمم المتحدة، فقد شاركت هذه باستعمال سلاح التهجير، أو بتيسيره أو بالتغاضي عنه في سورية منذ بدء حصار المدن والأحياء. والتهجير سلاح ذو حدّين، فهو يُفرغ المنطقة من سكانها كلياً أو جزئياً، وهو يساهم في إحلال سكان آخرين مكانهم، إنّه إحدى أدوات التغيير الديموغرافي.
على الرغم من تقدير ظروف البشر القابعين تحت القصف والحصار، وعلى الرغم من المخاطر التي لا يمكن توقّعها من تجويع وتعطيش وإذلال وتهديد بكلّ مؤذٍ ومسيء للجسد والروح والكرامة البشرية، إلا أنّه لا يمكن أن يكون مطلب تهجير سكان محافظة أو مدينة شيئاً مقبولاً أبداً. حتى ولو كان المطلب قد رفعه بعضٌ من أهل المدينة تلك، وحتى ولو كان على سبيل المناورة السياسية وللفت الانتباه لا غير. إنّها جريمة ولا يمكن لعاقل المشاركة بها.
المدنيون هم الطرف الأضعف في كلّ حلقات الصراع، إنهم كالورود في ساحة المعركة، لا يأبه لهم أحدٌ وتدوسهم سنابك الخيل التي تحمل من يتكلّمون باسمهم، تهرسهم جنازير المدرّعات التي يقودها من وُجدَ أساساً لحمايتهم. وتعظمُ المأساة عندما تأتي الجريمة على يد من يفترض بهم حمايتهم، على يد جيش بلادهم المفترض به الدفاع عنهم. يا لمأساة السوريين التي لا نهاية لها!
المصدر: العربي الجديد