كيف بلعنا الطعم؟  

د. أحمد سامر العش

في يوم صيفي من صباح 7 تموز 2011 ترجل السفيرُ الأمريكيُّ في سوريا روبرت فورد Robert” Stephen Ford” من سيارته ليشاركَ في مسيرة حماة السلمية وعندها هلل الشعبُ السوري فرحاً بقرب النهاية ! في لقاء مع السفيرة الأمريكية “ايبريل جلاسبى-“ April Glaspie يوم 25 يوليو 1990 أجابت إيبريلُ صدامَ في وقتها أنَّ أمريكا لاشأنَ لها بطريقة حلِّ خلافاته مع الكويت ! في ليبيا كان الدعمُ الغربي للثوار مفتوحًا لدرجة أنه أعطاهم إحداثياتِ عربةِ القذافي عبر الأقمار الصناعية ، لكننا بلعنا الطعم ! في الأردن في حرب 1948 كان الضابط البريطاني الجنرال جون باغوت جلوب John Bagot Glubb القائد العام للجيش الأردني ، ومن يقودُ الجيش الأردني ميدانياً العميدُ نورمان لاش Norman Lash ، ومع ذلك استغربنا الهزيمة !

تشكيل غرفتي الموك والموم ، (Military Operations Center) ومؤتمرُ أصدقاء الشعبِ السوري كان الإسفين الأول لتدمير ثورة شعبٍ يُمكن أن توصف بالأكبر في القرن الحادي والعشرين! هدف الألفية للقضاء على الفقر المدقع والجوع” (كما يدعون!) والذي أصبح يسمى اصطلاحاً MDG no. 1 هو بداية رحلة تطويع البشر باستخدام سلاح الجوع !

لكنّ المحورَ الاساسي للبحث كيف بلعْنا الطعم بهذه السهولة ؟!!

لقد كان أوائلُ القادة الأميركيين مثل جورج واشنطن وجون أدامز وتوماس جيفرسون يرون التعليمَ والثقافة عناصرَ أساسية للديمقراطية الوليدة وحجر زاوية لبناء نظام ديمقراطي ، فلا ديمقراطية بلا تعليم.وتلك الفكرة قديمة تعود لأيام الاغريق ,فقد رأى الفيلسوف اليوناني أفلاطون أن النظام يمكن أن ينهارَ فجأة أمام حكمِ الفوضى ، عندما يظن الناسُ أنهم يمتلكون حقًا مكتسبًا للتعبير عن آرائهم بصوت عال، والتحدثِ بكل ما يدور في أذهانهم، ثم التصرف وفق تلك الأفكار، وغالبا يكون هذا التصرفُ عنيفاً، ويتم حينها اتخاذُ قرارات غير مدروسة.

الديمقراطياتُ والدولُ غالباً ما تتراجع بسبب الزعماء الفاسدين، إلا أنها يمكن أيضا أن تنهارَ بسبب قلة وعي الشعب ؛ إذ أنّ وجودَ عددٍ كبير من الجماهير الجاهلةِ التي تشاركُ في اتخاذ القرار أمرٌ لطالما أثار خوف الفلاسفةِ والكتاب والسياسيين . فعلى سبيل المثال : الفيلسوف الفرنسي بارون مونتسكيو Baron Montesquieu -الذي عاش خلال القرن 18- حذّر من أن غير المتعلمين سيتخذون قراراتٍ عاطفيةً تسبب ضررًا كبيرًا ، ولذلك يجب- بحسب مونتسيكو- توجيههم من قبل الأشخاص الأكثر علماً ، أو فرضُ قيودٍ عليهم . ومن هذا المنطلق، كان أوائل القادة الأميركيين -مثل جورج واشنطن، وجون أدامز، وتوماس جيفرسون، وألكسندر هاملتون- يثقون في الشعب، ولكن هذا الشعب بالنسبة لهم كان يتمثل في الرجل الأبيض صاحبِ الأملاك، الذي يمتلك قدراً كافياً من التعليم .

كان توماس جيفرسون Thomas Jefferson -الكاتبُ الرئيسي لإعلان الاستقلال الأمريكي- يهتمُّ إلى حد الهوس بتعليم الناشئة في الولايات المتحدة، ويؤكد ضرورةَ تنوير عقولهم ونشر العلم لدى الجماهير، من خلال تلقينهم المعلوماتِ والحقائقَ التاريخيةَ ، حتى يكتب للديمقراطية الأمريكية البقاءُ والاستمرار .حيث كان يقول؛ “يجبُ تعليمُ جماهير المواطنين وتمكينُهم من كل المعلومات، إذ أن حريتنا لا يمكن أن تكون في مأمن إلا إذا كانت في أيدي الشعب نفسه، ويكون هذا الشعب على قدر معين من التعليم”. وما حذر منه جيفرسون هوحاليًا مصدرُ الخوف الأول للمؤسسات الأمريكية ذات الميزانيات الهائلة، فالانخفاض المخيف في مستوى التعليم والثقافة لدى عموم الشعب الأمريكي كان السبب الرئيسي وراء الشعبوية التي حدثت في فترة رئاسة دونالد ترامب ومابعدها !

لقد كتب جيفرسون مُلخِصًا هذه النقطةَ؛ “إن التعليمَ له تأثيراتٌ مباشرةٌ على الديمقراطية، وكلما كان المواطنون مثقفين بشكل جيد، يمكن استئمانُهُم على تسيير شؤون حكمهم”.

هنري بيتر بروجهامHenry Peter Brougham- في عام 1828 قال عبارته الشهيرة “التعليمُ يجعل قيادةَ الناسِ أمرًا سهلًا ، يجعل من السهل حُكمهم ، ولكن من المستحيل استعبادُهم “. لقد أكد جورج واشنطن (أول رئيس للولايات المتحدة من 1789 إلى 1797 ) على ضرورة تثقيف المواطنين في مجال التاريخ، وأكد كذلك على أهمية دعم التعليم ونشر المبادئ السياسية، والحد من تركيز الناس على اختلافاتهم وهوياتهم المحلية المتشظية. وبهذه الطريقة- بحسب رأي واشنطن- يتم نشر التفاهمُ بين العامة؛ و يمكنُ بالفعل بناءُ أمة مستدامة، وبالتالي إنقاذ الديمقراطية.

الخلاصة:

فكرةُ إنشاءِ جامعة عمومية لتعليم الناس المبادئَ السياسيةَ ودورَ الناس في بناء الدول ونهوض الأمم – كما طالب جورج واشنطن في آواخر عهده الرئاسي- تسعى بحسب وجهة نظرِ بعضهم لجعل الناس متشابهين و بالتالي -بحسب رأي هؤلاء-تبدو فكرةً مرفوضةً في أيامنا هذه؛ إذ يتم دائماً الاحتفاءُ وترويجُ فكرةِ التنوع الثقافي وتقديس الاختلاف خصوصاً في مجتمعاتنا المحطمة ،لكنّ مقترحَ إنشاءِ جامعة ، يتم فيها تدريسُ كلِّ ما هو مرتبطٌ بشؤون الحكم، مثل التاريخ وقوانين الطبيعة والسنن الكونية، والقانون المدني، والقوانين المحلية للبلاد، ومبادئ التجارة تبدو فكرةً لابد منها في دولنا الرخوةِ لبناء دولة المواطنة الحقيقية.

لذا لكي لانبلع الطعم علينا أن نتبنى التعليمَ طريقًا لابدّ منه لبناء الإنسانِ والدولِ ، وجعلِ المواطنةِ مسؤوليةً والتزامًا قبل أن تكونَ امتيازاتٍ وحقوقًا . في واقعنا الراهن ومن تجربة خاصة مع المنظومة الحاكمة ، كنا نطلب منهم ونحدثهم بإسهاب عن الماوئ والغذاء لملايين النازحين ، وهم يسألوننا : ماذا ستعلمون هؤلاء المشرديين ! لقد أدركوا حيثُ كنا نجهلُ أنّ إعادة بناءِ دولنا المحطمة ليس لها طريقٌ إلا التعليم والعلم .ولهذا عملوا جهدهم على تخفيف الميزانياتِ المخصصة لذلك . وكم أسعدني رؤيةُ تجربةٍ رائدةٍ وبإمكانيات متواضعةٍ بل تكاد تكون معدومةً لتدريس 7000 طالبٍ جامعي في جامعة حلب الحرة . وكم سأكون سعيدأ إذا أنشأنا فرعاً جديداً أسمُه الجامعةُ الوطنية كما أقترح الطبيبُ الأميركي بنجامين راش Benjamin Rush في خطاب موجه لشعب الولايات المتحدة في عام 1787.

المصدر: كلنا شركاء

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى