درعا كانت البداية، حين انتفضت بشبابها وشاباتها وشيوخها وأطفالها، معلنةً أن كرامة الإنسان السوري لا يمكن أن تستمر بالنزيف تحت أقدام زعران آل الأسد، ومؤكِّدةً – آنذاك – أن سفاهة و نذالة عاطف نجيب بحق الأطفال الذين اعتقلهم ونكّل بهم، لن تكون بطاقة عبور لاستباحة كرامة السوريين إلى الأبد، وشهد العالم أجمع – آنذاك – مقدار التضامن الهائل بين جميع بلدات وقرى حوران حين تحوّلت مدينة درعا وأريافها إلى شعلة وقّادة ، سرعان ما انتشرت شآبيبها إلى كافة المحافظات السورية، وبهذا كانت درعا قد قادت قطار الثورة السورية لتجعله على سكّة ثورات الربيع العربي.
اليوم ، إذ تنتفض من جديد، رافضةً الرضوخ لقوات الأسد وحلفائه الإيرانيين استباحة المدينة، فإنما تدافع عن أرواح أهلها وأعراضهم وممتلكاتهم، وحين تتلاحم فصائلها ومواطنوها في صف واحد، ليجسّدوا موقفاً موحّداً في وجه العدوان، إنما تعيد إلى الأذهان وحدة الحراك الثوري السوري في الطور النظيف والناصع للثورة.
ما يفعله أحرار درعا اليوم، يمكن ان يكون برهاناً ساطعاً على أن جذوة الحرية في نفوس السوريين أقوى وأبقى من مراوغات ثعالب وسماسرة المصالحات، لذلك لا غرابة في أن يعاد القول: لقد كذب العرابون وإن صدقوا.
ربما تتعدّد الذرائع والمبررات التي يسوقها نظام الأسد لعدوانه على درعا، ولكن واقع الحال يؤكد أن نظام دمشق لا يحتاج إلى مبررات للعدوان، أليس جميع السوريين الذين انتفضوا ضدّ حكمه أعداء له، أليسوا إرهابيين أو يشكلون حواضن للإرهاب بحسب كلام رأس النظام نفسه؟
يبدو أن منطق الثأرية والحقد والانتقام هو المنهج الرابخ لدى سلطة دمشق، إذ لقد أجمع الأَخَوَان في عام 1982 ( حافظ ورفعت الأسد) على أن يجعلوا من مدينة حماة عبرةً للسوريين، وبالفعل كان لهم أنْ اجتاحوها وقتلوا من سكانها ما يقارب الأربعين ألفاً، فضلاً عن أن مظاهر التنكيل والترويع والفظائع التي ارتكبها أزلام الأسد في حماة آنذاك ما تزال ماثلة في ذاكرة الضحايا، ولن تزول، واليوم إذْ يوعز بشار الأسد إلى أخيه ماهر، بالعدوان من جديد على درعا، فإنه يؤكّد على أن من يحكم السوريين هو العقلية الأسدية ذاتها، والتي لا يمكن أن تتبدّل ماهيتها، بتبدّل الظروف والأحداث.
جرائم ومجازر حافظ الأسد في مطلع الثمانينيات لم تجد رادعاً لها، لا من المجتمع الدولي، ولم تلق -كذلك – احتجاجاً شعبياً محلياً يرقى إلى مستوى فظاعة سلوك الأسد، فمضى الأسد مستمراً في التسلّط على رقاب السوريين، ولا يرى ابنه بشار – اليوم – أيّ غضاضة من أن يكون أميناً لإرث أبيه، طالما غاب الرادع.
لقد حان أن يفهم السوريون أن استئصال اللوثة الأسدية من الأرض السورية هي مهمة سورية بامتياز، ذلك أن الرهان على الخارج – بشتى أشكاله وتجلياته – لم يزد الموقف إلّا تشعّباً، بل وزاد في المأساة عمقاً واتساعاً، والصورة التي يظهر فيها احرار درعا كثائرين مدافعين عن أرواحهم وأطفالهم وأعراضهم هي من أنضر صور البطولة والبسالة، وهي المحتوى الأنقى لأي مشروع تحرري وطني، ألم تكن الثورة السورية بالأصل هي دفاع عن الحقوق واسترداد للكرامة المغتصبة؟
لعلها من المفارقات المؤلمة التي أضحت مألوفة وللأسف في واقعنا السورية، ومبعث الألم أن يحاصر النظام، ثم يجتاح مدناً بكاملها، الواحدة تلو الأخرى. في درعا اليوم ما يناهز خمسين ألف مواطن، كلهم مهددون بالموت والتنكيل، أو ربما التهجير الجماعي في أفضل الحالات، فهل ينتظر أهل مدينة ادلب دورهم بعد درعا؟
الدعوة إلى انتفاضة شعبية في جميع المدن والبلدات السورية، بما فيها التي تقع تحت سلطة قوات الأسد، تضامنا مع درعا وسبيلاً لاستعادة زمام المبادرة الثورية، قد تبدو ضرباً من الشعبوية ، أو نوعا من المزايدة ، أو شكلاً من الطوباوية، وذلك في ضوء ما تشهده الجغرافية السورية من تقطّع في الأوصال، وخضوع لسلطات أمر واقع متنوعة، وكذلك في ضوء ارتهان القرار الوطني السوري بيد قوى خارجية، مما يجعل قيام حراك وطني من جديد أمراً عسير المنال، ولكن على الرغم من ذلك ، تبقى انتفاضة درعا الجديدة فرصةً ثمينة لعودة قطار الثورة إلى سكته من جديد.
المصدر: الرأي