23 يوليو ١٩٥٢، الثورة العظيمة المغدورة

د. مخلص الصيادي

٢٣ يوليو ذكرى الثورة المجيدة، الحدث الأهم الذي جمع الأمة العربية حول مشروع واحد، يستهدف نهضتها ومستقبلها، وجمع حولها كل دوائر التأثير والفعل في دوائر العقيدة، ودوائر الجغرافيا السياسية، ومثلت إشراقا تهتدي به كل قوى التحرر في العالم، وتتطلع إليه كل شعوب العالم التي داست فوقها قوى الاستعمار والاستبداد، فامتصت خيراتها، وسرقت ثرواتها، ودمرت مظاهر الحياة والحيوية في مجتمعاتها.

على أصدائها سمعت قوى الاستعمار والاستغلال استجابات قوية امتدت من كوبا والارجنتين، إلى الكونغو وجنوب أفريقيا، إلى اندونيسيا والملايو ، وقرعت هذه الثورة، و هذه الأصداء كل عواصم الغرب الاستعمارية من واشنطن ولندن وباريس وصولا إلى تل أبيب عاصمة الكيان الصهيوني، وكان القرار الحاسم بضرورة التصدي لهذه الثورة، أو بشكل أدق التصدي لهذه الأمة التي مثلت الثورة تجليات نهوضها.

والحق أن الضربات القاسية التي وجهت لثورة يوليو وكان أخطرها عدوان الخامس من يونيو ١٩٦٧ لم تستطع أن تقضي على الثورة، ولم تستطع أو توقفها، ولم تستطع أن تؤثر على ارتباط الناس بها، جميع للناس، في الوطن العربي وعلى مستوى العالم، بل لعلنا لا نتعدى على الحقيقة حين نقول إن هذه العدوانية زادت من ارتباط الناس بالثورة وبقيادتها، وإذا كان عدوان ١٩٥٦ قد سلط الضوء   بقوة على هذه الثورة وطبيعتها،  فإن ردود فعل الناس كل الناس عقب عدوان ١٩٦٧ قد كشف بقوة باهرة  غير مسبوقة العلاقة الصافية العميقة والراسخة بين قيادة الثورة ممثلة بجمال عبد الناصر، وبين الناس عموم الناس، وعلى مساحة الأرض التي تتطلع إلى التحرر والتنمية والانتصار للحق والعدل والحرية.

الرسالة التي  أرادتها الجماهير التي خرجت يوم ٩ و ١٠ يونيو، تعلن تمسكها  بالزعيم “المهزوم”، الذي أعلن تحمله كامل المسؤولية عن النكسة، كانت تحمل في مضمونها إيمانا لا يتزعزع بالثورة وأهدافها، وبإخلاص قيادتها وأهليتها لمتابعة الطريق، واستعادة  زمام المبادرة، والتقدم عل. طريق النصر.

ولم يخب يقين هذه الجماهير اذ لم تمض اسابيع وحتى بدأت مسيرة التصدي للعدوان وبناء القوات المسلحة، وبناء الجبهة الداخلية، ودخول حرب الاستنزاف، ووضع استراتيجية التحرير. وتعزيز جبهة المواجهة عربيا ودوليا.

كل معارك المواجهة التي دخلتها ثورة يوليو  حملت في طياتها ومنعطفاتها  انتصارات وهزائم. حملت تقدما وتراجعا، لكنها جميعها دونما استثناء عملت على ترسيخ أقدام الثورة وهي تتقدم في اتجاه أهدافها.

لم تستطع قوى التآمر والعدوان أن تسقط الثورة، أو تهزمها فتخرجها عن مسارها أو تخرجها من ساحة الفعل.

وحين تحقق لأعداء الأمة أن يحققوا هدف هزيمة الثورة، تمكنوا من ذلك بفعل قوى من داخل الثورة نفسها، بعد أن فقدت هذه الثورة قائدها،  وبعد أن تم بالتآمر الداخلي التخلص من رجالات الثورة، واستعمل المتآمرون لتمرير انقلابهم  استعمالا رخيصا الافتتاحية العظيمة لحرب اكتوبر التي نفذها جيش مصر واللحمة التي تحققت مع الجيش السوري، وتم وضع كل ذلك في مسار تسوية هي في حقيقتها تنفيذ لمآرب القوى الاستعمارية التي عجزت عن تحقيق ذلك بالعدوان المباشر. وكان من نتيجة هذا التآمر، أن أخرجت مصر من مكانها ومكانها العربي والافريقي والدولي، وبعدها تتابع الانهيار، حتى وصلنا الى ما وصلنا إليه.

ولا شك أن القوى العربية والدولية التي واجهت ثورة يوليو منذ لحظة انطلاقها، والقوى الداخلية التي ارتدت على الثورة ووجهت لها الضربة القاصمة، هي صاحبة الخط السياسي والاجتماعي التي تعيشه الأمة منذ ما بعد حرب اكتوبر، ولا تزال.

هي المسؤولة عن الانهيار والتبعية والضعف والهوان. وانعدام الارادة المستقلة.

هي المسؤولة عن هذا الصغار الذي ينظر من خلاله أعداء الأمة لمصالح الأمة، فيعملون على خنقها وتفتيتها، وما حدث ويحدث في فلسطين وفي العراق وسوريا  ولبنان واليمن، وما يحدث للنيل.

 

إن الاستعلاء الإيراني والأثيوبي، والاسرائيلي كله نتاج هذه المسيرة، وأصحابها هم المسؤولون عنها مسؤولية مباشرة.

 

إن بحار الدم الوطني التي أهرقتها أنظمة الاستبداد والطائفية والقتل في هذه البلدان هي من النتاج الطبيعي لهذه المسيرة.

كل ما أقامته الثورة أو عملت من أجله على مختلف الصعد تم إهداره أو تصفيته، كله دون استثاء، تم بيع كل ذلك إما بالمزاد العلني، أو للقوى الخارجية من خلال اتفاقات وأحلاف العرب فيها بكل أنظمتهم ودولهم. وأسلحتهم وأجهزتهم ومشروعاتهم الاقتصادية الضخمة المعلن عنها، مجرد أرقام تابعة خادمة للغير لا قيمة فعلية لها، لذلك هي جميعها لم تقدم شيئا ذا قيمة لا لمجتمعاتنا ولا لهذه الأنظمة.

 

شيء واحد بقي لثورة ٢٣ يوليو لم يستطع كل هذا العدوان الطاغي أن يؤثر فيه.

 

شيء واحد بات ثابتا وراسخا وعصي على التزوير والتشويه رغم المحا لات الدؤوبة والمتتابعة،

شيء واحد ما زال شامخا لم يستطع أحد أن يتجاوزه.

شيء نجده في أمرين اثنين جاءت بهما ثورة يوليو:

** مشروع الثورة للنهوض بهذه الأمة، في إطارها الطبيعي القومي والانساني، وفي بعدها الاجتماعي النهضوي.

وعلى مدى واحد وخمسين سنة من غياب الثورة، عجزت جميع القوى المعادية، بتحالفاتها، وبالثروات الهائلة التي رصدت ووظفت لهذا الغرض. أن تقدم طريق نهوض بديل، ذلك أنها لم تكن تبغي أصلا البحث عن طريق حقيقي للنمو والتقدم. ثم إن الطريق الوحيد الممكن هو الطريق القائم على توظيف طاقات الأمة وقواها ومثل هذه القوى ليس لها في هذا السبيل مكان.

** وإلى جانب مشروع ثورة يوليو. فقد قدمت الثورة نموذجا في القيادة سكن قلب الناس ووجدانهم، ورسخ في أعماقهم. نموذج القائد المخلص الطاهر الصادق الذي ينظر لنفسه دائما على أنه “مؤتمن”، عن الناس، ومؤتمن على الناس.

وقد اتعب هذا النموذج من كان حوله في حياته، أما في المرحلة اللاحقة مرحلة الردة فقد أصبح انموذجا مخيفا يهتك استار فساد قادة هذه المرحلة، وخراب ضمائرهم.

هذا الذي بقي من ثورة يوليو:  نموذح البناء والنهضة،  ونموذج القيادة المخلصة الصادقة والطاهرة.

والذي يدقق في مسيرة القوى المعادية سيكتشف بسرعة وبدون عناء أن هذه القوى بذلت منذ اللحظة الأولى لنجاح الردة. وما زالت تبذل كل غال ورخيص للتأثير على هذا الإرث الذي تركته ثورة يوليو، وسوف تستمر، لكنها دائما، تسجل الفشل تلو الفشل، ويبقى هذا الارث لثورة يوليو راسخا، وتأتي الإحداث حدثا إثر حدث لتذكرنا بما تعني ثورة يوليو، ولتذكرنا بما يعني النموذج الذي قدمته قيادة هذه الثورة،

وفي كل محطة من محطات الاختبار الخطرة نكتشف ان الثورة وقيادتها حاضرة في الضمير الجمعي للأمة، وأن كل محاولات النيل منها تبوء بالفشل، بل إنها تدل على مدى الانحطاط والذل والتبعية والفساد الذي أحاط ويحيط بأعداء تلك الثورة وتلك القيادة.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى