بعد تسلم الوريث القاصر الحكم صيف العام 2000، أيقن مَن حوله من الحرس القديم بأن رياح التغيير لا بد قادمة، والنار التي تحت الرماد ستشتعل في وجههم لا محالة، ونظام حكم الطائفة شارف على الزوال بحلول الأربعين عاماً، كما كان يهمس لنا بعضهم في لحظات اللاوعي أحياناً، أو برسائل مقصودة أحياناً أخرى.
بناء عليه قام رئيس أركان الجيش آنذاك العماد علي أصلان، أحد أهم وأقوى رجال الحرس القديم لحافظ الأسد، وأكثرهم طائفيةً، بهندسة انتشار وتموضع وحدات الجيش القتالية في المحافظات الشمالية والشرقية.
شكلت الفرقة 17، ومقر قيادتها بالقرب من مدينة الرقة، ونشرت على كامل مساحة المنطقة الشرقية، فكان نصيب محافظة دير الزور اللواء 137 ميكانيكي محمول، ومحافظة الرقة اللواء 93 دبابات في عين عيسى، وكان النصيب الأكبر لمحافظة الحسكة حيث انتشر اللواء \123\ مشاة، الذي كان مقر قيادته بالقرب من جبل كوكب، والفوج \54\ قوات خاصة الذي اتخذ من تل طرطب قرب مدينة القامشلي مقراً لقيادته، وبالتالي أصبحت المحافظات الثلاث محاطة بطوق عسكري كبير، لإرهاب أهلها لا لحمايتها من عدو خارجي.
أما في الشمال حيث لا توجد قطعات عسكرية قتالية برية، سوى الكليات العسكرية (كلية المدفعية، كلية التسليح، أكاديمية الأسد للهندسة العسكرية، الكلية الجوية، المدرسة الفنية الجوية، كلية المشاة) ومطارات الحوامات والتدريب (تفتناز، كويرس، منغ، النيرب، كشيش) فقد اختصها النظام بالفوج 46 قوات خاصة إنزال، هذا الفوج الذي يحفل بتاريخ اجرامي كبير في لبنان، من قتل واعتقالات وتنكيل بالإخوة اللبنانيين والفلسطينيين على مدار السنوات التي كانت فيها قوات الأسد تحتل لبنان، قبل أن يتم طردها في آذار 2004.
تموضع الفوج في منطقة مرتفعة وحاكمة من الريف الغربي لمدينة حلب بالقرب من مدينة الأتارب، تعتبر حلقة وصل بين أرياف حلب الغربي والجنوبي وريف إدلب الشمالي، وعلى مسافة أقل من 20 كم من معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا، مشرفاً على كامل المنطقة وصولا إلى قرى وبلدات جسر الشغور.
مع بداية انطلاق الثورة واتساع رقعة الاحتجاجات، عزز النظام قواته في الفوج بكتيبة راجمات كورية كاتيوشا، وسرية مدفعية (122- 130)، وسرية دبابات، بالإضافة لقواعد ال م\د المحمولة على الكتف (كونكورس، مالودكا، ميتس، كورنيت، 29ن)، استعداداً لقمع ثورة الكرامة والحرية، فكانت القرى والبلدات التي تقع تحت مرمى تلك الأسلحة على موعد يومي مع وابل كثيف من القصف والتدمير وقتل المدنيين العزل.
بعد انتصار الثوار المذهل في معركة تحرير معبر باب الهوى التي كانت فاتحة المعارك الكبرى في المنطقة، زادت ثقة الثوار بأنفسهم وبقدراتهم القتالية وبحتمية انتصار ثورتهم، وعظمت قناعتهم أن أساس النصر الإيمان بعدالة القضية التي يقاتلون من أجلها، ما جعل ميزان القوة العسكرية خارج حساباتهم، فالهدف السامي الذي يقاتلون من أجله أكبر وأقوى من طائرات النظام وصواريخه.
بعد تحرير مدينة الأتارب في الأول من شهر تموز 2012، وانسحاب ما تبقى من فلول قوات النظام إلى مدرسة الزراعة الواقعة على مفرق بلدة الأبزمو، لتصبح خط الدفاع الأول عن الفوج، تبعها الانتصار في معركة صد الرتل وتدميره في السادس عشر من شهر آب، كان لا بد من تحرير الفوج 46 الذي عاث في المنطقة قتلاً وتدميراً بمدفعيته وراجماته في القرى والبلدات المجاورة حتى باب الهوى.
المعركة الأولى: شبيحة أصبحوا ثواراً أبطالاً
تم التخطيط للمعركة مع بداية الشهر التاسع من العام 2012، من قبل مجموعة من الضباط المنشقين والقادة الثوريين، أغلبهم من أبناء المنطقة، وتم تحديد محاور القتال وتوزيع المهام على الفصائل المشاركة (لواء الأنصار، كتائب نور الدين الزنكي، لواء شهداء الأتارب، لواء أمجاد الإسلام، لواء أحرار دارة عزة، لواء آل البيت) ومجموعات من أبناء المنطقة.
بدأ هجوم الثوار مع أول ضوء، بما توفر لديهم من أسلحة خفيفة ومتوسطة وقليل من الذخائر التي غنموها من المعارك السابقة، لا تكاد تكفي لتحرير سرية أو حاجز، وليس فوج قوات خاصة معززاً، ومعه العديد من القرى المجاورة المليئة بالشبيحة.
بعد معارك ضارية ارتقى فيها الكثير من الشهداء على محور الفوج ومدرسة الزراعة، حيث الكتلة النارية الأكبر للقوى والوسائط، ومقر القيادة، لم يستطع الثوار بإمكانياتهم البسيطة، تحقيق أي تقدم، وتوقف العمل على هذا الاتجاه، منحازين لاستكمال العمل على المحاور الأخرى، حيث يخوض أبطال لواء الأنصار معارك شرسة في ريف المهندسين، وأورم الكبرى، بالتنسيق مع كتائب الزنكي التي هاجم أبطالها حاجز عويجل وحرروه، واستمرت المعارك الطاحنة لمدة ثلاثة أيام، تم على إثرها تحرير كل القرى المحيطة بالفوج والواقعة على طريق خط الإمداد (أورم الصغرى، كفر جوم، الشيخ علي، عرادة، كفرناها) وكان الأهم تحرير بلدة أورم الكبرى الواقعة على طريق الإمداد والمليئة بالشبيحة الذين يزيد عددهم على 400 شبيح يتزعمهم أبو دريد، وأبو يزن، ومع سقوط هذه البلدة تساقطت باقي القرى واستسلم عدد كبير من هؤلاء الشبيحة، مع تسليم أسلحتهم التي كانوا قد تسلموها من النظام، ومن نافل القول أن أذكر هنا أن كثيراً منهم انضم إلى صفوف الثوار بعدها وقاتلوا معهم قتال الأبطال في المعارك اللاحقة، وأغلبهم استشهد، وهنا دلالة كبيرة على استثمار النظام وأجهزته الأمنية لبساطة وعفوية هؤلاء الناس وغسيل أدمغتهم بأنهم يدافعون عن وطنهم في وجه الإرهابيين والتنظيمات الجهادية بالفعل.
بعدها بأيام خرج رتل كبير لقوات النظام من بلدة خان العسل، كانت وجهته فك الحصار عن الفوج واستعادة المناطق التي سيطر عليها الثوار، لكنه لاقى مقاومة عنيفة من جميع الفصائل الموجودة في المنطقة، ودارت رحى معارك طحنت الأخضر واليابس استمرت 52 يوماً، لم يستطع النظام خلالها التقدم سوى 7 كم، كانت معارك استنزاف ارتقى فيها عدد كبير من الشهداء، وتعرض الكثير من المقاتلين لإصابات بليغة أخرجتهم من المعركة، وأصبح الوضع حرجاً، وأوشكت الفصائل على الانهيار، ولم يعد بمقدور الثوار الصمود في وجه الرتل، فالذخيرة نفدت، وأعداد الشهداء والمصابين فاقت القدرة على التحمل.
في الأثناء، وفي الثالث من تشرين الثاني من العام نفسه، حررت فصائل الجيش الحر كتيبة الصواريخ في الدويلة بالقرب من مدينة كفرتخاريم، وغنموا منها الكثير من الأسلحة والذخائر، وخاصة رشاشات (23، دوشكا،14.5)، فأصبح لدى الثوار قوى ووسائط كافية لتأمين تغطية نارية جيدة، فقرر القادة إعادة الكرة لتحرير الفوج، وبالتالي إنهاء مهمة الرتل الذي يسعى للوصول إلى الفوج وفك الحصار عنه.
في الثامن عشر من تشرين الثاني 2012، كُلف العقيد عبد الباسط طويل بقيادة العملية، واجتمع مع جميع الضباط قادة الفصائل المشاركين في المعركة ووضعوا خطة المعركة بشكل علمي، محكم ومدروس، وكان عنصر المفاجأة بالتوقيت عصراً، واختيار اتجاه الضربة الرئيسية، واللذان كانا يخالفان توقعات القوات المدافعة.
بدأت المعركة برمي التمهيد المدفعي من مدافع الهاون، وراجمة كورية قدمتها القيادة المشتركة للمجالس العسكرية آنذاك، وكان لخبرة الرماة (النقيب عبدو جيلو، والنقيب نبيل محمد، ابن الجولان المباع) دور هام في الإصابات المحققة على مقر قيادة الفوج، ومدرسة الزراعة.
هاجمت الفصائل والمجموعات التي كان يقودها جميعاً ضباط منشقون، كلٌّ حسب المحور المحدد له ملتزمين بالخطة العسكرية، ودارت رحى معركة ربما كانت هي الأعنف والأقوى، استمرت حتى منتصف الليل دون توقف أو انقطاع، كانت المقاومة عنيفة جدا، وخاصة في مدرسة الزراعة التي كان يقود القوات فيها العقيد علي زرزر المعروف بولائه الشديد، وعناده وشراسته في القتال، والإصرار على الصمود على أمل وصول رتل المؤازرة، الذي كان الفضل الكبير بالتصدي له للواء الأنصار وكتائب الزنكي بقيادة المقدم محمد بكور (أبو بكر)، النقيب خالد العمر، العائد من الإصابة حديثاً، والشهيد النقيب المهندس سعيد عبود (أبو جاسم)، النقيب محمد حمود (أبو حكمت) الذين كان لهم الفضل الكبير بالتصدي للرتل المهاجم وإعاقة تقدمه، ساندهم بذلك لواء آل البيت بقيادة عبدو زمزم، وكتيبة الشيوخ بقيادة النقيب رامي قوجة المعروف بمصطفى الشيوخ، وكتيبة من الإخوة الأكراد بقيادة أبو رسول، ومجموعات متفرقة كثيرة.
عند منتصف الليل تخلى العقيد علي زرزر، المدافع عن مدرسة الزراعة، عن عناده وأدرك أنه لا يمكن الصمود في موقعين، بعد أن تم اختراق تردد قبضته اللاسلكية، وخاطبه قائد العملية بقوله: “شوف ولاك علي، نحن يا منموت، يا منفوت” فانسحب مع ما تبقى من ضباطه وجنوده إلى الفوج، لتعزيز خط الدفاع عن الجهة الشمالية الشرقية حيث مقر القيادة ومستودعات السلاح، وسقطت القلعة المتقدمة، على أيدي أبطال المجموعة التي كان يقودها النقيب علي شاكردي، والرائد ياسر عبد الرحيم، والنقيب ناجي مصطفى، الذي أصيب إصابة بليغة في الرأس، وأصيب معه القائد الثوري أبو حمدو الذهب في الرأس أيضاً.
استمرت المعركة طوال الليل وأنهك الطرفان، وكادت بعض المجموعات أن تنسحب، لولا الجنود المجهولون الذين نسميهم في العلم العسكري عصب المعركة، وهم مجموعة الإشارة التي كان يقودها النقيب المهندس عبد الرحمن نجار، الذي كان يتنصت ويراقب كل تحركات العدو ويبلغ عنها قائد العملية، فقد أبلغه أن نقاشاً يدور بين قائد الفوج وضباطه، حول طلب الأمان والانسحاب.
مع شروق شمس اليوم الثاني ووصول تعزيزات ومؤازرات جديدة من كتائب الزنكي ولواء الأنصار، أعاد القادة ترتيب الصفوف، وبدا النصر قاب قوسين، فشن الثوار هجوما كاسحاً، واستطاعت بعض المجموعات السيطرة على كتيبة الدبابات، وكتيبة المدفعية، وهنا برزت أهمية الخبرات العسكرية، ودور الضباط المحترفين، حيث جرى النقيب الأسمر محمد عثمان الملقب (باكيرا) المنشق أصلاً من كتيبة الدبابات في هذا الفوج، بسرعة الفهد، ليمتطي الدبابة ويمطر مقر القيادة بوابل من القذائف، وإلى جانبه النقيب خالد نذير، اختصاص مدفعية، فحرقوا مقر القيادة برمايات المدفعية والدبابات، ومع بلوغ الشمس كبد السماء كانت قد دخلت كل المجموعات معلنة تحرير الفوج، وفر قائد الفوج ومعه بعض الضباط بعربة (ب م ب) باتجاه بلدة الزربة، ومنها إلى الأكاديمية العسكرية، على الجانب الآخر، ومع بدء انهيار القوات في الفوج، انسحب الرتل المهاجم إلى مطاحن الفرواتي بالقرب من مدرسة الشرطة في منطقة مرتفعة ومحصنة جداً لحماية مدرسة الشرطة.
وكالعادة عند بلوغ النصر في كل معركة، وهذا ليس بجديد، فقد عهدناه منذ معركة أُحد، وانشغال المقاتلين بالغنائم، لا بد أن تحصل بعض الأخطاء، فمع إعلان التحرير توجهنا أنا والعقيد عبد الباسط، قائد العملية لدخول الفوج، وإذ بقناص مختبئ في إحدى الزوايا يمطرنا بطلقات قناصته، أخطأتنا ولله الحمد، وأصيب ابني أحمد، وعضو المجلس العسكري محمد هشام سواس إصابات طفيفة، وكأننا لم نتعلم الدرس ونأخذ العبر مما حصل مع العقيد أبو الفرات بعد إعلان تحرير كلية المشاة.
مع تحرير الفوج 46 أسدل الستار على فصل من فصول الإجرام الأسدي الذي كان يقض مضاجع سكان المنطقة على مدار الساعة، قتلاً وتدميراً، ليبدأ الثوار بالتخطيط والتحضير لمعركة جديدة تضاف إلى سجل البطولات التي خاضها أبطال الجيش الحر الذين ستُسَطر أسماؤهم في سجلات الخالدين، أذكر بعضاً منهم ممن كان له دور بارز في هذه المعركة.
الملازم أول مرشد الخالد، الملازم أول عبد الله عودة (أبو زيد)، النقيب محمد نجم، الملازم أول عمار سعد الدين، الشهيد النقيب عبد الواحد جمعة، الملازم أول أحمد حمادة، النقيب عبد الناصر شلوح (أبو جلال)، النقيب محمد عكاش، الشهيد الملازم أول علاء غنام، العميد المتقاعد أحمد الفج (أبو ماجد)، المساعد أول محمد الفج، الرقيب المنشق رامي بطران، بالإضافة إلى ثلة من القادة الثوريين الأبطال، أذكر منهم الشهيد نظام بركات، الشهيد عمار بطايحي، أنس الصالح، الشهيد عبد الكريم عكوش، هاني الخالد، الشهيد محمود بشير، عبد الوهاب عليوي، عبد الملك حسيني، ثائر عكوش، يوسف نزار، الشيخ مظهر الزين، الشهيد موسى المواس، الشهيد يحيى عمر، إبراهيم الشايب، حسام الأطرش، الشهيد يوسف زوعة، يوسف حمود، الشهيد الأستاذ محمد الأطرش، الشهيد أبو علي الحوراني، الشهيد أبو زيدان من مدينة عندان، الشهيد عبد العزيز باتبو، علاء عويجل، وكثير من الأبطال.
نظام بركات، الشهيد عمار بطايحي، أنس الصالح، الشهيد عبد الكريم عكوش، هاني الخالد، الشهيد محمود بشير، عبد الوهاب عليوي، عبد الملك حسيني، يوسف نزار، ( ثائر عكوش )
المصدر: تلفزيون سوريا