إنّه لأمر منطقي أن يمتد الصراع مع الصهيونيّة إلى ميدان الفِكر والدين، وأن تعمد الدعاية الصهيونيّة إلى استغلال أي مُعطى ديني وفِكري لخدمة مشروعها وأهدافها، ومحاولة إضفاء مزيد من «الشرعيّة التاريخيّة»، على الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، والتقليل أو الانتقاص من الشرعيّة التاريخيّة للوجود الإسلامي -وغير الإسلامي- فيها.
وليس بعيداً عن هذا السياق المسعى إلى نقل الجغرافيا الدينيّة للمسجد الأقصى من فلسطين (مدينة القدس)، إلى الجعرانة في شمالي المملكة العربية السعودية.
لا أريد القول إنّ كلّ من يتبنّى هذا الرأي يهدف إلى خدمة الدعاية الصهيونيّة، وإنّما أود القول إنّ هناك من يخدم هذه الدعاية عن قصد، وهناك في المقابل من يمارس نوعاً من التنظير العلمي الذي تستفيد منه هذه الدعاية.
وإن كان واضحاً أنّ الاستشراق الصهيوني يعمل على الترويج للرأي الذي يقول إنّ المسجد الأقصى ليس في القدس في فلسطين، وإنّما هو في الجعرانة في المملكة العربية السعودية، وذلك للقول إنّ المسجد الذي هو في القدس في فلسطين ليس قبلة المسلمين الأولى، وليس هو مسرى رسول الله (ص)، ولا تنطبق عليه كل تلك الفضائل التي ذكرتها النصوص الدينيّة الإسلاميّة للمسجد الأقصى. وعليه، ليس له تلك المكانة الدينيّة في التراث الإسلامي، ولا يجوز أن تكون له تلك الأهميّة في الوجدان الديني للمسلمين، ولا يصحّ -تالياً- من منطلق ديني، أن يُعطى ذاك الاهتمام لما يقوم به الاحتلال الإسرائيلي في المسجد الأقصى، بل ينبغي أن يُنظر إليه بطريقة مختلفة، وألّا يستوجب تلك الردود التي تحصل منهم. وهو ما تهدف إليه تلك الدعاية الصهيونيّة، أن تعمد إلى التأثير في الوعي الديني الإسلامي، وأن تُسهم في تشكيله، بما يساعد على تحقيق الأهداف الصهيونيّة في القدس، بل في فلسطين والمنطقة.
وفي هذا السياق، لا بدّ من تسجيل النقاط التالية:
أوّلاً: إنّ ما تقدّم، يستدعي مقاربة مختلفة، تتطلّب وعي الظروف القائمة، وعدم الانجرار إلى الترويج لأي رأي علمي -وبمعزل عن قيمته العلميّة- ما لم تُعرَف النتائج والآثار التي تترتّب عليه، وأين ينتهي مصبّه، ومن يستفيد منه أو لا يستفيد…
هنا من الأهميّة بمكان لأصحاب النوايا الحسنة الالتفات إلى جدوائيّة هذا النقاش، ومن يخدم في هذا التوقيت. إذ لن يكون من الحكمة بمكان الترويج لرأي يخدم الأهداف الصهيونيّة في القدس. وليس مقبولاً الإسهام في أيّ تنظير علمي تعود فائدته إلى الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.
ثانياً: قد لا تخلو قضية في التراث الإسلامي من تنوّع للآراء فيها، قد يصل في بعضها إلى مديات كبيرة؛ وهذه القضية واحدة منها، لكن إن كان السؤال الأساس هو عن الرّأي المُتبنّى -إسلاميّاً- من الكثير من المفسّرين والعلماء… فمن الواضح قولهم إنّ جغرافيا المسجد الأقصى هي في بيت المقدس في فلسطين، وليس في الجعرانة في المملكة العربية السعودية.
ووجود رأي آخر في الموضوع أو أكثر، لا ينتقص من قيمة هذا الرأي، وكونه الرأي المُتبنّى إسلاميّاً، ومجمل النتائج التي تترتّب عليه، بما فيها المكانة الدينيّة الكبيرة والمهمّة في التراث الإسلامي للمسجد الأقصى، وأيضاً في وعي المسلمين ووجدانهم الديني.
ثالثاً: بمعزل عن أي نقاش علميّ أو آخر، لا بدّ من القول إنّ المسجد الأقصى في بيت المقدس، قد تحوّل إلى عنوان للصراع مع الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، ومواجهة الظلم اللاحق بشعبها، والانتصار للحقّ الإنساني والقيمي والتاريخي والقانوني… لأصحاب الأرض، في قبال العدوان والعنصريّة والإفساد، وكل تلك المساعي لاستباحة الإنسان والمقدّسات. وعندما يكتسب المسجد الأقصى هذه الرمزية -وقد اكتسبها- لن يقلّل من رمزيته تلك، أي مسعى من قبل الاستشراق الصهيوني لبتره عن تلك المكانة الدينيّة التي يملكها في التراث الإسلامي، وتالياً في وعي المسلمين والعرب ووجدانهم الديني.
رابعاً: من باب الإلفات إلى ما ورد في القرآن الكريم حول المسجد الأقصى، وما قد يشكّل من دليل (أو قرينة)، على أن جغرافيا المسجد الأقصى هي بيت المقدس في فلسطين، وليس في الجعرانة في المملكة العربية السعودية؛ فقد وجدت من المجدي التعرّض لها بشيء من الاختصار.
لقد ورد تعبير «المسجد الأقصى» في القرآن الكريم لمرة واحدة في أوّل سورة الإسراء، في سياق الحديث عن الإسراء، وعن إفساد بني إسرائيل وعلوّهم، وما سوف يلقونه في الوعد الأوّل من قومٍ وَصَفَهُم القرآن الكريم بكونهم ﴿عِبَاداً لَنَا﴾، وما سوف يلقونه أيضاً في الوعد الثّاني ﴿وَعْدُ الآخِرَةِ﴾ من أولئك العباد.
وليس من الصحيح الاكتفاء، في إطار البحث عن جغرافيا المسجد الأقصى في القرآن الكريم، بما ورد في سياق الحديث عن الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، بل لا بدّ من توسعة البحث إلى ما ورد في سياق الحديث عن إفساد بني إسرائيل، وما سوف يلقونه في الوعدين الأوّل والثاني.
إنّ من يعاين الآيات الكريمة ذات الصّلة في أوّل سورة الإسراء، يلحظ أنّ تعبير «المسجد الأقصى» قد ذُكِرَ بدايةً وبشكلٍ صريح لدى الحديث عن الإسراء: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى﴾، ثم ذُكِرَ بعنوان «المسجد» لدى الحديث عن الوعد الآخرة: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا﴾، إذ من الواضح أنّ «الألف واللام» الداخلتين على (مسجد) في هذه الآية هما عهديّتان، والعهد هنا ذِكري، بمعنى أنّه بعد أن ذُكِرَ تعبير «المسجد الأقصى» في الآية الأولى، ذُكِرَ تعبير «المسجد» بعد آيات قليلة، ليكون المراد بـ«المسجد» في قوله تعالى: ﴿وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ﴾، هو ذاك المسجد الّذي ذكر آخراً في قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى﴾، وهو المسجد الأقصى.
ويبدو واضحاً هنا أنّ كلامه عن المسجد الأقصى بقوله «المسجد»؛ قد جاء في سياق الحديث عن إفساد بني إسرائيل في الأرض مرّتين، وما سوف يلقونه في كل من الوعدين الأوّل والثاني، حيث يصبح من السهل استنتاج ما يلي من محدّدات:
1- إنّ المسجد الأقصى يرتبط بالصراع مع بني إسرائيل، وخصوصاً في الوعد الثّاني (أو الصراع الثاني).
2- إنّ مسار الصراع بين بني إسرائيل وأولئك العباد، يتضمّن تعاقباً على المسجد الأقصى، حيث إنّ أولئك العباد يدخلون ذلك المسجد والجغرافيا المحيطة به، ثمّ يدخله بنو إسرائيل، ثمّ يعود أولئك العباد إلى دخوله مجدّداً في الوعد الثاني ﴿وَعْدُ الآخِرَةِ﴾.
3- إنّ الدخول الثاني إلى المسجد الأقصى مرتبط بنهاية العتوّ الإسرائيلي (بنو إسرائيل)، وتدمير علوّهم، وإذاقتهم هزيمة قاسية تفضي إلى إساءة وجوههم.
والسّؤال الذي يُطرَح هنا هو: هل تنطبق هذه المحدّدات التي وردت في القرآن الكريم على فرضيّة وجود المسجد الأقصى في الجعرانة في المملكة العربية السعودية، أم تنطبق على وجود المسجد الأقصى في بيت المقدس في فلسطين؟
أعتقد أنّ الجواب هو على قدر من الوضوح الذي يغنينا عن الذهاب بعيداً في التحليل؛ إنّ هذه المحدّدات لا تنطبق على فرضيّة الجعرانة، وإنّما تنطبق على (فرضيّة) وجود المسجد الأقصى في بيت المقدس في فلسطين، لأنّه المسجد الذي هو عنوان الصراع مع الإسرائيليين، وهو الذي حصل ذاك التعاقب في الدخول إليه بين بني إسرائيل وبين﴿عِبَادًا لَنَا﴾، وهو الذي يرتبط الدخول إليه والسيطرة عليه -وعلى الجغرافيا حوله- بنهاية عتوّ بني إسرائيل، وتتبير علوّهم، وإساءة وجوههم.
خامساً: بناءً على الرأي الذي يذهب إلى أنّ الوعد الثاني لم يحصل بعد، وأنّنا نعيش إرهاصاته ومقدّماته؛ قد يكون من المفيد الإلفات إلى ما كنت أميل إلى فهمه لدى قراءتي لآيات الوعدين الأوّل والثاني، حيث إنّه في الوعد الأوّل هناك دخول إلى المسجد الأقصى – وقد حصل على ما أعتقد -، وفي الوعد الثّاني – أيضاً – هناك دخول إلى المسجد الأقصى، لكن القرآن الكريم لم يذكر المسجد الأقصى في سياق حديثه عن الوعد الأوّل، وإنّما ذكره في سياق حديثه عن الوعد الثاني، حيث قال تعالى عن الوعد الأوّل: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولاً﴾، بينما نجد أنّه عندما يتحدّث عن الوعد الثاني، يقول: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا﴾. وهنا يُطرَح السؤال التالي: إنّ دخول «المسجد» قد حصل في الوعدين الأوّل والثاني؛ فلماذا لم يُذكَر في الأوّل، بينما ذُكِرَ في الثاني؟
والجواب أنّ هذه المفارقة كانت تشعرني بما يلي:
1- إنّ المسجد الأقصى سيكون في الوعد الثاني عنواناً أساسيّاً للصراع مع الكيان الإسرائيلي.
2- عندما نبدأ بتلمّس إرهاصات تحقّق العناوين التي ذُكِرَت في الوعد الثاني، بما فيها ما يرتبط بالمسجد الأقصى، وكونه عنواناً أساسيّاً للصراع مع الكيان الإسرائيلي؛ فقد تؤول إلى كونها قرائن على أنّ ما نعيشه اليوم في خضم هذا الصّراع، هو مقدّمات الوعد الثاني، حيث قد يصحّ أن نمارس نوع استشراف، يرتكز إلى قراءة الواقع من جهة، وتلمّس الإشارات القرآنية من جهة أخرى، ومفاده أنّه عندما تنضج ظروف الصّراع، ويبدأ مساره يتمحور أكثر حول المسجد الأقصى؛ فهو ما قد يؤشر إلى أنّنا نقترب أكثر من أي وقت مضى من الزمن، الذي يدخل فيه أولئك العباد ذلك المسجد، بل كل فلسطين.
3- بناءً على ما تقدّم، سنكون أقرب إلى الاعتقاد أنه لن تفلح كل المساعي الصّهيونية في إخماد قضية المسجد الأقصى في رمزيتها ودلالاتها. بل يمكن القول إنه عندما يوغل الاحتلال في جوره وتعدّياته في المسجد وما حوله، فهو ما يدعو إلى الإيمان بشكلٍ أشدّ أننا في تلك المرحلة التي سنعاين فيها ذلك الوعد، وما يتضمنّه من عناوين ومفاعيل، بما فيها دخول المسجد الأقصى في فلسطين والجغرافيا المحيطة به.
* أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية
المصدر: الاخبار اللبنانية